بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(39)
الدليل الثالث، مرجِعٌ أو مرجّحٌ أو كلاهما
والحاصل: ان الدليلين، كالخبرين أو البينتين، لو تعارضا فان الدليل الثالث، كظاهر الكتاب، أو كالظن المطلق في مفروض البحث، قد يكون مرجعاً كما قد يكون مرجّحاً، بل، وفيما نرى، فانه لا مانعة جمع بين ان يكون مرجعاً ومرجّحاً فهنا ثلاث صور:
أما المرجعية فبناءً على تساقط المتعارضين بعد تكافؤهما أو كون المرجّح غير منصوص، كالظن المطلق، فيرجع إلى العام الفوقاني.
وأما المرجّحية فبناء على التخيير بين المتعارضين ولو كأصل ثانوي مستفاد من الأخبار وبناء على عدم كونه، أي الظن المطلق مثلاً، حجة، فانه ليس مرجعاً لكنه مرجح على رأي، وليس بمرجّح على رأي آخر.
وأما المرجعية والمرجّحية فبناء على كونه حجة فهو مرجح لأحد الخبرين ومرجع في الوقت نفسه إذ أخذ لا بشرط كما مضى، ونقصد بالمرجع ما يمكن ان يستدل به بنفسه سواء خلي عن غيره، كالخبر الموافق له من المتعارضين أم لا، لا ما يرجع إليه بعد التساقط، كما نقصد بالمرجّح ما يرجح مضمون أحد الخبرين، في مادة الاجتماع، مع حجية الخبر الآخر في غيرها([1]) فلا يخلّ بالسند، وقد نقصد به مرجّح حجية أحدهما على الآخر بمعنى معيّن أحدهما للحجية فيكون مميزاً بين الحجة واللاحجة ويكون مخلّاً بالسند كما سيأتي غداً بإذن الله تعالى.
ويمكن إيضاح الأمر في ضمن مثالين، أولهما: ما لو تعارضت ثلاثة أدلة بالعموم من وجه، والثاني: ما لو تعارض اثنان منهما بالعموم من وجه ولكن كانت نسبة أحدهما مع الثالث العموم والخصوص المطلق.
فلنوضح المسألة بما لو كان الدليل الأول ظاهر الكتاب (ثم نسوق الظن المطلق ذلك المساق، مع بيان فارقه عن ظاهر الكتاب):
الأدلة المتعارضة بنحو العموم والخصوص من وجه
1- لو وجدت أدلة نقلية ثلاثة النسبة بينها من وجه، وكان الأول هو ظاهر الكتاب، فانه يكون مرجعاً كما يكون مرجّحاً، فلو ورد([2]):
(أكرم العلماء) ولنفرضه الآن ظاهر الكتاب.
وورد: (لا تكرم الشعراء).
وورد أيضاً: (أكرم من في المدينة) مع كون من فيها خليطاً من العلماء والجهال والشعراء وغيرهم وكون بعض العلماء والشعراء في خارجها.
فان النسبة بين كل واحد من الأدلة الثلاثة وغيره هي من وجه، ففي مادة اجتماع الثلاثة وهي (العالم الشاعر الذي في المدينة) فان مقتضى الدليل الثاني (لا تكرم الشعراء) عدم إكرامه لأنه شاعر، ومقتضى الدليل الثالث إكرامه (لأنه في المدينة) وحيث ان الكتاب، على الفرض، أفاد وجوب إكرام العلماء:
أ- فانه يكون المرجع في (العالم الشاعر الذي بالمدينة) فيجب إكرامه استناداً إلى ظاهر الكتاب بعد تعارض الدليل الثاني مع الثالث، وذلك([3]) مع القول بتساقطهما في مادة الاجتماع واضح وأما مع القول بعدم تساقطهما والقول بالتخيير بينهما (وأنّ له ان يكرمه لأنه بالمدينة وله ان لا يكرمه لا شاعر) فان الكتاب أيضاً يصلح مرجعاً لكن بمعنى اللابشرطية كما سبق، أي ان نستند إليه في وجوب إكرامه فهو دليل مستقل سواء وجد المتعارضان أم لا.
ب- كما انه يكون المرجّح للثالث وهو أكرم من في المدينة، ومعنى مرجحيته اما ان الثاني حجة اقتضائية لا فعلية نظراً لمنع اعتضاد الثالث بالأول، أو هو حجة فعلية كما هو المنصور من التخيير فتكون فائدة المرجّحية التأكيد أو الأفضلية، نظير ما قاله الآخوند من أفضلية الترجيح بالمرجحات المنصوصة. فتأمل([4]).
1- مخطط المتعارضات بالعموم من وجه

المتعارضان بنحو من وجه مع ثالث أخص مطلقاً من أحدهما
2- كما ويمكن ان نمثل لمرجعية ظاهر الكتاب مع كونه مرجِّحاً لأحد المتعارضين، بما لو وجد خبران النسبة بينهما العموم من وجه، مع كون أحدهما أخص من الكتاب (وكذا غير كالظن المطلق كالشهرة مثلاً) مطلقاً، فانه لو انفرد عن معارضة الخبر الآخر لخصّص الكتاب، لكنه حيث عارضه خبر بالعموم من وجه، فانه لا يخصص الكتاب، بناء على ملاحظة النسبة بينهما جميعاً في عرض واحد([5]) فيكون الكتاب مرجعاً كما يكون مرجّحاً للعام من وجه الذي يوافقه في مادة اجتماعه، مع بقاء حجية الخبر الآخر في مادة افتراقه، وتوضيحه بالمثال:
لو ورد (أكرم العلماء) ولنفرضه من ظاهر الكتاب.
وورد لا تكرم الأطباء.
وورد أكرم من في المدينة.
فان الثاني أخص من الأول مطلقاً إذ العالم يتنوع بين طبيب ومهندس وفقيه و...، وأما الأول مع الثالث فان النسبة بينهما من وجه، فلو كنّا والأول والثاني فقط لخصّص الثاني الأولَ، لكن حيث تعارض الثاني مع الثالث بالعموم من وجه، فان الثاني لا يمكن له تخصيص الأول إذ انه قد وَهَن بمعارضه الثالث له، فتكون الأدلة الدالة على الرجوع إلى الكتاب هي الملجأ، فأولاً: يكون الدليل الأول مرجّحاً للثالث على الثاني في مادة الاجتماع وهي (الطبيب الذي بالمدينة) وثانياً: يكون الأول (أو يصلح) بنفسه مرجعاً بعد ان لم يمكن للثاني تخصيصه، فهو مرجع ومرجّح، وأما الطبيب الذي ليس بالمدينة (وهو من دائرة الثاني دون الثالث) فانه يخصص الأول فلا يُكرَم، إذ سلم عن المعارض مع كونه أخص من الكتاب فيتقدم عليه. فتأمل([6])، لكن ذلك كله مفروض على مبنى الشيخ الآخوند من ملاحظة النسبة الأولية بين الأدلة المتعارضة، فلا يلزم انقلاب النسبة فتدبر.
2- مخطط المتعارضين من وجه مع وجود دليل أخص من أحدهما مطلقاً:

وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَا جُمِعَ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ حِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ)) (الأمالي للصدوق: ص295).
--------------
([1]) غير مادة الاجتماع.
([6]) إذ المدار على الظهور العرفي، لا التحليل الأصولي والمنطقي. فتدبر.


([1]) غير مادة الاجتماع.