بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(594)
فقه حديث ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([1])
قال الشيخ ((قدس سره)): (ويمكن أن يستأنس له أيضاً بما ورد في الأخبار المستفيضة من أن عمد الصبي وخطأه واحد كما في صحيحة ابن مسلم وغيرها، والأصحاب وإن ذكروها في باب الجنايات إلا أنه لا إشعار في نفس الصحيحة بل وغيرها بالاختصاص بالجنايات ولذا تمسك بها الشيخ في المبسوط والحلي في السرائر على أن إخلال الصبي المحرم بمحظورات الإحرام التي يختص حرمتها بحال التعمد لا يوجب كفارة على الصبي ولا على الولي لأن عمده خطأ)([2]).
طوائف الروايات في عمد الصبي خطأ
وقد مضى الإستدلال بحديث الرفع ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ))([3]) وبقي الإستدلال بسائر الروايات، فنقول: إن الروايات التي ورد فيها تنزيل عمد الصبي بمنزلة الخطأ على طوائف ثلاث فمنها ما اقتصر فيه على مطلب واحد ومنها ما ذكر فيها مطلبان ومنها ما ذكرت فيه مطالب ثلاثة:
الطائفة الأولى: ما ذكر فيه مطلب واحد، وهي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([4]) وهي صحيحة لصحة إسناد الشيخ ((قدس سره)) إلى ابن أبي عمير.
الطائفة الثانية: ما ذكر فيه مطلبان، وهي أربع روايات وهي:
أ- ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر ((عليه السلام)) عن أبيه ((عليه السلام)): ((أَنَّ عَلِيّاً ((عليه السلام)) كَانَ يَقُولُ: عَمْدُ الصِّبْيَانِ خَطَأٌ (يُحْمَلُ عَلَى) الْعَاقِلَةِ))([5]) وهي معتبرة إذ ليس فيها ما يضعفها إلا غياث بن كلوب وهو عامي، ولكن الشيخ الطوسي صرح في (عدة الأصول) بكونه عامياً ثقة عملت الطائفة برواياته([6]).
ب- راية المستدرك: عن علي ((عليه السلام)): ((لَيْسَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ قِصَاصٌ عَمْدُهُمْ خَطَأٌ يَكُونُ فِيهِ الْعَقْلُ))([7]) وفيها موسى بن إسماعيل وهو مجهول.
ج- رواية المستدرك نقلاً عن دعائم الإسلام عن علي ((عليه السلام)) أنَّه قال: ((مَا قَتَلَ الْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَ الصَّبِيُّ فَعَمْدُهُمَا خَطَأٌ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا))([8]).
د- رواية المستدرك عن أبي جعفر ((عليه السلام)) إنّه قال: ((وَمَا جَنَى الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا))([9]).
وهي كما ترى تتضمن مطلبين ((عَمْدُ الصِّبْيَانِ خَطَأٌ)) و((يُحْمَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ)) أو نظيرها.
الطائفة الثالثة: ما ذكرت فيه ثلاث مطالب، وهي رواية أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي ((عليه السلام)): ((أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يُفِيقُ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، عَمْدُهُمَا خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمَا الْقَلَمُ))([10]).
وكما ترى فإن فيها مطالب ثلاثة وهي: ((عَمْدُهُمَا خَطَأٌ)) ((تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ)) ((وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمَا الْقَلَمُ)).
وسيأتي الكلام عن المطلب الثالث وأنه يقيده ما قبله أو لا، وعن المطلب الثاني وأنه يقيد ما قبله أو لا.
فقه مفردة ((عَمْدُ))
وفي لفظة (عمد وخطأ) مباحث:
منها: هل أنّ العمد والقصد مترادفان؟ أو متساويان؟ أو لا شيء منهما؟ وكذا الخطأ في نسبته مع عدم القصد، وتحقيق ذلك في غاية الأهمية في فقه الحديث، وذلك لأن ههنا قضيتين:
قضيتان: عمدُهُ خطأٌ أو قصده كلا قصد؟
الأولى: ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([11]) والثانية هي (قصد الصبي كلا قصد)([12]) والثاني هو الذي ينفعنا بصراحته إذ لو وردت الرواية بهذه اللفظة لأفادت بطلان معاملاته، وهو مورد البحث ههنا لأن (العقود تتبع القصود) وبدون القصد لا يتحقق الإنشاء فلو كان قصده كلا قصد لم تتحقق معاملاته قهراً، وأما الأول (عمد الصبي خطأ، أو كلا عمد) فإنه لا ينفع إلا لو ثبت ترادفه مع الجملة الثانية أو مساواته معها بأن يكون معناها معناها أو بان يكون العمد مساوياً للقصد.
قال في هدى الطالب (و التعبير بالإستيناس- دون الدلالة التي عبّر عنها المصنف في حديث رفع القلم وعدم جواز الأمر- لأجل أنّ استظهار سلب الإعتبار عن عبارة الصبي من هذه الطائفة لا يخلو من شيء، لتطرق احتمال ظهورها في رفع خصوص الأحكام المترتبة على عنوان العمد، وذلك بقرينة مقابلته للخطأ، يعني: أنّ الأحكام المترتبة على عنوان العمد ترفع عن عمد الصبي، وأنّ عمده موضوع لحكم الخطأ المترتب على الفعل الصادر خطأ من البالغ.
وعليه ففرق بين أن يقال: «قصد الصبي كلا قصد» وبين «عمد الصبي محكوم بحكم خطأ البالغ» والمجدي في المقام هو المفاد الأوّل، مع أنه يحتمل إرادة الثاني)([13]).
لكنّ التحقيق اختلافهما مفهوماً وعدم مساواتهما مصداقاً، وتحقيق ذلك يتوقف على تحقيق مقومات مفهوم العمد:
المقومات الأربع للعمد وفوارقه الثلاث عن القصد
قال السيد الوالد ((قدس سره)): (أقول: (العمد) ما يجتمع فيه الإختيار في قبال الإكراه، والقصد في قبال عدمه كما إذا رمى الطائر فأصاب الإنسان، والإصابة وإلا كان من السالبة بانتفاء الموضوع، والعلم فإذا لم يكن أو نسى بعد كونه لم يسمّ به)([14]).
وتوضيحه وتنقيحه مع ربطه بتحقيق الفرق بين الجملتين:
أ- (العمد ما يجتمع فيه الإختيار في قبال الإكراه) فإنه لو كان مكرهاً على بيع داره، فإنه يصح أن يقول: (أُكرِهتُ على بيع داري)، كما يقول: (قصدت بيع داري) لأنه لم يكن هازلاً أو غافلاً مثلاً بل قاصداً مكرهاً، ولا يصح أن يقول: (تعمدت بيع داري) ويقول: (بعت داري مكرهاً) ولا يقول: (بعت داري متعمداً).
بعبارة أخرى: يصح حمل القصد وقاصداً على بيعه داره ولا يصح حمل العمد وعامداً، بل يصح سلبهما عنه، فذلك كله ما ندركه بالوجدان وبصحة الحمل وعدم صحة السلب كما سبق، وسيأتي غداً تنقيحه بما يوضحه أكثر.
ب- (والقصد في قبال عدمه، كما إذا رمى الطائر فأصاب الإنسان) أقول: ههنا أربع قضايا، بها يتضح الفرق بين العمد والقصد:
1- لا يقال: تعمّد رمي الطائر، فإنه من السالبة بانتفاء الموضوع.
2- كما لا يقال: تعمد رمي زيد، إذ أنه حسب الفرض وبالوجدان لم يتعمد رميه.
ويجب التنبه إلى أن صحة السلب إنما هي عن إطلاق العمد على مجموع المضاف والمضاف إليه، إذ لو اقتصر على المضاف فقط لما صح السلب لفرض كونه قد (تعمد الرمي) إلا أن الكلام في (تعمد رمي الإنسان، وتعمد رمي الطائر).
3- ويقال: قصد رمي الطائر، فإنه مسلّم دون شك.
4- ولا يقال: قصد رمي زيد، إذ لم يقصده.
فبذلك اتضح انفكاك العمد عن القصد.
ج- وقال: (والإصابة؛ وإلا كان من السالبة بانتفاء الموضوع) فمثلاً: إذا قصد السفر إلى مكة وأعدّ العدة والراحلة وغير ذلك لكنه منعه مانع، فيصح أن يقول (قصدت السفر إلى مكة) ولا يصح قوله (تعمدت السفر إلى مكة) مادام لم يتحقق ذلك أي لم يُصِب بفعله مقصوَده، وكذلك لو قصد إصلاح ما بين المتنازعين وسعى لكنّه لم يوفق، فإنه يصح أن يقول: (قصدت الإصلاح بينهما) ولا يصح أن يقول: (تعمدت الإصلاح بينهما).
د- وقال: (والعلم فإذا لم يكن أو نسى بعد كونه، لم يسمّ به) فمثلاً: إذا أفطر في أول شهر رمضان جاهلاً أنه شهر رمضان أو ناسياً فلا يقال: (تعمدت الإفطار في رمضان) كما لا يقال: (قصدت الإفطار فيه) فالعلم ليس فارقاً بين العمد والقصد، إذ بدون العلم لا قصد ولا عمد، لكنّ سوابقَهُ فوارقٌ([15]).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم ((عليه السلام)): ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ مَطْوِيَّةً مُبْهَمَةً عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِنَارَةَ مَا فِيهَا نَضَحَهَا بِالْحِكْمَةِ وَزَرَعَهَا بِالْعِلْمِ وَزَارِعُهَا وَالْقَيِّمُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الكافي: ج2 ص421)
------------------------------
([1]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، المكاسب، دار الذخائر ـ قم، ج1 ص435-436.
([3]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج1 ص94، وص175، الإرشاد للشيخ المفيد، ج1 ص203.
([4]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([5]) وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب العاقلة، ح3.
([6]) قال في عدة الأصول: (ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث ابن كلوب، ونوح بن دراج، والسكونى، وغيرهم من العامة عن ائمتنا عليهم السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.) ج1 ص149-150.
([7]) المستدرك: الباب 33 أبواب القصاص.
([8]) المصدر.
([9]) المصدر.
([10]) وسائل الشيعة: الباب 36 من أبواب القصاص.
([11]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([12]) أو قصده ولا قصده واحد.
([13]) السيد محمد جعفر المروّج الجزائري، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، مؤسسة دار الكتاب، ج4 ص37-38.
([14]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / البيع، ج3 ص47.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(594)
الطائفة الأولى: ما ذكر فيه مطلب واحد، وهي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((عَمْدُ الصَّبِيِّ وَخَطَأُهُ وَاحِدٌ))([4]) وهي صحيحة لصحة إسناد الشيخ ((قدس سره)) إلى ابن أبي عمير.
الطائفة الثانية: ما ذكر فيه مطلبان، وهي أربع روايات وهي:
أ- ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر ((عليه السلام)) عن أبيه ((عليه السلام)): ((أَنَّ عَلِيّاً ((عليه السلام)) كَانَ يَقُولُ: عَمْدُ الصِّبْيَانِ خَطَأٌ (يُحْمَلُ عَلَى) الْعَاقِلَةِ))([5]) وهي معتبرة إذ ليس فيها ما يضعفها إلا غياث بن كلوب وهو عامي، ولكن الشيخ الطوسي صرح في (عدة الأصول) بكونه عامياً ثقة عملت الطائفة برواياته([6]).
ب- راية المستدرك: عن علي ((عليه السلام)): ((لَيْسَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ قِصَاصٌ عَمْدُهُمْ خَطَأٌ يَكُونُ فِيهِ الْعَقْلُ))([7]) وفيها موسى بن إسماعيل وهو مجهول.
ج- رواية المستدرك نقلاً عن دعائم الإسلام عن علي ((عليه السلام)) أنَّه قال: ((مَا قَتَلَ الْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَ الصَّبِيُّ فَعَمْدُهُمَا خَطَأٌ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا))([8]).
د- رواية المستدرك عن أبي جعفر ((عليه السلام)) إنّه قال: ((وَمَا جَنَى الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا))([9]).
وهي كما ترى تتضمن مطلبين ((عَمْدُ الصِّبْيَانِ خَطَأٌ)) و((يُحْمَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ)) أو نظيرها.
الطائفة الثالثة: ما ذكرت فيه ثلاث مطالب، وهي رواية أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي ((عليه السلام)): ((أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يُفِيقُ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، عَمْدُهُمَا خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمَا الْقَلَمُ))([10]).
وكما ترى فإن فيها مطالب ثلاثة وهي: ((عَمْدُهُمَا خَطَأٌ)) ((تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ)) ((وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمَا الْقَلَمُ)).
وسيأتي الكلام عن المطلب الثالث وأنه يقيده ما قبله أو لا، وعن المطلب الثاني وأنه يقيد ما قبله أو لا.
منها: هل أنّ العمد والقصد مترادفان؟ أو متساويان؟ أو لا شيء منهما؟ وكذا الخطأ في نسبته مع عدم القصد، وتحقيق ذلك في غاية الأهمية في فقه الحديث، وذلك لأن ههنا قضيتين:
قال في هدى الطالب (و التعبير بالإستيناس- دون الدلالة التي عبّر عنها المصنف في حديث رفع القلم وعدم جواز الأمر- لأجل أنّ استظهار سلب الإعتبار عن عبارة الصبي من هذه الطائفة لا يخلو من شيء، لتطرق احتمال ظهورها في رفع خصوص الأحكام المترتبة على عنوان العمد، وذلك بقرينة مقابلته للخطأ، يعني: أنّ الأحكام المترتبة على عنوان العمد ترفع عن عمد الصبي، وأنّ عمده موضوع لحكم الخطأ المترتب على الفعل الصادر خطأ من البالغ.
وعليه ففرق بين أن يقال: «قصد الصبي كلا قصد» وبين «عمد الصبي محكوم بحكم خطأ البالغ» والمجدي في المقام هو المفاد الأوّل، مع أنه يحتمل إرادة الثاني)([13]).
لكنّ التحقيق اختلافهما مفهوماً وعدم مساواتهما مصداقاً، وتحقيق ذلك يتوقف على تحقيق مقومات مفهوم العمد:
وتوضيحه وتنقيحه مع ربطه بتحقيق الفرق بين الجملتين:
أ- (العمد ما يجتمع فيه الإختيار في قبال الإكراه) فإنه لو كان مكرهاً على بيع داره، فإنه يصح أن يقول: (أُكرِهتُ على بيع داري)، كما يقول: (قصدت بيع داري) لأنه لم يكن هازلاً أو غافلاً مثلاً بل قاصداً مكرهاً، ولا يصح أن يقول: (تعمدت بيع داري) ويقول: (بعت داري مكرهاً) ولا يقول: (بعت داري متعمداً).
بعبارة أخرى: يصح حمل القصد وقاصداً على بيعه داره ولا يصح حمل العمد وعامداً، بل يصح سلبهما عنه، فذلك كله ما ندركه بالوجدان وبصحة الحمل وعدم صحة السلب كما سبق، وسيأتي غداً تنقيحه بما يوضحه أكثر.
ب- (والقصد في قبال عدمه، كما إذا رمى الطائر فأصاب الإنسان) أقول: ههنا أربع قضايا، بها يتضح الفرق بين العمد والقصد:
1- لا يقال: تعمّد رمي الطائر، فإنه من السالبة بانتفاء الموضوع.
2- كما لا يقال: تعمد رمي زيد، إذ أنه حسب الفرض وبالوجدان لم يتعمد رميه.
ويجب التنبه إلى أن صحة السلب إنما هي عن إطلاق العمد على مجموع المضاف والمضاف إليه، إذ لو اقتصر على المضاف فقط لما صح السلب لفرض كونه قد (تعمد الرمي) إلا أن الكلام في (تعمد رمي الإنسان، وتعمد رمي الطائر).
3- ويقال: قصد رمي الطائر، فإنه مسلّم دون شك.
4- ولا يقال: قصد رمي زيد، إذ لم يقصده.
فبذلك اتضح انفكاك العمد عن القصد.
ج- وقال: (والإصابة؛ وإلا كان من السالبة بانتفاء الموضوع) فمثلاً: إذا قصد السفر إلى مكة وأعدّ العدة والراحلة وغير ذلك لكنه منعه مانع، فيصح أن يقول (قصدت السفر إلى مكة) ولا يصح قوله (تعمدت السفر إلى مكة) مادام لم يتحقق ذلك أي لم يُصِب بفعله مقصوَده، وكذلك لو قصد إصلاح ما بين المتنازعين وسعى لكنّه لم يوفق، فإنه يصح أن يقول: (قصدت الإصلاح بينهما) ولا يصح أن يقول: (تعمدت الإصلاح بينهما).
د- وقال: (والعلم فإذا لم يكن أو نسى بعد كونه، لم يسمّ به) فمثلاً: إذا أفطر في أول شهر رمضان جاهلاً أنه شهر رمضان أو ناسياً فلا يقال: (تعمدت الإفطار في رمضان) كما لا يقال: (قصدت الإفطار فيه) فالعلم ليس فارقاً بين العمد والقصد، إذ بدون العلم لا قصد ولا عمد، لكنّ سوابقَهُ فوارقٌ([15]).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم ((عليه السلام)): ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ مَطْوِيَّةً مُبْهَمَةً عَلَى الْإِيمَانِ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِنَارَةَ مَا فِيهَا نَضَحَهَا بِالْحِكْمَةِ وَزَرَعَهَا بِالْعِلْمِ وَزَارِعُهَا وَالْقَيِّمُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الكافي: ج2 ص421)
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، المكاسب، دار الذخائر ـ قم، ج1 ص435-436.
([3]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج1 ص94، وص175، الإرشاد للشيخ المفيد، ج1 ص203.
([4]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([5]) وسائل الشيعة: الباب 11 من أبواب العاقلة، ح3.
([6]) قال في عدة الأصول: (ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث ابن كلوب، ونوح بن دراج، والسكونى، وغيرهم من العامة عن ائمتنا عليهم السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.) ج1 ص149-150.
([7]) المستدرك: الباب 33 أبواب القصاص.
([8]) المصدر.
([9]) المصدر.
([10]) وسائل الشيعة: الباب 36 من أبواب القصاص.
([11]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج10 ص233.
([12]) أو قصده ولا قصده واحد.
([13]) السيد محمد جعفر المروّج الجزائري، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، مؤسسة دار الكتاب، ج4 ص37-38.
([14]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / البيع، ج3 ص47.