||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 165- ضرورة التزام منهج التحقيق الموسع والتدقيق

 319- (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) 7 القواعد الشرعية في استملاك الاراضي

 133- فلسفة التفاضل التكويني: 4- معادلة التناسب بين الامتيازات والمواهب وبين المسؤوليات والمناصب

 79- بحث عقائدي: شبهة نسبية القرآن والاجابات عنها

 206- مباحث الاصول - (التبادر وصحة السلب والانصراف) (3)

 7- الصلاة عند قبر الإمام الحسين عليه السلام

 250- مباحث الاصول: (الحجج والأمارات) (8)

 167- فائدة رجالية: دعوى الاجماع على صحة أحاديث كتاب من لا يحضره الفقيه من قبل علمين من اعلام الطائفة

 108- المؤمن و التوبة ( وجوه توجيه الامر بالتوبة للمؤمنين خاضة )

 366- الفوائد الاصولية: الصحيح والأعم (9)



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23955452

  • التاريخ : 18/04/2024 - 23:54

 
 
  • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .

        • الموضوع : 219- (اليقين) و (المحبة) دعامتا تكامل الامة والمجتمع ـ (الشعائر كمظهر للمحبة وكصانع لها) .

219- (اليقين) و (المحبة) دعامتا تكامل الامة والمجتمع ـ (الشعائر كمظهر للمحبة وكصانع لها)
الاربعاء 28 محرم 1437هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)
(2)
(اليقين) و(المحبة) دعامتا تكامل الامة والمجتمع
(الشعائر كمظهر للمحبة وكصانع لها)
يقول تعالى:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)([1])
وفي آية أخرى يقول عز اسمه:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)([2])
في ظلال هاتين الآيتين الشريفتين هناك عدة بصار وحقائق ولا بد للتمهيد لها من الإشارة إلى (ثلاثيّ):
1) الحياة.
2) والتكامل.
3) القرب الى الله تعالى.
وهذا الثلاثي يبتني على (ثنائي):
أ- اليقين.
ب- والمحبة.
 وان الأئمة سلام الله عليهم ـ ومنهم الامام السجاد (عليه السلام) ـ كانت عملية بنائهم للامة تبتني في اهم اسسها على هاتين الدعامتين. وسنتحدث عنهما بعد ان نذكر بعض البصائر استلهاما من الايتين المتقدمتين:
 
1) البصيرة الاولى: اليقين بالآيات وبذيها معاً
 
يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
ويوجد في كلمة (يُوقِنُونَ) احتمالان ينشآن من خصوصية متعلَّق اليقين في الآية الكريمة: (وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
توضيح ذلك: اذا قلتَ: زيد أيقن بالموت، فهاهنا معنى واحد وهو اليقين بالموت نفسه، أما اذا قلتَ: زيد أيقن بالآية، فهنا احتمالان:
1) الإيقان بالآية نفسها, كما لو آمن وأيقن بالسحاب أو المطر أو الشمس أو القمر أو الجسم أو النفس أو الروح وما فيها من الغرائب والعجائب والحقائق والدقائق والأسرار([3]) وهذا المعنى يتم اذا اخذنا الباء باعتبارها باء التعدية الصرفة.
2) الإيقان عبر الآية بغيرها، إذ ان للآية جانب المرآتية والاشارية إذ هي مرآة وعلامة لغيرها. وهذا اذا أخذنا الباء بنحو السببية فيكون المعنى: وكانوا بسبب آياتنا يوقنون بعظمتنا او بوحدانيتنا.
ولا مانعة جمع بين المعنيين لما ارتضيناه من إمكانية استعمال اللفظ في أكثر من معنى لا على أن يكون كل منهما مراداً بالاستقلال بنفسه أي بشرط لا، وإنما بنحو اللابشرط كما فصلناه في مباحثنا الاصولية. لكن يبقى الكلام في ظهور اللفظ في عالم الإثبات، لكن الحق ان الجامع بين المعنيين، الظاهر عرفاً أيضاً، هو الآية بما هي آية فانها تستبطن المعنيين معاً لدى التدبر والتعمق.
وعليه فالمطلوب هو ان نوقن بالآية وبذيها ولا يصح ان نقف عند الآية كما يصنع بعض علماء العصر الحديث حيث يتوقف أحدهم عند الآية ويعمي عينه عما وراءها.
نعم هناك منهم من يعتبرها جسرا للإيمان بخالقها ومنشِأها كما حدث لكثير من علماء الغرب والشرق من الذين قضوا أعمارهم في الالحاد والوثنية، الا ان بعض آيات الله تعالى اخذت بعناقهم إلى الإيمان برب الآية فكانوا من الموقنين.
 
2) البصيرة الثانية: لا ينال الإمامة إلا من تحلى بالصبر واليقين.
 
ذكرت الآية الكريمة علتين لنيل الامام لمنصب الإمامة بالمعنى الأخص وهما :
 الأولى: (لَمَّا صَبَرُوا) والثانية: (وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
وهنا قد يتوهم البعض انه بالإمكان ان يصل أي انسان الى مرتبة الامامة بالمعنى الاخص فيما اذا تحلى بهاتين الصفتين (الصبر واليقين)!
 
والجواب:
 
أولاً: أن لليقين والصبر مراتب كثيرة جداً والمراد منهما هنا المراتب العليا المطلقة وهي التي لا ينالها إلا الأنبياء والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم.
ثانياً: ان ما يترائى من بعض تعليلات الشارع انها علل، ليست في الحقيقة عللاً بل هي حِكَم ليس إلا، كما أوضحناه في بعض الدروس مفصلاً، وفي المقام: يكفي احتمال ان يكون للمورد خصوصية، أي ان للمحل القابل خصوصية، بمعنى ان مجموع قابلية النبي أو الامام الذاتية مع صبره ويقينه تؤهله لأن ينصب إماما من قبل الله تعالى.
وهذا أمر عقلي كما هو عرفي أيضاً، فمثلا لو قلت لابنك: حيث انك نجحت في الامتحان فسوف أهديك كمبيوترا... فهل يصح لشخص آخر ان يقول: انا نجحت ايضا فيجب ان تعطيني الهدية، لأنك عللت الهدية بالنجاح؟ كلا، لا يمكن ذلك ؛ اذ ان للمورد خصوصية وهو كونه الابن خاصة... بمعنى انه ليس الملاك التام هو النجاح فقط، بل مع النظر الى خصوصية المورد ايضا، وكذلك الحال في مثل الذهب المصوغ كقلادة أو الفضة أو الحديد المصوغ كقلادة فان الصياغة وإن كانت متحدة إلا ان للذات والذاتيات قسطاً من الثمن وحظاً كبيراً من المعادلة!
 
المحبة واليقين ركنا الحياة السعيدة:
 
1) المحبة: منطلق العبادة وفلسفة الشعائر
 
قال تعالى: (...يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)([4]) وقال أيضاً (... وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...)([5])
اذا لم ننطلق من منطق (المحبة) في فلسفة العبادة فقد تصبح العبادة في نظر الكثيرين لغوا وإضاعة للوقت إذ قد ينظر البعض الى قضاء نصف ساعة من الوقت في السجود لله بانه مضيعة للوقت وانه كان الأولى الدراسة والتدريس أو البناء والإنتاج والعمل!
ونظير هذا الاشكال أورده البعض على كثير من شعائرنا ومشاعرنا كزيارة الاربعين مثلا، فيقال مثلا: ان في هجر الناس لبيوتها ومحال عملها لمدة 15 يوماً مثلاً وهي سائرة بخطى وئيدة الى حرم ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) مضيعة للوقت وللصالح العام!!.
ويمكننا ان ننقض عليه بانه هل من اضاعة الوقت الذهاب الى المساجد كل يوم من مسافات قريبة أو بعيدة؟ وهل الأفضل اللبث في البيوت أو الشركات والمتاجر توفيرا للوقت والجهد وتحرياً للمزيد من الإنتاج؟! بل وكذلك الذهاب للحج؟ بل والصوم أيضاً فانه يضعف الإنسان عن أداء مهامه وأعماله!!
لكن هذا المنطق المتزمت إنما هو منطق مادي قاصر وهو لا يعي المنطق الذي بُني عليه الكون كله وهو منطق محبة الله بفروعها، فحتى الانسان الاناني الذي يفعل كل شيء من أجل البقاء وحفظ مصالحه فإنما يفعل ذلك من منطلق المحبة لكن المحبة للذات، وهي محبة ضيقة أنانية مشوهة لا ترقى إلى مستوى محبة الآخرين فكيف بمحبة الله تعالى!
 
المحبة أساس سلامة المجتمع وازدهار الأمم
 
ان المحبة هي أساس المجتمع السليم والأمة المزدهرة فان الأب إنما يهتم بأسرته لأجل المحبة وهكذا الأم والزوجة وهكذا الذين يحبون أوطانهم سواءً أكانوا جنوداً أم قادة ورؤساء.. وهكذا الذين يحبون القيم والفضائل ومكارم الأخلاق والذين يحبون الإنسان بما هو إنسان.
إن الذي يلبس السواد وينفق الأموال الطائلة ويحي الشعائر الحسينية إنما يدفعه إلى ذلك حب ولي الله وحجته على خلقه وهو الإمام الحسين سيد الشهداء وأبي الأحرار صلوات الله عليه وحب جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأمه الزهراء (عليها السلام) وأبيه المرتضى (عليه السلام) وحب القيم التي نهض من أجلها صلوات الله عليه " إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلى الله عليه وآله) أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي"‏([6])
ان الكون كله قائم على أسس المحبة ابتداءً بمحبة الله وهي الغاية القصوى وانتهاءً بالمحبة الشخصية متوسطين بذلك المحبة النوعية كحب الوطن حيث اعتبر من الايمان.
 
من العلل الغائية للخلقة: المحبة!
 
وقد ورد عن الإمام السجاد (عليه السلام) في صحيفته السجادية حديث رائع جداً عن المحبة وكل كلماتهم رائعة: ((وكان عليه السلام اذا ابتدأ بالدعاء ابتدأ بالتحميد لله عز وجل والثناء عليه فقال:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ بِلَا أَوَّلٍ كَانَ قَبْلَه" فلا أولية زمانيه قبله ولا أولية رتبية كما هو مفصل في محله "وَالْآخِرِ بِلَا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ الَّذِي قَصُرَتْ عَنْ رُؤْيَتِهِ أَبْصَارُ النَّاظِرِينَ، وَعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أَوْهَامُ الْوَاصِفِين" وهنا بيت القصيد: "ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الْخَلْقَ ابْتِدَاعاً، وَاخْتَرَعَهُمْ عَلَى مَشِيَّتِهِ اخْتِرَاعاً. ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ" أي الخلق كلهم وليس فقط الانسان "طَرِيقَ إِرَادَتِهِ، وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ" فهذا هو الإطار العام والفلسفة الإلهية للكون: سلوك طريق الإرادة وسبيل المحبة.
السيد الوالد قدس سره في شرحه للصحيفة السجادية يفسر قوله: "ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ إِرَادَتِهِ، وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ" بانه: لعل الأول يشار به الى الجانب التكويني، والثاني يشار به الى الجانب التشريعي.
أقول: أما الجانب التكويني: فان الله تعالى كوّننا وهنْدَسَ خلقنا وجميع ما حولنا من الأرض والكواكب والنجوم والسماء وغير ذلك على حسب ارادته الكاملة وليس حسب ارادتنا فيكون المعنى ان الله سلك بنا الطريق الذي اراده تكوينا وهذا الطريق لا نستطيع ان نتخطاه، فان كوني من العشيرة الفلانية والابوين المعينين وشفرات جيناتي الوراثية وغير ذلك كلها ارادها الله بإرادة تكوينية لا يمكننا تجاوزها.
واما الجانب التشريعي "وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ" فلأنه تعالى أوضح لهم العقيدة والشريعة عبر المستقلات العقلية والفطرة وعبر أنبيائه ورسله (عليهم السلام) فعرفنا بذلك على الشرائع السمحة السهلة.
ثم ان الامتثال للجانب التشريعي هو أمر خاضع لاختيارنا وإرادتنا، ولعله مما يؤد ذلك كلمة "وبعثهم" فان البعث غير القسر والجبر والإرادة الحتمية التي لا تتخلف بحال من الأحوال، فيكون قوله "وَبَعَثَهُمْ فِي سَبِيلِ مَحَبَّتِهِ" عبارة أخرى عن انه تعالى أمرهم بالانطلاق والسير إثر تعاليم الأنبياء والأوصياء والعلماء الربانيين، وغاية هذا الطريق القصوى هي: المحبة.
 
الحياة والتكامل يبتنيان على المحبة
 
وصفوة القول: ان الحياة كلها تبتني على المحبة، كما ان التكامل يبتني على المحبة، ثم ان القرب إلى الله تعالى يبتني على المحبة أيضاً، فهذه الثلاثية الرائعة تبتني كلها على (المحبة):
أ- اما ان الحياة تبتني على المحبة فأمر واضح؛ اذ أن الانسان اذا لم يحب ذاته فانه سيعرضها للهلاك والدمار ولا يبالي مثقال ذرة.
لكنّ للمحبة أنواعاً، منها: المحبة التي كانت العلة الغائية للخلقة ومنها: المحبة التي تقع في الجانب الاخر وعلى النقيض، أي محبة الدنيا والنفس والهوى والمصالح الضيقة.
ب- واما ان التكامل يبتني على المحبة، (ومن ذلك زيارة الأربعين والبكاء على سيد الشهداء (عليه السلام) وسائر أنواع شعائره (صلوات الله عليه) ) فلأن الانسان عندما يبكي على سيد الشهداء (عليه السلام) فهو يعكس على جوارحه نتائج الحب الكبير كما انه يصنعُ درجات أخرى من الحبَ الخالد، ذلك الحب الذي يعد الطريق الأمثل نحو تكامله ورقيّه لكي يصل إلى مصاف الأولياء والصالحين.
كما ان لبس السواد على ذكرى شهادة سيد الشهداء (عليه السلام) وهو ينبوع الفضائل ومدرسة القيم ومصدر الكمالات، يركز المحبة لكل القيم السماوية، شعوريا ولا شعوريا في أعمق أعماق وجدانه.
وهكذا الحال في مختلف الشعائر الحسينية والشعائر الالهية الاخرى، فالنظر الى الكعبة حباً لها هو طريق الوصول إلى الله تعالى، فانها رغم كونها بناءً مادياً إلا انها ما دامت آية من آيات الله فإنها تشد الناظر اليها وعبرها الى الله تعالى، فمن ينظر الى الكعبة المعظمة ـ خصوصا لأول مرة ـ يشعر بان امواجا فياضة غمرته وشعورا لطيفا رائقا يشده اليها والى خالقها وبانيها ووليها بالحق. . وهو الشعور الذي يشعر به جميع من يذهب الى الحج، الا من قسى قلبه وخرج عن حد الاعتدال.
كذا طالب العلم فانه إنما يأتي الى الحوزة العلمية ويعاني شظف العيش وتعب البحث والمباحثة والتحقيق، من اجل (حب) العلم وحب العلماء وحب الهداية والإرشاد وحب التكامل وحب التقرب إلى الله تعالى بذلك.
والتاجر، هو الآخر، فهو انما يتاجر لحبه للمال، والسياسي المخلص الناجح انما يعمل لحبه لوطنه بينما السياسي الفاشل المضيع لحقوق الناس والمتسبب بهدر المال العام انما اصبح هكذا لانه لا يمتلك حب الوطن بل انه كان مبتلى بـ(حب الهوى والشهوات).
والمحبة شيء اخر غير إدراك العقل لشيء ما، فمن يقيم ألف دليل على وجود الله وهو محق قد لا يكون محباً لله تعالى بل يكون باعثه لذلك مجرد إثبات التفوق أو الحصول على أجر مادي، نعم لا شك في انهما كثيراً ما يجتمعان الا ان لكل منهما عالمه فقد يصب احدهما في طريق الاخر وقد لا.
والمحبة الصادقة لأولياء الله تقود الانسان الى المعرفة اليقينية، فمن يحب سيد الشهداء (عليه السلام) مثلاً ينال درجات ومقامات عالية لا يصل اليها من لا يمتلك تلك الدرجة من المحبة.
 ومن هنا نعرف السر وراء اهتمام العلماء والفقهاء بإقامة شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) لانهم يدركون الفلسفة الحقيقية وراء الخلقة وهي المحبة لله وفي الله فتراهم دائبون بحث الناس على محبة رسول الله والائمة الهداة (صلوات الله عليهم اجمعين) وعلى تجسيد ذلك في مجالي ومظاهر ومشاهد ملموسة محسوسة مرئية أو مسموعة أو غيرها.
 
للمحبة ألوان ومظاهر
 
وللمحبة مظاهر وتشكلات وألوان كثيرة: فقد يكون مظهر المحبة مظهرا هادئا كلبس السواد على سيد الشهداء (عليه السلام) وقد يكون مظهراً صارخا كركضة طويريج ومواكب التطبير وغيرها، والإنسان تارة يبكي بصمت وتارة يبكي عاليا وكلاهما مطلوب واحدهما لا ينفي الأخر.
 
المحبة طريق اليقين
 
ان هذه الشعائر تصنع المحبة وتحافظ عليها وتذكي العاطفة وترقق القلب. . ومن خلالها يصل الانسان الى درجات من اليقين، وقد ورد: (عليكم بإيمان العجائز) ومنهن القائلة: بعد ان سئلت عن وجود الله تعالى:
(البعرة تدل على البعير، وأثر الإقدام على المسير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير؟)([7]).
ان الإيمان الفطري أفضل من حيث ذاته من الإيمان عبر الادلة العقلية المحضة الجافة من دون الاحساس الفطري بحقيقة الإيمان وروعته.
ومن البديهي اننا لا ننكر دور العقل إلا أن اننا نقول: ان العقل لوحده قد لا يصمد امام هيمنة الشيطان وحيله وألاعيبه لكنه – أي العقل - مع القلب والمحبة والعاطفة يمكنهما أن يتغلبا على الشيطان ومكره ووسوسته.
وذلك([8]) من نتائج – وفي مرتبه: من أسباب -: (...ويُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)([9])، (... وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ...)([10])
والحاصل: ان المحبة هي طريق اليقين، ومن هنا نرى ان من يحب الله ورسوله واهل بيته الأطهار لا يهتز لألف شبهة وشبهة وان كان غير قادر على ردها وفق القواعد العقلية والكلامية، ولذا ترى الإماميَّ العاميَّ لا يقوى على النيل من إيمانه الناصبيُّ الخبيرُ المتبحرُ في العقائد والكلام، وما ذلك الا لان الحب يشده الى الاعتقاد الفطري السليم والصحيح.
فاذا أردنا أن نحافظ على إيمان شبابنا عندما يذهبون الى جامعات الغرب والشرق حيث يدرسهم في كثير من الأحيان أساتذة ملحدون أو علمانيون، وحيث الأجواء كلها تقود إلى الفساد والإلحاد، فعلينا أن نعبئهم بحب الله تعالى والرسول العظيم وأهل البيت الأطهار وشعائرهم وأثارهم.
 
إلغاء الشعائر والمشاعر استهداف للمحبة واليقين
 
ان الوهابية المقيتة عندما استهدفت الشعائر والمشاعر والمشاهد، ومن ورائهم العقل الغربي بكل تأكيد، فإنما قاموا بلك لانهم يعرفون جيدا ان هذه هي نقاط الشد والجذب الحقيقية لملايين بل مليارات الناس ولجميع الاجيال نحو ينبوع الحقيقة الصافي الذي عبّر عنه جل اسمه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)([11]) والذي جعل حبهم أجر الرسالة (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)([12]).
ان الأمة الإسلامية لو سارت على المنطق الوهابي وألغت الآثار النبوية والمراقد المقدسة لأنها حسب منطقهم أصنام تعبد من دون الله بزعمهم فسوف لا تبقى أي اثار تشد الانسان الى تاريخ دينه العظيم وسوف لا تبقى مناطق تشد القلوب وتجتذبها نحو مصادر النور وينابيع الفضائل وسوف تطمس دلائل وعلائم ومشيرات ومصابيح عظيمة تجتذب العقول والقلوب التي تبحث عن بصيص نور واثار نبوة تهتدي من خلالها الى معالم الدين الإسلامي العظيم، وعند ذلك ستكون القلوب قاسية طاردة لأدنى درجات المحبة والعاطفة والرحمة.
ومن هنا نكتشف أحد الأسرار التي تدفع الوهابيين كي يسلكوا مسالك الارهاب ويسفكوا الدماء بلا رحمة وبلا ذنب يقترفه ضحاياهم فان ذلك يعود إلى انهم ألغوا من حياتهم تتبع اثار الصالحين والوقوف في محال ارواحهم واماكن جهادهم، فقست قلوبهم وفقدوا الحب في الله أو انحرفت بوصلتهم فاعمى الله بصائرهم.
ونحن عندما نسمع عن عظيم اهتمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالأيتام والفقراء وكذلك ما كان يقوم به الامام الحسن والحسين وسائر الائمة صلوات الله عليهم في التحنن على البؤساء والأرامل والأيتام، نستكشف من وراء ذلك ينبوع المحبة العظيم في أنفسهم المقدسة وانهم كانوا أيضاً يريدون من وراء ذلك ان يغرسوا المحبة في قلوب الناس على مر التاريخ وان تكون هدفا صالحا يستحق العناء من أجله.
 
2) اليقين
 
ان ثلاثي الحياة والتكامل والقرب الى الله تعال يبتني على اليقين ايضا ولكن لا بد قبل ذلك من الاشارة إلى قضية هامة جداً لم تطرح حسب استقرائنا كدراسة مفصلة، وهي:
ان الآيات والروايات تركز على اليقين كقوله تعالى: ( وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ)([13]) و(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)([14]) بينما العلم الحديث يركز على الشك فهم يرون: (ان الشك هو طريق الكمال).
 
اليقين طريق الكمال، لا الشك
 
ولكن الصحيح هو: انه ليس الشك طريق الكمال إنما (اليقين هو طريق الكمال) وذلك:
1) لان الحياة تبتني على اليقين لا على الشك.
2) الكمال يبتني على اليقين لا على الشك.
توضيح ذلك: ان الجندي الذي يدافع عن الوطن انما يقوم بذلك بدافع اليقين وليس من خلال الشك والا فانه لا يتحرك مادام شاكاً متردداً في قيمة عمله  وفي صحة مبدأه فالحياة تبتنى على اليقين وليس على الشك كما يزعمون.
كما ان العائلة السعيدة هي التي تسودها أجواء اليقين من خلال ثقة الزوج بزوجته والزوجة بزوجها والابن بأمه وأبيه وبالعكس، اما اذا كان الزوج يشك في زوجته او العكس فسيتحول البيت الى سجن رهيب وسوف تتفاقم المشاكل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر.
وأيضاً: اذا كان الشك هو سيد الحياة وهو الحاكم فان الحياة ستنهدم وتنهار؛ وذلك لأننا ندرك ان الشجاعة فضيلة، وحسن الخلق فضيلة، والتواضع فضيلة، وخدمة الناس فضيلة، وهكذا الوفاء والالتزام بالوعد والنظافة وغير ذلك فلو شككنا في كل ذلك فهل كنا نلتزم بالوفاء والصدق وحسن الخلق وغيرها؟
وحتى هؤلاء العلماء الغربيون الذين يعتنقون مثل هذه النظريات فانهم يتمسكون باليقين بنظرياتهم وأنها هي الصحيحة لا غير, ومنها هذه النظرية (ان الشك طريق الكمال)!.
ولقد وردت في كلام الامام امير المؤمنين (عليه السلام) والمعروف بالديباج، كلمة قيمة جدا حيث يقول:
 
الريبة طريق الشك والشك مدخل الكفر
 
"لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا وَلَا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا وَلَا تَكْفُرُوا فَتَنْدَمُوا"([15]).
وتحقيق ذلك: ان الريبة هي أول خطوة على طريق الشك فهي مقدمة للشك، وبتعبير اخر: الريبة هي الاحتمال الضعيف والاحتمال الضعيف اذا قوي يصبح شكا.
فقوله (عليه السلام): "لَا تَرْتَابُوا..." أي لا تفتحوا مجالاً حتى ولو 1% للتشكيك في وجود الله تعالى او في الشعائر والمشاعر مثلاً، فان الشيطان يجدها حينئذٍ فرصة سانحة ومدخلاً متميزاً ينفذ عبره ليوسع عليكم الدائرة فتقعوا في دائرة الشك من بعده في متاهات الكفر؛ اذ ان منطقة القلب اذا مُست فان منطقة العقل قلما تصمد أمام التشكيكات العقلية الا للاوحدي من الناس الذي يعرف جيدا المستقلات العقلية ويمتلك قدرة عقلية كبرى تقف سداً منيعاً أمام الشبهات.
إذاً وكما قال الامام علي (عليه السلام) يقول: "لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا"
وفي مجمع البحرين: (الريبة: قلق النفس واضطرابها)([16]) وهذا هو ما نستكشف منه انهيار المجتمعات في حال حكومة منهجية الشك والقلق على كل فرد وأسرة ودولة، فانه ليس هناك من حاجز عن الظلم والعدوان الا اليقين بالآخرة أو بمكارم الأخلاق والبناء على اليقين في التعامل الإنساني مع الآخرين.
 
ضوابط الشك النافع
 
ان اليقين هو الأساس وليس الشك إلا انه – ومع ذلك – فان للشك فوائد مهمة إذا وضع في إطاره الصحيح، وضمن ضوابط وقواعد نذكر منها:
1) ان اليقين هو الأساس والشك هو الاستثناء:
ولذا كان بناء الشرع والعقلاء على حسن الظن بالناس كأصل أصيل ما لم يدل على خلافه الدليل، ومن فروعه انه من القبيح والمكروه ان يشك الزوج في زوجته او بالعكس او الاب في ابنه او العكس فان هذا الامر من أهم عوامل انهيار الأسرة، بل ان بعض الفقهاء كالشهيد الثاني والمولى النراقي صرحوا بحرمة سوء الظن, وبعض الفقهاء كالسيد الوالد فصلوا في المسالة.
2) ان يكون الشك شكا هادفا: لان الشك لمجرد الشك لا ينتج إلا الدمار والخراب.
3) ان يكون للشاك مرشد: اما من قوةِ فطرةٍ مسددة، او من عقلٍ راجح، فان الشك وان امكن ان يفتح ابوابا لليقين إذا اتخذه الإنسان سبباً للفحص والبحث الا ان ذلك ينبغي ان يكون مع المرشد والهادي.
وهناك ضوابط اخرى نتركها الى مجال اخر.
وأخيراً، وكما سبق، فان الحياة تبتني على ركنين اساسين هما:
المحبة واليقين، فاذا انهار احدهما فان الحياة ستنهار بأجمعها وسوف لا يستقر بعدها حجر على حجر، فكيف لو انهارا معاً؟.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
========================
 

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الاربعاء 28 محرم 1437هـ  ||  القرّاء : 12323



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net