بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(676)
تحليل كلام الشيخ (قدس سره)
قال الشيخ (قدس سره): (نعم، هذا الفرد مختار فيه من حيث الخصوصيّة، و إن كان مكرهاً عليه من حيث القدر المشترك، بمعنى أنّ وجوده الخارجيّ ناشٍ عن إكراهٍ واختيار؛ ولذا لا يستحقّ المدح أو الذمّ باعتبار أصل الفعل، ويستحقّه باعتبار الخصوصيّة)([1]) وقد مضى بعض الكلام عن ذلك ونضيف:
هل العلّة (إكراه واختيار) مركبة أو مستقلة أو طولية؟
الأول: ان قوله: (بمعنى أنّ وجوده الخارجيّ ناشٍ عن إكراهٍ واختيار) يشير إلى العلّة وإلى المعلول فان (وجوده الخارجي) هو المعلول و(إكراه واختيار) هو العلّة، فههنا مطلبان:
المطلب الأول: البحث عن حقيقة العلّة، فان المحتملات في هذه العلّة التي نشأ منها الوجود الخارجي لهذا البيع أو ذاك الطلاق، والتي عبّر عنها بـ(إكراهٍ واختيار) ثلاثة: ان يكون كل منهما جزء العلة، وأن يكون كل منهما علّة مستقلة تامة، ولكن على سبيل البدل، أن يكونا علتين طوليتين، وذلك بعد الفراغ عن صراحة كلامه في نفي احتمال رابع وخامس وهما عِلّية أحدهما خاصة وتأثيره وحده دون الآخر.
والأخير، وهو كونهما علّتين طوليتين، هو الصحيح، كما انه هو مراده ظاهراً.
أما الأول فغير مراد له ولا هو بالصحيح؛ لوضوح أ- انه لو لم يكن مكرهاً على الجامع ولو الانتزاعي أي أصل الطلاق مثلاً عندما قال له طلّق احداهما، لما طلّق هذه (أو تلك) أصلاً فهو إذاً علة تامة بعيدة لصدور طلاق هذه منه، ب- وانه لو لم يختر هذا الفرد أي هذه الخصوصية لما صدر منه هذا الطلاق المصداقي، فهو إذاً علّة تامة قريبة.
وأما الثاني: فيظهر من الأول، ويدل عليه انه لو انتفى الإكراه بان رفع المكرِه يده عن إكراهه، لما طلق التي طلقها أصلاً، فبذلك ظهر ان الإكراه على الجامع الانتزاعي وهو طلاق احداهما صار علّة لاختياره طلاق هذه.
بعبارة أخرى: الخصوصية وإن كانت معلولة لاختياره لكنّ وجود هذا الطلاق المعلول لاختياره معلول للإكراه.
بوجه آخر: مصب الإكراه ونظائره، كالاضطرار، هو الوجود و(طلاق هذه) له وجود واحد، وإن كانت له إضافتان، وهذا الوجود الواحد معلول إرادةٍ معلولةٍ للإكراه.
والظاهر انه (قدس سره) يرى الطولية بينهما بدليل قوله الذي نختار منه محل الشاهد: (فالمعيار في وقوع الفعل مُكرَهاً عليه: سقوط الفاعل من أجل الإكراه المقترن بإيعاد الضرر عن الاستقلال في التصرّف)([2]) أي يكون تصرفه تابعاً لإكراه غيره ولا يكون قراره مستقلاً بل يكون ظِلّياً، و(وإن كان يختاره لاستقلال العقل بوجوب اختياره؛ دفعاً للضرر أو ترجيحاً لأقلّ الضررين).([3]) فانه صريح في الطولية، إذ يقول: انه يسقط عن الاستقلال في التصرف لكنه في نفس الوقت (يختاره) فقد اختاره لكنه اختياره ناشئ عن إكراه وذلك لأجل التفريق بينه وبين الاضطرار الذي أكده بقوله: (والحاصل: أنّ الفاعل قد يفعل لدفع الضرر، لكنّه مستقلّ في فعله ومخلّى وطبعه فيه بحيث يطيب نفسه بفعله وإن كان من باب علاج الضرر، وقد يفعل لدفع ضرر إيعاد الغير على تركه)([4]).
وأما تمام كلامه فهو: (فالمعيار في وقوع الفعل مُكرَهاً عليه: سقوط الفاعل من أجل الإكراه المقترن بإيعاد الضرر عن الاستقلال في التصرّف؛ بحيث لا تطيب نفسه بما يصدر منه ولا يتعمّد إليه عن رضا وإن كان يختاره لاستقلال العقل بوجوب اختياره؛ دفعاً للضرر أو ترجيحاً لأقلّ الضررين، إلّا أنّ هذا المقدار لا يوجب طيب نفسه به؛ فإنّ النفس مجبولة على كراهة ما يحمله غيره عليه مع الإيعاد عليه بما يشقّ تحمّله)([5]).
وقد ناقشنا فيما مضى في قوله (بحيث لا تطيب...) إذ أوضحنا ان له طيب نفس ثانوي وإن لم يكن له طيب نفس أولي فـ(بحيث لا تطيب...) حسب التحقيق وحسب رأي المحقق اليزدي إذا قصد منه عدم الطيب الأولي فصحيح وأما إذا قصد منه عدم طيب النفس الثانوي فغير تام كما مضى، ولكن سواء أناقشناه بذلك إن قَصَدَ نفي الطيب مطلقاً أو لا، فان الطولية تبقى بحالها، أي ان وجود طيب نفس ثانوي، كما اخترناه تبعاً لليزدي وكما يشهد به الوجدان وعدم وجوده، غير دخيل في الذهاب إلى القول بالطولية كما ان عدمه غير دافع لها، أي سواء أقلنا به أو لا فإن الطولية هي هي.
المعلول، وما هو المكره عليه فيه؟
المطلب الثاني: البحث عن واقع المعلول، فإن المعلول وهو وجود هذا الطلاق أي ما صدر منه وهو طلاق هذه أي قوله مثلاً (زوجتي هند طالق طلقة) بنفسه، أي بنفس وجوده، مكره عليه ولذا رُفع حكمه فلا يقع صحيحاً، وإن كان بجهته أي من جهة إضافته إلى هذه مختاراً فيه.
إذا كان مختاراً في الخصوصية فالطلاق صحيح!
وبعبارة أخرى: قد يقال: انه على مبنى الشيخ (من كون هذا الفرد الخارجي من الطلاق (طلاقه لزوجته هند) والذي هو وجود خارجي مشخص واحد، مكرهاً([6]) عليه من حيث الجامع، مختاراً فيه من حيث الخصوصية)، يلزم([7]) أن لا يكون مكرهاً على هذا الطلاق بخصوصيته فيلزم صحة طلاقه مع انه لا شك ان طلاقه باطل وانه مكره عليه عرفاً وبالحمل الشائع فيلزم إما القول بذلك وهو خلاف فتواه والإجماع أيضاً إذ قال: (وإن كان الأقوى وفاقاً لكلّ من تعرّض للمسألة([8]) تحقّق الإكراه لغةً و عرفاً)([9]) وإما القول بانه مكره على الخصوصية، (كي يقع الطلاق باطلاً) مع انه صرح بانه مختار في الخصوصية؟
الجواب: كلا إذ مصبّ الإكراه هو الوجود
والحلّ هو ما سبق وما تضمنه كلامه من: أنّ المتحقق في الخارج هو أمر واحد ذو إضافة، وهو (طلاق هذه) فان المتحقق هنا وجود واحد لا وجودان إذ ليس للجامع وجود وللخصوصية وجود آخر (بأن يكون كل من المضاف والمضاف إليه في (طلاق هذه) ذا وجود منحازٍ فيكون المضاف مكرهاً عليه والمضاف إليه مختاراً فيه) بل المتحقق في الخارج هو (وجود واحد) وهذا الوجود وإن كان بلحاظ الجامع مكرهاً عليه وبلحاظ الخصوصية مختاراً فيه، لكنه بما هو وجود واحد وكوجود مستكرَهٌ عليه فيشمله ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ))) ولذا قال: (بمعنى أنّ وجوده الخارجيّ ناشٍ عن إكراهٍ واختيار).
ولا تركيب بين الجامع والخصوصية، بل هو انتزاع
وبعبارة أدق: انه قد يُسأل: هل التركيب بين الجامع والخصوصية في (طلاق هذه) اتحادي عقلي، كالجنس والفصل، أو اتحادي خارجي كالمادة والصورة أو انضمامي؟ فنقول: انه لا تركيب بين وجود الجامع ووجود الخصوصية، اتحادياً ولا انضمامياً، بل إنما هو انتزاع([10]) أي ينتزع من هذا الوجود الخارجي للطلاق إضافته لهذه المرأة، فههنا منتزَع منه وهو الوجود الخارجي لإنشاء الطلاق، ومنتزَع وهو كونه طلاقاً لهذه، وحيث ان الإكراه مصبّه الوجود، كالأمر والنهي وسائر النظائر، لذا فان هذا الوجود مستكره عليه وإن لم يكن المنتزع منه وهو الإضافة التي اختارها مكرهاً عليه.
والحاصل: هو مكره عليه ومختار فيه، أما المكره عليه فوجوده نفسه (وهو محط الأحكام) وأما المختار فيه فإضافته وهي ليست محط الأحكام، أو فقل: هو مكره عليه ومختار فيه لكون الوجود الخارجي واحداً، لكن حيث كان له عنوانان (انه طلاق) و(انه طلاق هذه) (أي له منشأ انتزاع وهو (الوجود) و(منتزع منه) وهو الإضافة لهذه، أي له جامع وإضافة أي خصوصية) فصح أن يقال انه بلحاظ هذا العنوان مكره وبلحاظ ذاك مختار لكن الوجود نفسه مكره عليه ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) وإن كان المنتزع منه مختاراً فيه.
تنبيه: قوله: (نعم، هذا الفرد مختار فيه من حيث الخصوصيّة، و إن كان مكرهاً عليه من حيث القدر المشترك، بمعنى أنّ وجوده الخارجيّ ناشٍ عن إكراهٍ واختيار؛ ولذا لا يستحقّ المدح أو الذمّ باعتبار أصل الفعل، ويستحقّه باعتبار الخصوصيّة) يقصد: خصوصية وجوده الخاص لا مشخصاته الفردية، كما سبق، ونضيف: مراده من خصوصية وجوده الخاص هو وجوده المضاف إلى هذه (طلاق هذه) فان ذلك هو الذي له الخيار فيه، دون سائر المشخصات الفردية.
* * *
- ناقش ما وجّهنا به كلام الشيخ إما باعتباره مراداً للشيخ، أو في حد نفسه من حيث الصحة والسقم سواء أقصده الشيخ أم لا.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الرضا (عليه السلام): ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلَا يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ))
(الكافي: ج1 ص201)
------------
([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص320.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص312.
([7]) جواب انه على مبنى الشيخ..
([9]) الشيخ مرتضى الانصاري، كتاب المكاسب، الناشر: تراث الشيخ الأعظم، ج3 ص320.
المعلول، وما هو المكره عليه فيه؟
قال الإمام الرضا (عليه السلام): ((إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وَأَلْهَمَهُ الْعِلْمَ إِلْهَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلَا يُحَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ))