179- مناقشة كلام الشيخ ( فإن الانظار تختلف في التحسين والتقبيح ) من حيث كونها كذباً أو لا ...
الاحد 2 ربيع الثاني 1435هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان الكلام حول مسألة نسبية الكذب او انتسابيته، وبينا ان المغالطة بأنواعها هي من أنواع الكذب، وسنذكر مرة اخرى عبارة الشيخ الانصاري كيما نطبق هذه المباحث عمليا عليها ونضيف لها إضافات أساسية، حيث سنتوقف عندها ونناقشها ونبين بعض التقيدات التي لابد منها لكلامه،
الشيخ: الانظار تختلف في التحسين والتقبيح
فقد قال الشيخ في مكاسبه:
"وربما تدخل المبالغة في الكذب اذا كانت في غير محلها كما لو مدح انسانا قبيح المنظر وشبهه وجهه بالقمر إلا اذا بني على كونه كذلك في نظر المادح فان الانظار تختلف في التحسين والتقبيح كالذواق في المطعومات " انتهى
وعليه: فربما يرى شخص فردا جميلا، إلا ان الآخر يراه قبيحا فكلاهما صادق في خبره بجماله وقبحه نظراً لاختلاف الانظار بينهم، والحال كذلك جار في الالوان والالبسة والديكورات وغيرها؛ فان الاذواق تختلف فيها سلبا وايجابا
اذن: لعله يفهم من كلام الشيخ ان النسبية في الكذب جارية في الامور الجمالية والذوقية من مطعومات ومذوقات وملموسات ومرئيات – اي ما يتعلق بالحواس الخمسة بعمومها - وغيرها.
مناقشة كلام الشيخ:
وتوضيحاً لكلام الشيخ من جهة وتقييداً له من جهة أخرى، ومناقشةً معه من جهة ثالثة لا بد من ذكر أمور ثلاثة تتضمن إشكالات ثلاثة:
الامر الاول: الاخبار المقيد بـ(في نظره) هو اخباران احدهما كذب
اما الامر الاول الذي نناقش فيه كلام الشيخ فهو:
ان الام مثلاً عندما تقول ان طفلها جميل وانه كالقمر أو انه القمر بنظرها فلابد من تحليل ذلك والوقوف على ماهية خبرها؛ فان التدقيق يقودنا إلى هناك في خبر الأم هذا اخباران لا خبر واحد، أما الاخبار الاول فهو اخبار عن الرأي والنظر، واما الاخبار الثاني فهو اخبار عن الواقع ، فالأم عندما تقول ان ولدها جميل بنظرها فان مرادها ليس صرف الاخبار عما في ذهنها واعتقادها فقط وفقط وبقطع النظر عن الواقع الخارجي، بل ان مرادها ان ولدها جميل بنظرها، وان هذا القول منها مرآة للخارج والواقع، اي انه كذلك – أي جميل – في الواقع.
اذن: هنا اخباران وان كانت العبارة واحدة، فقولها (بنظري) يستبطن ان نظرها هو بنحو المرآتية والطريقية الى الخارج أيضاً، وهنا يصح وصفه بالكذب إن لم يكن كذلك([1])
ومن هنا تظهر الاجابة عمن يقول ان الدور ليس بمحال في نظره وان هذا هو رأيه فنرد عليه بان قولك هذا متضمن لخبرين في الواقع، الاول انه يعبر عن اعتقادك ونظرك وقد تكون صادقاً فيه، أي ان نظرك هو ذلك بالفعل، لكن هذا الخبر هو طريق الى الخبر الثاني وهو كون ذلك الرأي والنظر عاكساً للخارج، اي انك تدعي ان نظرك هو مرأة للخارج وهذا هو الكذب ([2]) .
اذن: الايهام والمغالطة نشأت من ايهام لبس المرآتية بالاستقلاية او ايهام لبس الحكاية عن الخارج بالحكاية عن الذهن وهذا هو موطن الاشكال والكذب .
وفي مورد بحثنا فان كلام الشيخ يرد عليه ان استثناءه ليس على إطلاقه إذ حتى لو بني على كونه كذلك في نظر المادح إلا ان مدحه يتضمن اخبارين: الخبر عن نظره الشخصي فهذا يصح استثناءه، والخبر عن ان هذا الرأي مطابق للواقع وهذا لا يصح استثناءه فانه كذب([3]).
ومن خلال هذا البيان يظهر دفع الكثير من المغالطات التي يتمسك بها اهل الباطل والكذب محتجين بكون ما يذكرونه هو ما وصل اليه نظرهم ومتسلحين بذلك كي لا يشكل عليهم بما يرد على حاقّ القضية بما هي هي وكذلك يظهر وجه دفع ما ذكره النسبيون في بعض مدارسهم حول صوابية كل الآراء المتعاكسة([4]) وذلك انه لو اريد من صوابيتها هو الاخبار عن ما في الذهن فقط لكان الامر هينا ولم يكن مهماً أبداً ولكن هذا ليس بساحة النقاش والمعترك الفكري بين العلماء، انما الخلاف: ان ما في الذهن هل هو مرآة وحاكي عن الخارج؟ او انه متوهم الحاكوية وانه مخطئ في ذلك؟
الامر الثاني: لابد من تقييد كلامه قدس سره بذكر القرينة
اما الامر الثاني الذي نناقش به كلام الشيخ فهو:
اننا نبني على ما ذكر من الانتسابية في المقام وان المتكلم يحكي عما يعتمل ويرتكز في نفسه واعتقاده، وانه حيث كان الامر كذلك فحكايته صادقة، إلا اننا نقول ان كونها صادقة مشروط بذكر القرينة؛ اذ ان ظاهر الإخبار والأخبار هو انها عن الخارج، ومعه فلو قطع النظر عن ذلك وحصر الأخبار بالاخبار عما في الذهن فلابد من ذكر القرينة على ذلك ليكون الكلام صدق والا([5]) فكذب.
والحاصل: الظهور اللفظي الاولي منعقد للخبر في حكايته عن الخارج، فإرادة غيره دون قرينة كذب، وهذا هو التقييد الثاني لكلام الشيخ.
الامر الثالث: للحسن والقبح معان عديدة وعلى بعضها الكذب مطلق
واما الامر الثالث فنقول فيه:
انه لابد من تحليل معاني التحسين والتقبيح وتحديد المراد منها؛ فان هذين اللفظين يطلقان على عدد من المعاني([6])، ومن هنا ينفتح باب كبير للمغالطة يسمى بمغالطة الاشتراك اللفظي – بالمعنى الاعم – كمن يقول انه قد رأى عينا وقد رأى جارية يريد ان يغالط الاخر فيصور له انه قد رأى جاسوسا([7]).
الاحتمالات الستة في معنى الحسن والقبح:
ونذكر اجمالا الاحتمالات في معنى الحسن والقبح، فقد ذكر المشهور ثلاثة احتمالات ومعاني، وقد اضفنا لها ثلاثة اخرى فتكون ستة:
المعنى الاول: الحسن والقبح المراد بهما الكمال والنقص
اما المعنى الاول لهما فهو الكمال والنقص, كما في العلم والجهل فان العلم حسن أي هو كمال، والجهل قبيح أي هو نقص.
وعلى هذا المعنى: فان الشخص لو قال هذا حسن أو جميل وكان قصده انه كامل، فهذا الامر ثبوتي لا يختلف باختلاف الانظار ولا مجال للنسبية او الانتسابية فيه ولا تشفع كلمة (بنظري) لتصحيحه.
المعنى الثاني: الملائمة والمنافرة للطبع أو للعقل او الروح او الجسد
واما المعنى الثاني لهما فهو ملائمة الطبع – او العقل او الروح او الجسد – او منافرته له، ويجري ما ذكره الشيخ في خصوص الملائمة للطبع أو الجسد فان الطباع والأجساد تختلف – فان بعض الناس أذية الغير او النفس تلائم طبعه بخلاف البعض الاخر، وهذا جميل أي يلائم طبعي وذوقي..
ومعه: لو قصد بالحسن والقبح الملائمة والمنافرة للجسد أو الطبع فهنا مدار قضية الانتسابية الا ان هذا الامر هو بلحاظ وضع كل انسان – بشخصه وطبعه - لا كل الناس حتى يكون مرآة للناس بما هم هم واما لو قصد الملائمة للعقل أو الروح فلا نسبية ولا انتسابية هنا لوحدة ما يلائم العقل المجرد عن شوب الأهواء وغيرها، وما يلائم الروح.
المعنى الثالث: الحسن والقبح: ما يستحق مدح العقلاء او ذمهم
واما المعنى الثالث لهما فهو ان ما يستحق مدح العقلاء فحسن وإلا فقبيح، فالمقياس هو العقلاء، وعليه فلا اختلاف للحسن والقبح باختلاف الانظار فلا انتسابية في المقام.
المعنى الرابع: مطابقة الشيء لما ينبغي ان يكون عليه
واما المعنى الرابع للحسن والقبح فهو مطابقة الشيء لما ينبغي ان يكون عليه فلو طابقه فحسن وإلا فقبيح ومثاله هو ان للإنسان عينين فيوصف بجميل لذلك لأنه ما ينبغي ان يكون عليه, ولو كانت له عين ثالثة له فهو قبيح بهذا المعنى، وكذا الحال لو كان للإنسان فرضاً منقار فانه قبيح أي لم يطابق حاله ما ينبغي ان يكون عليه، وهذا المعنى ايضا لا مجال للنسبية او الانتسابية فيه؛ لان مطابقة الشيء لما يجب ان يكون عليه هو أمر واقعي ثبوتي لا دخل للأنظار فيه ([8]). وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) سيأتي ما يدفع إشكالا هنا عند توضيح معنى (الحسن والقبح) ومنه الجمال.
([2]) ولكن لعله يأتي اشكال على ضوء ما ذكر سابقا من الفرق بين كذب الحكاية والحاكي – المقرر الجواب: كذب وصدق الحاكي هو ما عبرنا وعبر هو عنه الآن بـ(في نظري) وعلى أي فقد عبرنا بـ(الكذب) أي المصدر ولم نعبر بالفعل (انه كَذِب) لتوقفه على القصد.
([3]) وقد عبرنا عن ذلك – أي عن اختصاص الصدق بنظر المادح - بالانتسابية لا النسبية وغيرها، فلو نسب الخبر بانه جميل للأول فصدق من حيث المطابقة لمعتقده ولو نسب قبيح للآخر فصدق أيضاً بمعنى انه صدق في اخباره عن معتقده للآخر
([4]) وهذه المدرسة هي احدى المدارس الـ15 عشرة التي تدعي نسببية المعرفة , وفي هذه المدرسة نجد التصويب للواقع , وكأنهم المصوبة الجدد
([5]) أي لو أراد خلاف الظاهر بلا قرينة.
([6]) اما كون الإطلاق هل هو بنحو الاشتراك أو النقل أو المجاز، أو غيرها فهذا لا يهم الآن.
([7]) وهذا يعد من اقسام المغالطة الكثيرة الابتلاء في العلوم ومن هنا فانه في ميدان البحث العلمي لابد من تحديد اصل المصطلح وابعاده والمراد منه بالضبط كي يتبين المراد الواقعي وكي يرد النفي والإثبات على موضوع واحد فان اكثر المشاكل تنشأ من ايهام المفهوم والمصطلح وتغاير الافهام فيه.
([8]) وهذا البحث يفتح ابواباً عديدة لرد الكثير من الشبهات الكلامية في مختلف المسائل كما هو الحال في مسألة المساواة بين الرجل والمرأة وغيرها من الشبهات، إذ يسأل عند قوله (عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث أمر قبيح) انه ما هو مرادك بـ(القبيح) من المعاني الستة؟
الاحد 2 ربيع الثاني 1435هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |