بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول نسبية الكذب وان من اقسامه المغالطة بمختلف انواعها، ووصلنا الى كلام الشيخ الانصاري في الحسن والقبح وان قول احدهم بان فلاناً القبيح كالقمر بنظره ليس بكذب قال (إذا بني على كونه كذلك في نظر المادح فان الانظار تختلف في التحسين والتقبيح)، وذكرنا انه يستشكل على ما ذكره الشيخ بالوجوه الثلاث التي مرت.
تلخيص الإشكالات الثلاثة على كلام الشيخ ( قدس سره )
ونذكر تلخيصا لما مر من الوجوه والاشكالات الثلاث :
الوجه الاول: ان ما قاله الشيخ تام لو لم يكن مدار (النظر) هو لحاظه بنحو الحكاية عن الخارج، إلا ان الغالب هو أخذه مرآة وكاشفاً عنه و(النظر) لا يغير من الواقع شيئاً، واما الوجه الثاني : فهو انه اذا صح كلام الشيخ فانما يصح بشرط اقامة القرينة؛ إذ ان ظاهر الإخبار وان كان مقيدا بقيد: (في نظري) هو الحكاية عن الخارج, واما الوجه الثالث فهو ان قوله (هذا حسن او جميل) إنما يصح لو أريد به احد المعاني الستة للحسن لا البعض الاخر منها، والمعنى المراد هو خصوص ما يلائم الطبع والذوق وينافرهما.
تكملة معاني الحسن والقبح:
ذكرنا فيما سبق اربعة معاني للحسن والقبح وبقي اثنان:
المعنى الخامس: كون الشيء بحيث يترتب عليه الاثر
واما المعنى الخامس للحسن والقبح فهو كون الشيء بحيث يترتب عليه الاثر، فان الحَسَن هو ما ترتب عليه الاثر الايجابي، وإلا كان قبيحا، وهذا المعنى هو معنى عرفي – وان كان جديدا –، كما هو الحال فيمن اراد ان يبني مسجدا فوجد الخريطة غير جيدة فانه يقول هو مخطط سيء او ليس بحسن، فانه ليس المراد ان عملهم لبناء المسجد سيء، بل المراد ان الاثر وهو البناء المتكامل وبالمواصفات القياسية لا يترتب على ما خطط فهو سيء أي لا يترتب عليه الأثر المطلوب.
وكذلك الحال في مجموعة من الاشخاص يخططون لسرقة ما فيضعون مخططا مدروسا لعمليتهم فيقولون انهم قد وضعوا خطة جيدة وحسنة، والمراد من الحسن هنا ليس ان السرقة في حد ذاتها عمل جيد, بل المراد هو ان الخطة متكاملة ومتقنة بحيث يترتب عليها الاثر.
وهذا المعنى من ترتيب الاثر من عدمه ليس بنسبي او انتسابي؛ إذ المدار هو ترتب الاثر في الخارج والواقع، فلو حصل فحسن وإلا فسيء وقبيح، ولا مدخل للأنظار في المقام.
والحال جارٍ في مطلق الجماليات فان الام لو قالت ان ابنتها جميلة فقد يكون مرادها هو ترتيب الاثر الايجابي على ذلك خارجا كخطبتها وزواجها([1])، وهذا معنى عرفي، وكما هو واضح فان ترتيب هذا الاثر ليس منوطا بالنظر، بل هو امر واقعي: إذ لو كان الامر في الخارج كما ذكرت فكلامها صدق وان توهمت عكسه، وإلا فكلامها كذب وان توهمت العكس ايضا.
المعنى السادس: ما تبانى عليه العقلاء من حسن او كذب
واما المعنى السادس فهو ما تبانى عليه العقلاء من حسن او قبح، وهو في رتبة سابقة على ما يستحق فاعله أو المتصف به المدح او الذم من العقلاء([2]) وهذا المعنى أي: السادس هو امر ثبوتي مرتهن بالاقتضاء الذاتي أو بنظر عامة العقلاء وليس مناطه النظر ايضا.
وخلاصة القول: ان النسبية والانتسابية محصورة فقط في معنى واحد من المعاني الستة وهي الملائمة والمنافرة للطبع او الذوق.
وبهذا ننتهي من مناقشة كلام الشيخ ( قدس سره )
خاتمة البحث: مصداقان من مصاديق الكذب
ونذكر في ختام البحث مصداقين شهيرين من مصاديق الكذب([3]) :
فان من اقسام الكذب والمغالطة هو ما اصطلحنا عليه بمغالطة ايهام الاطلاق في مقابل الاهمال، او ان شئت فقل مغالطة الاطلاق والاهمال، فان احدهم لو اوهم المهمل انه مطلق، فان هذا نوع من الكذب والمغالطة، والناس في غفلة منه عادة
واما النوع الاخر من المغالطة فهو مغالطة البيان والاجمال، فلو كان الشيء مجملاً ولكن أوهم الشخص انه مبين – والعكس كذلك -، فهو كذب وهو كثير في العلوم وفي المجتمع كذلك.
مغالطة الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا
وهنا نذكر مثالا دقيقا حيث ذكر بعض فلاسفة الغرب قضية موهمة وهي : (الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا) ، وهذه القضية تندرج في زاوية المغالطة وفيها كذبتان([4]) .
توضيح ذلك:([5])
أحد محتملات المقصود بهذه الكلام هو ان الشيء الثبوتي عندما ينتقل الى مرحلة الاثبات فانه سيختلف عما هو عليه في الثبوت، فلا تحصل المطابقة بين العالمين أبداً؛ إذ ان للعالم الثبوتي خصوصيات لا يعكسها عالم الاثبات بل يغايرها، والشيء اذا وصل الى عالم الذهن فانه سيتغير عما هو في ذاته([6])؛ ذلك لأنه توجد في الذهن خلفيات معرفية تصبغ الحقائق الواردة اليه بصبغة هي غير ما عليه في الواقع، فمثلا اننا نرى الشمس بحجم معين عن طريق الحس والحال انها اكبر بكثير من ذلك، وكذلك الحال في القمر وهكذا([7]).
جواب النظرية:
وفي جواب ذلك نقول ان هناك مغالطتين في هذا الكلام:
المغالطة الاولى: مغالطة الإطلاق والإهمال إذ ما ذكره ليس على اطلاقه
وهي ان ما ذكر من ان (الشيء في ذاته غير ما يبدو لنا) ليس على اطلاقه، وهذا ايهام منه؛ ذلك ان الشيء في ذاته احيانا يكون كما يبدو لنا، كالشخص الذي حقيقته وواقعيته العدالة فاعتقدنا بذلك ايضا فان الشيء في ذاته ههنا هو كما بدا لنا، نعم لو كان فاسقا واعتقدنا بعدالته فقد اختلف الإثبات عن الثبوت.
والحاصل: انه قد يتطابق عالم الاثبات والثبوت وقد يفترقان فلا اطلاق، وكذا الحال في الامواج الصوتية او الكهرومغناطيسية فإنها من انواع الطاقة فلو قلنا بذلك فهذا حكاية صادقة عن نفس حقيقتها وحد ذاتها فـ(الشيء كما يبدو لنا) هو (كما هو عليه في حد ذاته)، وكذلك الحال في الرؤية وعملية الابصار وغيرها من الامور التي قد يتطابق فيها عالم الاثبات مع عالم الثبوت وقد لا يتطابق.
اذن: منشأ الكذب الاول هو مغالطة ولبس ما هو مهمل وطرحه وتسويقه على انه مطلق
المغالطة الثانية : مغالطة المبين والمجمل وهي من أنواع الكذب
واما النوع الثاني من المغالطة فهو مغالطة البيان والاجمال، او المبين والمجمل, فانه كثيرا ما يساق ما هو مجمل على انه مبين، أو العكس
وتطبيق ذلك على ما ذكره الفيلسوف الغربي ان يُسأل:
ما هو المراد من ان الشيء في حد ذاته غير الشيء كما يبدو لنا؟ فانه يوجد اجمال في مصطلح (حد ذاته)، وهنا منشأ المغالطة، فهل المقصود من ذاته مجموع الجوهر والعرض، او ان المقصود هو الجوهر فقط؟ وبتعبير اخر: هل المقصود الذات والصفات؟ او الذات دون الصفات؟
وعلى كلا التقديرين فكلامه ليس بصحيح:
إذ إن أجاب بان المراد انه في مجموع ذاته وصفاته ليس كما يبدو لنا، ففيه: ان ذلك ينقض بالكثير من الصفات كما في كون الشيء طوله مترا وهذه صفة له فهي كذلك فان الشيء في صفته ههنا كان كما يبدو لنا، وكذلك كون الماء سيالا ومائعاً فانه ثبوتاً كذلك وقد ظهر لنا إثباتا بما يوافق ثبوته.
وان أجاب: ان المراد هو في ذاته - لا في صفاته - ليس كما يبدو لنا، فنقول: ان هذا الكلام فيه مغالطة ايضا وليس بصحيح فإننا نعلم ان الامواج الصوتية هي طاقة وليست بمادة، وهذه ذاتها وليست صفة لها أي هي في ذاتها طاقة لا مادة وكذلك نعلم ان الانسان جوهر وهذا ما يطابق الواقع فقد تطابق الشيء في ذاته – وهو انه جوهر – مع ما بدا لنا – إذ بدا لنا انه جوهر وعلمنا به - وهكذا .
اذن : المنشأ الثاني للمغالطة والكذب هو الاجمال والبيان في الكلام
تلخيص البحث الكلي: مع القرينة العامة أو الخاصة لا كذب و...
ونذكر المحصلة النهائية لبحث المبالغة والنسبية بذكر ثلاث صور للمبالغة والمغالطة وكونها كذبا او لا:
الصورة الاولى: ان يقيم المتكلم قرينة لفظية أو حالية خاصة على قصده كأن يقول ان قصده الاهمال لا الاطلاق أو الاجمال لا البيان، وهنا فكلامه صدق وليس بكذب، وكذلك الحال في المبالِغ فلو اقام القرينة على قصده انعقد الظهور الثانوي وحيث انه مطابق للواقع فهو صدق.
الصورة الثاني : ان لا يقيم الشخص قرينة خاصة على كلامه ولكن توجد قرينة عامة وهي الظهور العرفي على قصده وهنا كذلك: لو كان الكلام بظاهره العرفي مطابقاً للواقع فصدق وإلا فكذب .
الصورة الثالثة : اذا لم يقم الشخص قرينة خاصة او عامة فان المعيار هنا هو الظهور الاصلي للفظ فان طابق الواقع فصدق وإلا فكذب.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
([1]) أي تقصد بكونها جميلة انها ممن يرغب إليها الخطّاب.
([2]) وهو المعنى الثالث السابق.
([3]) والبحث في باب المغالطة واسع جدا ولعله يحتاج الى مجلد كامل في الحديث عن انواع المغالطة وكونها كذبا من الناحية الفقهية
([4]) بل كذبات
([5]) ونذكر هنا احد معان ثلاث ذكرناها في كتاب نقد الهرمنيوطيقا
([6]) اما بنحو التخالف او الضد او النقيض
([7]) وهذا الفليسوف يريد من خلال استقراء ناقص تعميم قادة كلية وبناء نظرية كاملة، مع انه قد ثبت عكسها.