بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(40)
الفرق بين المرجّح لأحد الخبرين وبين المميز للحجة عن اللاحجة
وخلاصة القول: ان الدليل الثالث، قد يكون مميّزاً للحجة عن اللاحجة، وقد يكون مرجّحاً، وقد يكون مرجعاً طولياً وقد يكون مرجعاً عرضياً:
فأما المميّز للحجة عن اللاحجة، ففيما لو لم يكن لأحدهما مقتضٍ للحجية ولم تشمله أدلة الحجية رأساً، وأما المرجّح ففيما لو كان المقتضي لحجية كليهما موجوداً والأدلة تشملهما معاً، ولكن ابتلي كل منهما بالمعارض فالمشكلة في المانع لا في المقتضي.
وسيأتي الكلام عن الأخيرين (المرجع الطولي والعرضي)، وإنما الكلام الآن في الأولين وتوضيحهما:
انه تارة يكون كلا الدليلين حجة في حد نفسه، لجامعيته للشرائط، فيُبحث حين تعارضهما عن المرجّح لأحدها على الآخر، فلو كان كلا الخبرين جامعاً لشرائط الحجية كالوثاقة أو العدالة والضبط، وتعارضاً، فان المرجّح مثلاً كون أحدهما أعدل أو أفقه أو أورع أو أصدق في الحديث حسب المقبولة ((الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا...))([1]) بناء على شمولها للترجيح بين الروايتين إطلاقاً أو ملاكاً، وعدم اختصاصها بباب القضاء والحكم.
وتارة يكون أحدهما حجة دون الآخر كما لو اختلطت الحجة بغير الحجة، كما لو ورد خبران أحدهما مسندٌ، رجاله كلهم ثقات والآخر رجاله أو بعضهم ضعاف أو مجاهيل، ثم ضاع سندهما أو أهمله الراوي عمداً لجهة، ككتاب تحف العقول مثلاً، حيث حذف الأسانيد روماً للاختصار أو اعتماداً على صحة الروايات كلها لديه.
الظنون النوعية مرجّحة
وفيما نحن فيه: فانه لا شك في:
أ- ان الظنون النوعية، كالوثاقة والصدق تصلح مرجّحاً.
ظاهر الكتاب مميز للحجة عن اللاحجة، على رأي
ب- ولكن يبقى البحث في أعلاها مرتبةً وهو ظاهر الكتاب فلو وافق ظاهر الكتاب أحد الخبرين المتعارضين، الذين كانت نسبه كل منهما إليه هي العموم والخصوص المطلق ولكن كانت نسبة أحدهما إلى الآخر التباين، فهل الكتاب مميز للحجة عن اللاحجة مما يعني ان الخبر المعارض ليس حجة اقتضاءً، أو هو مرجّح مما يعني ان الخبر المعارض حجة اقتضاءً لكنه محكوم عليه بالخبر الموافق ومرجوح، اختار الآخوند (قدس سره) المميّزية واختار بعض المرجّحية، قال في الكفاية: (وأمّا إذا اعتضد بما كان دليلاً مستقلاً في نفسه، كالكتاب والسنة القطعية، فالمعارض المخالف لأحدهما: إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنّه المتيقن من الإخبار الدالة على إنّه زخرف أو باطل، أو أنّه: لم نقله ، أو غير ذلك.
وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضية القاعدة فيها، وأنّ كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعييناً أو تخييراً، لو لم يكن الترجيح في الموافق، بناءً على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، إلّا أن الإخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة، لو قيل بإنّها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة، كما نزلناها عليه، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله، فإنّهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في إحدهما على خلاف المخالفة في الأخرى، كما لا يخفى)([2]) وقال في الوصول:
("وأما اذا اعتضد" أحد الخبرين المتعارضين "بما كان دليلاً مستقلاً في نفسه كالكتاب والسنة القطعية" بأن كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب أو للسنة القطعية "ف" المخالف على قسمين: الأول: المخالف بالمباينة. الثاني: المخالف بالعموم والخصوص.
أما الاول: فكما اذا قال الكتاب (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ)([3]) وقال الخبر «يجب الحج على كل مستطيع» وقال الخبر الآخر المعارض له «لا يجب الحج على المستطيع»، فانه لا شك في وجوب اسقاطه حتى و لو لم يكن له معارض في باب الاخبار.
وأما الثاني: كما لو قال الخبر المعارض- في المثال السابق- «لا يجب الحج على المرأة المستطيعة» وقال الخبر الموافق «يجب الحج على المرأة المستطيعة» فانه يخبر بينهما واذا أخذ بالمخالف خصص به الكتاب)([4]) وقال: ("وان كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق" كالقسم الثاني "فقضية القاعدة فيها" أي في المخالفة بهذا النوع. "وان كانت ملاحظة المرجحات بينه" أي بين هذا الخبر المخالف "وبين الموافق" للكتاب "وتخصيص الكتاب به" أي بالمخالف "تعيينا" لو كان المرجح للمخالف "أو تخييرا" لو لم يكن في أحدهما مرجح "لو لم يكن الترجيح في الموافق" و إلّا أخذ به "بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد" متعلق بقوله «وتخصيص».
"إلّا" ان الظاهر الاخذ بالخبر الموافق للكتاب ولو كان مخالفه أخص من الكتاب - كما في مثال القسم الثاني- فـ"ان الاخبار الدالة على أخذ الموافق" للكتاب "من المتعارضين" أعم من كون المخالف مباينا أو أخص مطلقاً، لأن هذه الأخبار "غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة" أي صورة أخصية المعارض "لو قيل بأنها" أي الاخبار الدالة على أخذ الموافق "في مقام ترجيح أحدهما" على الآخر "لا" في مقام "تعيين الحجة عن اللاحجة كما نزلناها" أي نزلنا أخبار العلاج المرجحة لموافقة الكتاب "عليه" أي على كونها في مقام تعيين الحجة عن اللاحجة.
وعلى هذا فالخبر المخالف ولو بنحو الاخصية ليس حجة أصلاً لا انه حجة في نفسه ولكنه ساقط بالمعارضة)([5]).
هل يمكن ان تكون الظنون المطلقة مميزة للحجة عن اللاحجة؟
ج- فهذا عن الظنون النوعية أولاً ثم عن أعلاها وهو الكتاب، وأما الظنون المطلقة، فانه قد يقال انه لا مجال لكي يُميَّز بها الحجة عن اللاحجة بل غاية الأمر الترجيح، فان الظنون النوعية، إلا أعلاها، إنما تفيد الترجيح لا التمييز([6]) فكيف بالظنون المطلقة؟
لكن الأصح انه يمكن تصور القول بان الظن المطلق وإن لم نقل بحجيته، يصلح، في طور البحث، كمميِّز للحجة عن اللاحجة، وذلك كما لو ظننا ظناً مطلقاً بان أحد الخبرين موافق للكتاب، كما لو اشتهر بين المفسرين ان ظاهر الآية كذا، أو كان على طبق مضمون أحد الخبرين السياق القرآني أو دلّ عليه الاستقراء الناقص في الآيات الكريمة خلافاً للخبر الآخر، فإن المشهور ان السياق ليس حجة، إلا انه يورث الظن المطلق فقد يقال بان موافقة السياق القرآني، لأحد الخبرين مميز للحجة عن اللاحجة، لشمول قوله (عليه السلام): ((وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنَا تَعَالَى وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)))([7]) بدعوى انه يصدق عليه عرفاً بالحمل الشائع انه مخالف، وقد يرفض ذلك ولكن يقال بانه مرجّح، وهو مورد البحث، وقد يرفض كلاهما فلا مميّز ولا مرجّح، وذلك هو ما قلناه من ان الظن المطلق (يصلح) ان يقع مورداً للبحث في انه مميز أو مرجّح أو لا شيء منهما.
طوائف الروايات الثلاث في الموافق والمخالف للكتاب
تنبيه: الروايات التي يستظهر منها ان مخالفة الكتاب أو موافقته، من المرجحات لاحدى الحجتين على الأخرى أو من المميزات بين الحجة واللاحجة، على طوائف ثلاثة:
الطائفة الأولى: رواية السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَ عَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ))([8]) وقوله (عليه السلام): ((مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ))([9]) فهاتان الروايتان تتطرقان إلى صورتين: الموافقة والمخالفة.
الطائفة الثانية: رواية ابن بكير عن الإمام الباقر (عليه السلام): ((وَإِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ عَلَيْهِ شَاهِداً أَوْ شَاهِدَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَخُذُوا بِهِ وَإِلَّا فَقِفُوا عِنْدَهُ ثُمَّ رُدُّوهُ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكُمْ...))([10]) فهذه الرواية أضافت قسماً ثالثاً وهو ما ليس بموافق ولا مخالف حيث يجب الوقف عنده.
الطائفة الثالثة: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ))([11]).
والظاهر ان المراد من ((لَمْ يُوَافِقْ)) أي ما خالف، بقرينة الطائفتين الأولى والثانية، ولأنه تعبير عرفي متداول إذ تقول أنا غير موافق تعني انك مخالف، وان كان أحياناً يراد به انه متوقف، كما يؤيده بداهة انه لا يشترط في الأخذ بالحديث موافقته للكتاب فيما نفهمه منه وإن كان لكل شيء أصلاً في الكتاب ولكن لا يعلمه إلا (الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)([12]).
وحاصل الشاهد ان ما خالف كتاب الله تعالى لا مقتضي للحجية فيه لصريح الرواية انه ((زُخْرُفٌ)) ((لَمْ أَقُلْهُ)) لا انه مجرد مانع عن الحجية حتى بناء على القول بحجية الخبر من باب الظن النوعي، فهذه خصوصية المخالفة لكتاب الله، ولكن هل يعقل ان يكون الظن المطلق كذلك وهو أدون من الأدون من الكتاب؟ (والأدون منه هو الظنون النوعية؟) ذلك هو ما أجبنا عنه قبل قليل فلاحظ.
لا يصح تفسير الكتاب بالاستقراء الناقص
إضافة: الاستقراء الناقص ليس حجة، ولكن دَرَج بعض على استقراء موارد استعمال مجموعة من الآيات ثم تعميم المعنى المستفاد منها أو الحكم، لكل مورد آخر ورد فيه ذلك اللفظ، ولكن ذلك غير صحيح، فلو وردت لفظة العباد أو العبيد مائة مرة فرضاً ووجدنا بالاستقراء في 99 مورداً انها تعني كذا (مما هو أخص من المعنى العرفي أو اللغوي، أو أعم) فان المورد المائة لا يمكن الحكم عليه بذلك لمجرد هذا الاستقراء الناقص. فتدبر.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((أَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ لِلْمَرْءِ سَبْقُهُ النَّاسَ إِلَى عَيْبِ نَفْسِهِ)) (الكافي: ج8 ص243)
--------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص67.
([3]) سورة آل عمران: الآية 97.
([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصول إلى كفاية الأصول، دار الحكمة ـ قم، ج5 ص381-382.
([6]) إلا ما اعتبره البعض نظيراً لظاهر الكتاب مميزاً للحجة عن اللاحجة، كالموافقة والمخالفة للعامة.
([8]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص69.
--------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص67.