114- الأدلة الأربعة على حجية سيرة العقلاء في المقتضي والمانع والاستصحاب والتقليد...
الأثنين 21 ذي القعدة 1446هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(114)
بقي أمران:
الأوَّل: إنَّه ما هو وجهُ حُجِّيَّةِ السِّيرةِ العُقلائيَّة، حتَّى وإن سُلِّمَ تحقُّقُها في قاعدةِ الـمُقتضي والمانع مطلقًا أو في الجملة؟ وكذا الحال في الاستصحاب، بل وفي خبر الثِّقة، وقول أهل الخبرة والتَّقليد، لو استُدلَّ عليها بالسِّيرة العُقلائيَّة، ويتفرَّع عليه وجه حُجِّيَّتِها في لُزوم الفحص، بناءً على انعقادها عليه، كشرطٍ لجريان قواعد الاستصحاب والبراءة والـمُقتضي والمانع ونظائرها.
الثاني: إنَّه على فرض تسليم حُجِّيَّتِها، أَفَلا تَصلح إطلاقات {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}[1] للرَّدعِ عنها؟! وإطلاقات حديث الرَّفع «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ: ... وَمَا لَا يَعْلَمُونَ...»[2] لنفي اشتراط الفحص؟! وكذا إطلاقات «فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً»[3] لنفيه؟! فنقول:
وجوه حجية سيرة العقلاء
أمَّا الأوَّل: فإنَّ الوجوه المتصوَّرة في حُجِّيَّةِ سيرة العقلاء، وبنائهم، أربعة:
1- مرجعها إلى العقل وهو حجة
أوَّلًا: ما ذهبنا إليه من أنَّ وجهَ حُجِّيَّةِ بناءِ العقلاءِ بما هم عقلاء، هو العقل نفسه[4]، فإنَّه حُجَّةٌ دون شكّ؛ لكونه حُجَّةً من باطن، كما أنَّ الرُّسل حُجَّةٌ من ظاهر، ولذا كان حجة في مستقلاته وفي ملازماته.
وأمَّا وجه كون مرجع بناء العقلاء بما هم عقلاء هو العقل، فإنَّه يتَّضحُ بقيدِه، وهو (بما هم عقلاء)، أي لا بما هم شهوانيُّون، أو عدوانيُّون، أو حُسَّاد، أو مُتكبِّرون، أو مُعتادون على عادةٍ بسببِ كبيرٍ لهم، أو تَبانٍ وشبه ذلك.
وأمَّا كيف نعرفُ أنَّ بناءهم عليه إنَّما هو بما هُم عقلاء، فإنَّه يظهرُ جليًّا إذا وجدنا استقرار سيرتهم من كلِّ الأديان، والقوميَّات، والألوان، والمستويات، والكفاءات من مسلمٍ وكافر، وعربيٍّ وفارسيٍّ وتُركيٍّ وأفريقيٍّ... إلخ، ومن عالمٍ وجاهلٍ، وحضريٍّ وقرويٍّ، ورجلٍ وامرأةٍ، على أمرٍ؛ فإنَّه يكشف قطعًا عن أنَّ مَنشأَه ليس الدِّين، ولا القوميَّة، أو العِلمَ، أو الثَّروةَ... إلخ، ولا العادة، إذ يستحيل عادة انعقاد سيرة عامَّة تامَّة لكلِّ العقلاء، بما فيهم من علماء وجُهّالٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ و...، على أمرٍ واحد، جريًا على عادةٍ إلا ما رجع إلى حجة، إذ لا يخلو أن يكون سبب جريهم جميعًا: إمَّا العقل، أو الفِطرة، وكِلاهما حُجَّة، أو نبيٌّ من الأنبياء ترجع إليه البشريَّةُ كلُّها، كآدم ونوحٍ، فهو حُجَّةٌ أيضًا، أو سلطانٌ جائرٌ حَكمَ الكرةَ الأرضيَّةَ كلَّها، وأوجد عادةً (شهوةً مثلاً، لا أخذاً من نبي أو من مستقل عقلي)، وهو بعيدٌ جدًّا صُغرىً[5] وكُبرىً[6]، على أنَّه لو كان مخالفًا للعقل أو غير موافق له، أو مخالفًا للأنبياءِ، أو غير موافق لهم، لخالف جمعٌ من العقلاءِ مُعتدٌّ بهم، أو أرشد نبيّ أو أتباعه إلى عدم وجوبه.
فمرجع سيرة العقلاء بما هم عقلاء، هو العقل ظاهرًا، وإلّا فالفِطرة، أو آدم أو نوح (عليهما السلام).
وإذا رجعنا إلى مُفرَداتِ السِّير، وجدناها كذلك[7]، كجَريانِ سيرتِهم على تقليد الجاهل للعالِم، والرُّجوع إلى أهل الخِبرة، وحُجِّيَّةِ قول الثِّقة، إلّا ما خرج بالدَّليل والاستِصحاب إلّا ما خرج[8]، والـمُقتضي والمانع في الموارد التي ذكرناها.
كما جَرَت سيرتُهم على الفحص قبل إجراء أصل البراءة في الشبهة الموضوعية لكل ما احتمل كونه صغرى لحرام أو واجب بحسب دينِهم أو قوانينهم أو عاداتِهم... ، أو الـمُقتضي والمانع.
لا يقال: قد يحكم العقل ظناً؟
إذ يقال: أولاً: مشهور الفلاسفة والمناطقة أن أحكامه قطعية دوماً ولا يحكم ظناً أبداً، لأنه لا يحكم إلا بعد إحراز كل الجهات.
ثانياً: سلّمنا، لكنّ حكمه الظني إن صار منشأً لسيرة عامة تامة، على أنه بعيد، فحجيته منوطة بالمبنى في حجية حكم العقل الظني نفسه.
وقد مضى تمام تحقيق هذا الوجه والإجابة على الإشكالات عليه في بحث سابق.
2- السيرة في علاقات الموالي
ثانيًا: دعوى أنَّ جريان السِّيرة فيما جرت عليه، حُجَّةٌ، فيما كانت سيرة جارية في علاقات الموالي بالعبيد (أيَّ مولًى فَرَضَهُ العقلاءُ، وأيَّ عبدٍ أو مأمورٍ فَرَضُوه: من رسولٍ وإمامٍ، أو حكومةٍ يَرَون وِلايتَها، أو فقيهٍ في الدائرة الأوسع من الولاية، أو الأضيق في شؤون الحِسبة، أو رئيسٍ ومرؤوس، وأبٍ وابن... إلخ).
وفرقُ سيرةِ العقلاءِ بما هم عقلاء، عن هذه السيرة، أنَّها أخصُّ مُطلقًا؛ إذ قد تكون سيرةٌ للعقلاءِ في غير دائرة علاقة المولى بعبده، كما في السيرة على حُجِّيَّةِ خبر الثقة، وقول الخبير حتى من غير المولى أو في غير دائرة الأحكام الوِلائيَّة، كإجراء الاستصحاب في بعض الأمور التكوينيَّة أو الاعتباريَّة[9]، غير المولويَّة، أو حُجِّيَّةِ قوله في التاريخ والفلك... إلخ.
ووجه حُجِّيَّة هذه السِّيرة، هو (الانطباق)، من غير حاجةٍ إلى إثبات الملازمة بين جريان سيرة العقلاء، وجريان سيرة المتشرِّعة، كي يكون القول بحُجِّيَّتِها موقوفاً على الإمضاء، ولو بعدم الرَّدع.
ونَعني بالانطباق: أنَّه لو ثبت أنَّ هذه هي سيرة الموالي والعبيد، فإنَّ الشَّارع هو سيد الموالي، فهو أظهر المصاديق، فإذا كانت سيرة مولى الموالي وعبيده على أمرٍ، لَمَا احتجنا في حُجِّيَّتِه إلى أمر الإمضاء ولو بعدم الرَّدع، ما دامت سيرة المولى نفسه.
ولكن، قد يُعترَض بأنَّ للمولى أن لا يمشي على هذه السِّيرة بأن يقيدها بقيود، أو أن يردع عنها أو يوسع فيها؟.
وفيه: إنَّ ذلك وإن صحَّ، إلَّا أنَّه لا ينفي أنَّه ما لم يصل منه ردع أو قيد أو توسعة، فالظَّاهر جريانُه عليها...
وبعبارةٍ أخرى: إنَّ عدم تصريحه بأي من الثلاثة، إغراءٌ بالجهل، كما أنَّه يهدد أغراضه الملزمة.
3- الملازمة بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة
ثالثًا: سَلَّمنا، لكن قد تُدَّعَى الملازمةُ بين جريان سيرة العقلاء على أمر وجريان سيرة المتشرِّعة عليه، وسيرة المتشرِّعة حُجَّةٌ إمَّا لأنَّها نشأت من الشَّارع، لو تجرَّدت عن سيرة العقلاء، واختصَّت بهم، وإمَّا لأنَّ الشَّارع أمضاها، ولو بعدم الرَّدع، إذ إنَّ سيرة المتشرِّعة في الشُّؤون الشَّرعيَّة، لو لم تكن مقبولةً له، لوجب أن يردع، وإلَّا أغرى بالجهل، وفَوَّتَ أغراضَه الملزمة، ومن هنا، فإنَّ تقرير المعصوم (عليه السَّلام) حُجَّة، وسكوته إمضاءٌ.
لا يُقال: لعلَّها كانت تقيَّة؟
إذ يُقال: التقيَّةُ مُحتملةٌ في موردٍ، أو اثنين، أو عشرة، أو حتّى ألف، ولكنَّها غير مُحتملةٍ في السيرة العامَّة المستغرقة لزمان المعصومين (عليهم السلام) كلِّهم، بل حتّى السيرة في زمن أحد الباقرين (عليهما السلام)، لبداهة أنَّه كانت في زمنهما فترات تَراخٍ أمنيٍّ مُمتدَّة، وكانت لهما (عليهما السَّلام) الحريَّة الكبيرة جدًّا في سنين متعددة أواخر الأمويين وأوائل العباسيين.
وأمَّا وجه الملازمة، فهو أمران:
أحدُهما: اقتضاء طبع الإنسان، (أنَّه إذا كانت سيرتُه في جميع حياته على اتِّباع قول الثقة، فإنَّه إذا بلغه عن إمامه عبر زرارة مثلاً خبر أو أمر ونهي، جرى على تلك السيرة بطبعه، إلَّا أن يبلغه ردع)، فذلك من دائرة الحدس اليقيني.
ثانيهما: إنَّه لو كانت السيرة المتشرِّعيَّة في موارد السيرة العقَلائيَّة، على خِلافِها، لَبَان؛ إذ تكثر دواعي النَّقل حينئذٍ، لكونه أمرًا مهمًّا، شديد الابتلاء، ملفتاً للأنظار، كما نقلوا أوامر ونواهي النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، أو أحكامه، أو أخباره المخالفة لبعض سيرهم، كالتزوُّج من زوجة الابن بالتَّبنِّي بعد طلاقها... إلخ.
4- السيرة العقلائية في معرض السراية، فعدم الردع إمضاء
رابعًا: سَلَّمْنا، لكن لا شَكَّ في أنَّ السير العقَلائيَّة في معرض السَّراية إلى المتشرِّعة، وإن قُلنا بأنَّه لا دليل على السَّراية فعلًا، كما أشكل به الكفاية، وإذا كانت في معرض السَّراية، ولم يرتضها الشَّرع، وجب عليه البيان والرَّدع، وإلَّا كان خِلاف الحِكمة، وتفريطًا في أغراضه الملزمة، وإغراءً بالجهل.
بل نقول: لو كانت السِّيرةُ عقلائيَّةً بالفعل، لَما كفَت الإطلاقات في الرَّدع عنها، بل وجب التَّنصيص على الرَّدع، كما فعل الشَّارع بالنسبة إلى القياس، وسيأتي هذا ضمن الجواب عن إشكال صلاحيَّة الإطلاقات للرَّادعيَّة.
والحاصل: إنَّ سيرة العقلاء في المالِيّات، ومنها الدُّيون، والمسافات، ونظائرُها، جرت على الفحص قبل إجراء البراءة، وقبل إجراء قاعدة المقتضي والمانع، بل على الفحص قبل إجراءِ الاستصحاب، إلّا ما اطمأنوا ببقائه أو كان أمرُهم فيه على التَّوسعة الشديدة، لعدم أهميَّتِه، أو لترجيح جانب التَّيسير، كما فعل الشارع، وفعلوا ولو في الجملة، (ومع بعض التوسعةِ الشَّارعيَّة الأكثر)، في قاعدة السُّوق، واليَد، وأصالة الصِّحَّة، وأنواع الاستصحاب الموضوعي غير المهم لديهم أمره. وللبحث تتمَّةٌ، بإذن الله تعالى.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُهُ، وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَمُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ لَا يُقْرَأُ فِيهِ» الكافي: ج2 ص613.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[4] وقد يكون منشؤه الفطرة أو نبي من الأنبياء أو... كما أشار إليه المحقق النائيني على تفصيل نقلناه عنه سابقاً وناقشنا بعض كلامه.
[6] إذ يبعد جداً قدرة حاكم جائر على إيجاد عادة لكل البشر مهما أوتي من قوة، إلا أن تكون مطابقة للعقل أو الفطرة.
الأثنين 21 ذي القعدة 1446هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |