بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(585)
من فقه حديث الرفع
وعوداً إلى فقه حديث الرفع نقول: إنّه مضى الخلاف في معنى الرفع والمراد منه بين مضيّق جداً وموسّع جداً ومفصّل، فمن المضيقين جداً: الشيخ ((قدس سره)) حيث فسّره برفع المؤاخذة، ومن الموسّعين من قال أنه يعني رفع قلم التكليف والوضع ولعله المشهور، ومن الموسّعين جداً من قال أنه يشملهما وقلمَ كتابة السيئات وقلم كتابة الحسنات وغيرهما من الأقلام الستة الماضية، وهو ما ذهب إليه السيد الوالد ((قدس سره)).
وعلى التوسعة والشمول للحكم الوضعي وأن حديث الرفع يرفعه، يبتني قول المشهور بأن معاملات الصبي باطلة، لأن صحة البيع وسببيته للنقل والإنتقال لهي من الأحكام الوضيعة وقد رفع القلم، بما فيه قلم الأحكام الوضعية، عن الصبي.
الايرواني: رفع الحديث للحكم الوضعي عن عقد الصبي، محال
لكنّ المحقق الايرواني ((قدس سره)) أشكل على الشيخ، الذي أنكر المبنى أي الشمول للحكم الوضعي.. كمناقشة منه للذي بُنِي عليه أي بطلان العقد، بأنّ([1]) قبول المبنى لا يجدي لإثبات البطلان، كي نحتاج إلى إنكاره فنفرع عليه الصحة التي هي على الأصل العقلائي في الصبي المميز؛ وذلك لأن تأثير عقد الصبي أمر تكويني وهو يحصل قهراً بالعقد، وحديث الرفع من دائرة التشريع والأمر التشريعي لا يتصرف في دائرة التكوينيات، فحديث الرفع أجنبي تماماً عن إثبات أو نفي الصحة والبطلان، بمعنى التأثير وعدمه، على كافة المباني.
قال الايرواني: (ورابعاً: إنّا لو سلّمنا عموم الحديث وشموله لرفع كلّ حكم تكليفي أو وضعي، لا يجدي ذلك في صحة الإستدلال بالحديث لرفع التأثير عن إنشاء الصغير؛ وذلك أنّ تأثير الإنشاء في حصول عنوان الـمُنشَأ كعنوان النكاح والبيع تأثير تكويني في أمر اعتباري فيكون كتأثير سيفه في القطع وقلمه في الكتب، وهذا لا يرفعه حديث الرفع)([2]).
وقد أذعن (العقد النضيد) لذلك المدعى (وذلك أنّ تأثير...) فقال: (أقول: أمّا ما جاء في صدر كلامه فلا نقاش فيه، لأنّ تأثير الإنشاء في العنوان والمنشأ تأثير تكويني بالنسبة إلى الأمر الإعتباري، فإنّ الإنشائيات تتحقق من خلال الإنشاء تكوينياً، سواءً كان الإنشاء صادراً عن الصبي أو البالغ، إذ بإنشاءهما يتحقق العنوان)([3]).
المناقشات
ولكنّ الحق أن هذا المدعى غير صحيح لوجوه بين صغروي وكبروي:
1- لا تأثير لإنشاء الصبي، في اعتبار العقلاء والشارع
الوجه الأول: ما أشكل به السيد الوالد بما يعود إلى إشكال صغروي، إذ قال: (وعلى الرابع: ان الأثر المترتب على الإنشاء في العقد قد يكون شخصياً يبنى عليه نفران من دون غيرهما، وقد يكون عقلائياً – لا بمعنى ما عبد به الرحمن إلخ – بل بمعنى مقابل المجانين وإن لم يقبله الشارع، وقد يكون شرعياً وإن لم يقبله العقلاء، وقد يتفقان – حيث بينهما عموم من وجه – وقد يكون للغير لا للنفس كعقد المسلم أخت المجوسي لنفسه، وقد يكون العكس كعكس المثال. وفي كل الحالات هو أمر اعتباري لا تكويني)([4]).
وقال: (فان تأثير الإنشاء في حصول العنوان جعلي عقلائي قد يؤيده الشارع لواجديّته لما اعتبره من الشرائط والأجزاء وفقده الموانع والقواطع وقد لا يؤيده لعدمها كما أن ما يعتبره الشارع قد يعتبره العقلاء وقد لا يعتبروه كذلك. وحيث ان البلوغ والرشد من قيود الشارع لم يكن بدونها أثر)([5]).
إيضاح: الشرعي الذي لا يقبله العقلاء (ولا يراد به جميعهم، بل الكثير منهم) العقد والطلاق الشرعيين حيث أن أغلب دول العالم لا تقبلهما بل تشترط العقد والطلاق المدني، وأما العكس (العقلائي الذي لا يقبله الشارع) فكعكس المثال: فإن الطلاق المدني، بدون حضور شاهدين عادلين... صحيح لدى العقلاء دون الشارع.
أقول: وبعبارة أخرى مع نوع تغيير وتطوير: (إن تأثير الإنشاء في حصول الـمُنشَأ الشخصي) هو تأثير قهري فإنه إذا أنشأ شخص أمراً لزمه قهراً حصول المنشأ إذ الإنشاء للـمُنشَأ كالكسر بالنسبة للإنكسار فإذا حصل الكسر حصل الإنكسار وإذا لم يحصل الإنكسار فلا محالة لم يحصل كسر، فلا يعقل أن يقال بحصول الإنشاء من الصبي (لأنه مميز قاصد على الفرض) وعدم حصول المنشأ الشخصي حينئذٍ.
ولكنّ تأثير الإنشاء في حصول المنشأ العقلائي أو الشرعي، ليس قهرياً، ولا تابعاً لإنشاء الصبي أو أي شخص آخر، وذلك لأن المنشأ العقلائي والشرعي تابع لإنشاء العقلاء أو الشرع لا لإنشاء الصبي، والمفروض أن المطلوب في البحث عن عقود الصبي، إثبات صحة أو بطلان عقوده بنظر الشارع وفي عالم اعتباره (أو في نظر العقلاء وعالم اعتبارهم) أي ترتيبه الأثر عليه وعدمه، لا صحته وبطلانه في عالم الصبي الشخصي، فإذا شمل حديث الرفع الأحكام الوضعية، ومنها الصحة، كان معناه ارتفاع الصحة أي التأثير (في النقل والإنتقال) الشرعي أو العقلائي.
2- وليس من قبيل تأثير التكويني في الإعتباري
الوجه الثاني: وهو ما أشكل به الوالد أيضاً لكن مزيجاً بوجهه الأول هو أن المقام (تأثير عقد الصبي في النقل والإنتقال) ليس من قبيل تأثير الأمر التكويني في الأمر الإعتباري، بل هو اعتباري محض وجعلي مجعول للشارع أو للعقلاء. وسيأتي بيان هذا الوجه والكلام عنه.
3- وتأثير التكويني في الإعتباري، مقتضٍ، وللمشرِّع رفعه
الوجه الثالث: مانضيفه إشكالاً ثالثاً كبروياً، وهو أن مبنى كلام المحقق الايرواني على أن تأثير الأمر التكويني في الأمر الإعتباري مما لا يمكن رفعه بحديث الرفع وأي أمر آخر من عالم التشريع، ولكن لنا أن ننكر الكبرى ونقول إن تأثير الأمر التكويني في الإعتباري، اقتضائي فيمكن رفعه أو منعه، ألا ترى أنّ تأثير النار في الإحراق، وكلاهما تكويني، اقتضائي لذا يشترط المحاذاة الخاصة ويشترط عدم المانع في الشيء الملقى فيها (فإذا طلي بمادة كيماوية عازلة لم يحترق)؟ بل نقول: إنه لا توجد علّة تامة إلا إرادة الله تعالى، فإن النار حتى إذا توفرت كافة شرائطها وانتفت كافة موانعها لا تُحرِق إذا لم يأذن الله تعالى، كنار إبراهيم ((عليه السلام)).
فإذا كان تأثير التكويني في التكويني اقتضائياً قابلاً للرفع، فما بالك بتأثير التكويني في الإعتباري؟ فإنه اقتضائي لا غير، وأما إمكان رفع حديث الرفع له، ومطلق المشرِّع بما مشرع، فذلك لأن تأثير التكويني في الإعتباري إما تكويني محض أو هو مركب من تأثير تكويني اقتضائي وشرط شرعي اعتباري (أو عدم مانع اعتباري) فيكون أمر رفعه ووضعه بيد المشرِّع بما هو مشرِّع.
ويوضحه المثال التالي: أن إحراق متاجر أحد الأثرياء ومحلاته وبضائعه، أمر تكويني يؤثر في أمر اعتباري وهو قيمة أسهمه في الأسواق حيث تنخفض، لكنّ هذا التأثير اقتضائي، وللعقلاء بما هم معتبِرون (لا تكويناً فقط) أن يحولوا دون ذلك التأثير بإيجاد اعتبار مضاد حيث أن للحكومة مثلاً أن تقول بأنه إذا أحرقت محاصيل ومنتجات أي تاجر، فإننا، اعتباراً، سنرفع قيمة أسهمه في الأسواق، أي بما نملكه من اعتبار ونفوذ كلمة ومكانة لا بزيادة الطلب عليها ليكون من تأثير تكويني آخر في الإعتباري، بل بمجرد هذا الإعتبار، والحكمة في ذلك مراعاة مصلحة ردع أعداء التجار أو منافسي بعضهم من سائر التجار كي لا يحرقوا متاجر التاجر المنافس بغرض خفض قيمة أسهمه (والتي يكون انخفاضها عادة أكبر بكثير من الخسائر المادية التي يمنى بها).
لا يقال: لا ترتفع الأسهم أو تنخفض بمجرد اعتبار من الحكومة وكلام، دون فعل تكويني؟.
إذ يقال: بل ترتفع وتنخفض؛ ألا ترى مثلاً أن القوة الشرائية للعملة تنخفض أو ترتفع، وهي أمر اعتباري، بمجرد قرار من المصرف المركزي برفعها أو خفضها حتى من دون رفع وزيادة الغطاء المادي أو خفضه؟ ولذا تعترض عليها سائر الدول بذلك، إلا أن الواقع أنه ينخفض ويرتفع بقرار، ومن مصاديقه ما يسمى في الإقتصاد بإتباع الحكومة سياسة عدم مرونة سعر الصرف. وللبحث تتمة وصلة فانتظر
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله ((صلى الله علیه واله وسلام)): ((مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ)) (بحار الأنوار: ج1 ص184)
--------------------------
([1]) وهذا كلام الايرواني، بعبارة أخرى وإضافة.
([2]) الحاج ميرزا علي الايرواني الغروي، حاشية المكاسب، الناشر: ذوي القربى ـ قم، ط3 ج2 ص168.
([3]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم، ج2 ص430.
([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، كتاب البيع، ج3 ص43.
([5]) المصدر.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(585)
وعوداً إلى فقه حديث الرفع نقول: إنّه مضى الخلاف في معنى الرفع والمراد منه بين مضيّق جداً وموسّع جداً ومفصّل، فمن المضيقين جداً: الشيخ ((قدس سره)) حيث فسّره برفع المؤاخذة، ومن الموسّعين من قال أنه يعني رفع قلم التكليف والوضع ولعله المشهور، ومن الموسّعين جداً من قال أنه يشملهما وقلمَ كتابة السيئات وقلم كتابة الحسنات وغيرهما من الأقلام الستة الماضية، وهو ما ذهب إليه السيد الوالد ((قدس سره)).
وعلى التوسعة والشمول للحكم الوضعي وأن حديث الرفع يرفعه، يبتني قول المشهور بأن معاملات الصبي باطلة، لأن صحة البيع وسببيته للنقل والإنتقال لهي من الأحكام الوضيعة وقد رفع القلم، بما فيه قلم الأحكام الوضعية، عن الصبي.
الايرواني: رفع الحديث للحكم الوضعي عن عقد الصبي، محال
لكنّ المحقق الايرواني ((قدس سره)) أشكل على الشيخ، الذي أنكر المبنى أي الشمول للحكم الوضعي.. كمناقشة منه للذي بُنِي عليه أي بطلان العقد، بأنّ([1]) قبول المبنى لا يجدي لإثبات البطلان، كي نحتاج إلى إنكاره فنفرع عليه الصحة التي هي على الأصل العقلائي في الصبي المميز؛ وذلك لأن تأثير عقد الصبي أمر تكويني وهو يحصل قهراً بالعقد، وحديث الرفع من دائرة التشريع والأمر التشريعي لا يتصرف في دائرة التكوينيات، فحديث الرفع أجنبي تماماً عن إثبات أو نفي الصحة والبطلان، بمعنى التأثير وعدمه، على كافة المباني.
قال الايرواني: (ورابعاً: إنّا لو سلّمنا عموم الحديث وشموله لرفع كلّ حكم تكليفي أو وضعي، لا يجدي ذلك في صحة الإستدلال بالحديث لرفع التأثير عن إنشاء الصغير؛ وذلك أنّ تأثير الإنشاء في حصول عنوان الـمُنشَأ كعنوان النكاح والبيع تأثير تكويني في أمر اعتباري فيكون كتأثير سيفه في القطع وقلمه في الكتب، وهذا لا يرفعه حديث الرفع)([2]).
وقد أذعن (العقد النضيد) لذلك المدعى (وذلك أنّ تأثير...) فقال: (أقول: أمّا ما جاء في صدر كلامه فلا نقاش فيه، لأنّ تأثير الإنشاء في العنوان والمنشأ تأثير تكويني بالنسبة إلى الأمر الإعتباري، فإنّ الإنشائيات تتحقق من خلال الإنشاء تكوينياً، سواءً كان الإنشاء صادراً عن الصبي أو البالغ، إذ بإنشاءهما يتحقق العنوان)([3]).
المناقشات
ولكنّ الحق أن هذا المدعى غير صحيح لوجوه بين صغروي وكبروي:
1- لا تأثير لإنشاء الصبي، في اعتبار العقلاء والشارع
الوجه الأول: ما أشكل به السيد الوالد بما يعود إلى إشكال صغروي، إذ قال: (وعلى الرابع: ان الأثر المترتب على الإنشاء في العقد قد يكون شخصياً يبنى عليه نفران من دون غيرهما، وقد يكون عقلائياً – لا بمعنى ما عبد به الرحمن إلخ – بل بمعنى مقابل المجانين وإن لم يقبله الشارع، وقد يكون شرعياً وإن لم يقبله العقلاء، وقد يتفقان – حيث بينهما عموم من وجه – وقد يكون للغير لا للنفس كعقد المسلم أخت المجوسي لنفسه، وقد يكون العكس كعكس المثال. وفي كل الحالات هو أمر اعتباري لا تكويني)([4]).
وقال: (فان تأثير الإنشاء في حصول العنوان جعلي عقلائي قد يؤيده الشارع لواجديّته لما اعتبره من الشرائط والأجزاء وفقده الموانع والقواطع وقد لا يؤيده لعدمها كما أن ما يعتبره الشارع قد يعتبره العقلاء وقد لا يعتبروه كذلك. وحيث ان البلوغ والرشد من قيود الشارع لم يكن بدونها أثر)([5]).
إيضاح: الشرعي الذي لا يقبله العقلاء (ولا يراد به جميعهم، بل الكثير منهم) العقد والطلاق الشرعيين حيث أن أغلب دول العالم لا تقبلهما بل تشترط العقد والطلاق المدني، وأما العكس (العقلائي الذي لا يقبله الشارع) فكعكس المثال: فإن الطلاق المدني، بدون حضور شاهدين عادلين... صحيح لدى العقلاء دون الشارع.
أقول: وبعبارة أخرى مع نوع تغيير وتطوير: (إن تأثير الإنشاء في حصول الـمُنشَأ الشخصي) هو تأثير قهري فإنه إذا أنشأ شخص أمراً لزمه قهراً حصول المنشأ إذ الإنشاء للـمُنشَأ كالكسر بالنسبة للإنكسار فإذا حصل الكسر حصل الإنكسار وإذا لم يحصل الإنكسار فلا محالة لم يحصل كسر، فلا يعقل أن يقال بحصول الإنشاء من الصبي (لأنه مميز قاصد على الفرض) وعدم حصول المنشأ الشخصي حينئذٍ.
ولكنّ تأثير الإنشاء في حصول المنشأ العقلائي أو الشرعي، ليس قهرياً، ولا تابعاً لإنشاء الصبي أو أي شخص آخر، وذلك لأن المنشأ العقلائي والشرعي تابع لإنشاء العقلاء أو الشرع لا لإنشاء الصبي، والمفروض أن المطلوب في البحث عن عقود الصبي، إثبات صحة أو بطلان عقوده بنظر الشارع وفي عالم اعتباره (أو في نظر العقلاء وعالم اعتبارهم) أي ترتيبه الأثر عليه وعدمه، لا صحته وبطلانه في عالم الصبي الشخصي، فإذا شمل حديث الرفع الأحكام الوضعية، ومنها الصحة، كان معناه ارتفاع الصحة أي التأثير (في النقل والإنتقال) الشرعي أو العقلائي.
2- وليس من قبيل تأثير التكويني في الإعتباري
الوجه الثاني: وهو ما أشكل به الوالد أيضاً لكن مزيجاً بوجهه الأول هو أن المقام (تأثير عقد الصبي في النقل والإنتقال) ليس من قبيل تأثير الأمر التكويني في الأمر الإعتباري، بل هو اعتباري محض وجعلي مجعول للشارع أو للعقلاء. وسيأتي بيان هذا الوجه والكلام عنه.
3- وتأثير التكويني في الإعتباري، مقتضٍ، وللمشرِّع رفعه
الوجه الثالث: مانضيفه إشكالاً ثالثاً كبروياً، وهو أن مبنى كلام المحقق الايرواني على أن تأثير الأمر التكويني في الأمر الإعتباري مما لا يمكن رفعه بحديث الرفع وأي أمر آخر من عالم التشريع، ولكن لنا أن ننكر الكبرى ونقول إن تأثير الأمر التكويني في الإعتباري، اقتضائي فيمكن رفعه أو منعه، ألا ترى أنّ تأثير النار في الإحراق، وكلاهما تكويني، اقتضائي لذا يشترط المحاذاة الخاصة ويشترط عدم المانع في الشيء الملقى فيها (فإذا طلي بمادة كيماوية عازلة لم يحترق)؟ بل نقول: إنه لا توجد علّة تامة إلا إرادة الله تعالى، فإن النار حتى إذا توفرت كافة شرائطها وانتفت كافة موانعها لا تُحرِق إذا لم يأذن الله تعالى، كنار إبراهيم ((عليه السلام)).
فإذا كان تأثير التكويني في التكويني اقتضائياً قابلاً للرفع، فما بالك بتأثير التكويني في الإعتباري؟ فإنه اقتضائي لا غير، وأما إمكان رفع حديث الرفع له، ومطلق المشرِّع بما مشرع، فذلك لأن تأثير التكويني في الإعتباري إما تكويني محض أو هو مركب من تأثير تكويني اقتضائي وشرط شرعي اعتباري (أو عدم مانع اعتباري) فيكون أمر رفعه ووضعه بيد المشرِّع بما هو مشرِّع.
ويوضحه المثال التالي: أن إحراق متاجر أحد الأثرياء ومحلاته وبضائعه، أمر تكويني يؤثر في أمر اعتباري وهو قيمة أسهمه في الأسواق حيث تنخفض، لكنّ هذا التأثير اقتضائي، وللعقلاء بما هم معتبِرون (لا تكويناً فقط) أن يحولوا دون ذلك التأثير بإيجاد اعتبار مضاد حيث أن للحكومة مثلاً أن تقول بأنه إذا أحرقت محاصيل ومنتجات أي تاجر، فإننا، اعتباراً، سنرفع قيمة أسهمه في الأسواق، أي بما نملكه من اعتبار ونفوذ كلمة ومكانة لا بزيادة الطلب عليها ليكون من تأثير تكويني آخر في الإعتباري، بل بمجرد هذا الإعتبار، والحكمة في ذلك مراعاة مصلحة ردع أعداء التجار أو منافسي بعضهم من سائر التجار كي لا يحرقوا متاجر التاجر المنافس بغرض خفض قيمة أسهمه (والتي يكون انخفاضها عادة أكبر بكثير من الخسائر المادية التي يمنى بها).
لا يقال: لا ترتفع الأسهم أو تنخفض بمجرد اعتبار من الحكومة وكلام، دون فعل تكويني؟.
إذ يقال: بل ترتفع وتنخفض؛ ألا ترى مثلاً أن القوة الشرائية للعملة تنخفض أو ترتفع، وهي أمر اعتباري، بمجرد قرار من المصرف المركزي برفعها أو خفضها حتى من دون رفع وزيادة الغطاء المادي أو خفضه؟ ولذا تعترض عليها سائر الدول بذلك، إلا أن الواقع أنه ينخفض ويرتفع بقرار، ومن مصاديقه ما يسمى في الإقتصاد بإتباع الحكومة سياسة عدم مرونة سعر الصرف. وللبحث تتمة وصلة فانتظر
قال رسول الله ((صلى الله علیه واله وسلام)): ((مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ)) (بحار الأنوار: ج1 ص184)
([2]) الحاج ميرزا علي الايرواني الغروي، حاشية المكاسب، الناشر: ذوي القربى ـ قم، ط3 ج2 ص168.
([3]) الشيخ محمد رضا الانصاري القمي، العقد النضيد، دار التفسير ـ قم، ج2 ص430.
([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، كتاب البيع، ج3 ص43.
([5]) المصدر.