بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(41)
الظن المطلق مستنَد للترجيح، بالمرجحات الخارجية
ومن ثمرات القول بحجية الظن المطلق، الترجيح بالمرجحات الخارجية لكونها من مصاديقه، كالترجيح بالمرجحات الداخلية التي تستند إلى النصوص الخاصة، فالفارق ان الأخيرة حجة من باب الظن الخاص والأولى حجة من باب الظن المطلق، وتوضيحه:
الفرق بين المرجحات الداخلية والخارجية
ان احد الدليلين تارة يكون أقوى من الدليل الآخر، في نفسه وبما هو هو إما سنداً أو دلالة، أي انه بما هو دليل يكون أقوى سنداً أو دلالة من الآخر، وأخرى يكون أقوى مضموناً، بان يكون مضمونه، أو مدلوله لا بما هو مدلول له، أقرب للواقع من مضمون الآخر مع قطع النظر عن ورود دليل عليها، وبعبارة موجزة: (أقوى الدليلين وأرجحهما) يختلف عن (أقوى المضمونين وأقربهما للواقع).
والمرجحات الداخلية تفيد اقوائية أحد الدليلين، وأما المرجحات الخارجية فتفيد أقربية أحد المدلولين / المضمونين، إلى الواقع.
الشهرة الروائية مرجّح داخلي، والفتوائية مرجّح خارجي
ويتّضح الفرق أكثر بالتمثيل بالشهرة الروائية والفتوائية، فان الشهرة الروائية التي تعني اشتهار نقل الرواية في كتب الأحاديث أو عند الأصحاب، مرجّح صدوري داخلي، أما الشهرة الفتوائية (وهي غير الشهرة العملية التي تعني ان يكون عملهم على طبق احدى الروايات مستندين إليها، فهي مرجّح خارجي مضموني، وذلك لأن تكرّر نقل الرواية في كتب الأخبار يقوّي كونها صادرة عن المعصوم (عليه السلام) وعدم الخطأ في نقلها عنه، فهو مرجّح لصدورها فهو داخلي أي قائم بالرواية نفسها، وأما تطابق الفتاوى مع مضمون احدى الروايتين ولكن من غير استنادهم إليها، فانه يقوي المضمون وان الحكم المدلول عليه باحدى الروايتين أقرب لأن يكون هو حكم الله من الرواية الأخرى، لكن من غير ان يقوي صدور هذه الرواية المطابقة له إلا إذا علم استنادهم إليها فتكون شهرة عملية؛ إذ يحتمل ان يكونوا استندوا في الفتوى إلى آية كريمة أو إلى أصل عملي (مطابق للرواية) من غير علمهم بالراوي أو من دون التفاتهم إلى تمامية الاستناد إليها أو غير ذلك، والاستصحاب خير شاهد حيث كان المشهور يقولون بحجيته استناداً إلى دليل العقل أو بناء العقلاء، من دون ان يستندوا إلى صحاح زرارة الثلاث أو الاربع، حتى اكتشف والد الشيخ البهائي إمكان الاستناد إليها في القول بحجية الاستصحاب فانقلبت بعده الشهرة إلى التمسك بالروايات أولاً قبل التمسك بالعقل أو البناء، ومن وجوه التمسك بالروايات ان لها الإطلاق عكس العقل والبناء فانهما لبّيان.
والحاصل: ان كل ما أوجب قوة لسند أحد الخبرين أو دلالته، فهو مرجّح داخلي صدوري أو دلالي، وما لم يوجب ذلك بل أوجب أقربية مطابقة مضمونه للواقع حتى مع فرض عدم صدور الخبر أو مع قطع النظر عن صدوره، فهو مرجّح خارجي مضموني.
مرجّحات خارجية أخرى
ومن أمثلة المرجّحات الخارجية إضافة للشهرة الفتوائية، الإجماع المنقول، والاستقراء الناقص المرجح لكون سائر الموارد مثله فهو خارجي إذ لا يرجح الصدور بل المضمون فقط، وكذلك الأولوية الظنية.
أمثلة للمرجّحات الداخلية
وأما المرجّحات الداخلية فكما قال الشيخ (قدس سره): (وليعلم أولاً: أنّ محلَّ الكلام - كما عرفت في عنوان المقامات الثلاثة، أعني: الجبر، والوهن، والترجيح - هو الظن الذي لم يعلم اعتباره. فالترجيح به من حيث السند أو الدلالة ترجيحٌ بأمرٍ خارجي.
وهذا لا دخل له بمسألةٍ أخرى اتفاقية، وهي وجوب العمل بأقوى الدليلين وأرجحهما، فإنّ الكلام فيها في ترجيح أحد الخبرين الذي يكون بنفسه أقوى من الآخر من حيث السند، كالأعدل والأفقه أو المسند([1]) أو الأشهر روايةً أو غير ذلك، أو من حيث الدلالة، كالعام على المطلق، والحقيقة على المجاز، والمجاز على الإضمار، وغير ذلك)([2]).
وأيضاً من أمثلة المرجحات الداخلية ما ذكره في موضع آخر (وحينئذ فنقول: إذا كان أحدُ الراويين أضبط من الآخر، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى، أو شبه ذلك، فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر، ونتعدى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيته لم تعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية، فإذا كان أحد الخبرين منقولاً باللفظ والآخر منقولاً بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق)([3]).
وليس محل الكلام الآن عن وجه قوله (قدس سره) بالتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غير المنصوصة بل المقصود التمثيل للمرجحات الداخلية إذ لا شك في ان كون أحد الراويين أضبط، يورث اقوائية الظن بان خبره هو الصادر عن المعصوم (عليه السلام) لا الخبر المعارض له الصادر عن غير الأضبط لأن احتمال الغفلة والخطأ في الأخير أكبر، وكذا النقل باللفظ مقابل النقل بالمعنى فانه مرجّح داخلي، وكذا لو نقل كلامهم (عليهم السلام) بالمعنى لكن كان أحدهما أفقه فانه مرجّح داخلي لأن يكون هذا هو الصادر من الإمام (عليه السلام) لا ذاك.
الثمرة: آية (لا تَقْفُ...) لا تمنع التمسك بالمرجّح الخارجي
إذا عرفت ذلك فنقول: ان مبحث حجية الظن المطلق يثمر فيما يثمر في صحة التمسك بالمرجحات الخارجية، حتى مع قطع النظر عن استدلالات الشيخ (قدس سره) في التعدي عن المنصوصة إلى غير المنصوصة (إذ انه اكتشف من الترجيح بالاصدقية والأوثقية في المقبولة والمرفوعة، ان الملاك هو كون احدهما أقرب إلى الواقع لا كون أحد الدليلين أقوى، واستدل بالترجيح بالشهرة معللاً بان المجمع عليه لا ريب فيه، على مرجحية كل مزية لأن الريب في ذيها أقل واحتمال الخلاف فيه أضعف.. الخ).
إذ نقول: ان الأدلة السابقة التي أقمناها على حجية الظن المطلق، من استقرار سيرة العقلاء على إتباع الظن المطلق لولا المانع، ومن كونه مصداقاً عرفاً لـ(لِيَتَفَقَّهُوا) وكونه مصداق التفريع في الرواية، إلى غير ذلك، لو تمت في حد ذاتها، فقد يعترض عليها بوجود المانع وهو قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)([4]) فيمكن الجواب:
أولاً: بتحولها إلى ظنون خاصة حسب تلك الأدلة (فيفيد بناءُ العقلاء حجيةَ كل ظن فتكون كل الظنون ظنوناً خاصة، وتفيدُ (لِيَتَفَقَّهُوا) و((عَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ)) حجيةَ الاجتهاد المستند إلى الظن المطلق).
ثانياً: بانها وإن لم تُفِد تحولها إلى ظنون خاصة بل تبقى ظنوناً مطلقة بمعنى ان انسداد باب العلم هو الذي صار بنا إلى حجيتها وان بناء العقلاء في صورة الانسداد وان (لِيَتَفَقَّهُوا) على مراتب ولا تصل النوبة إلى المتأخر، أي الظن المطلق، مع وجود المتقدم، لكنها تفيد حجيتها حينئذٍ من باب الظن المطلق، فيرد عليها حينئذٍ ان الآية (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) تمنع حجيتها، فيمكن الجواب عن الآية أولاً: بانصرافها عنها إلى صورة الانفتاح، وثانياً: وهو الشاهد، ان العمل لدى تعارض الخبرين الجامعين للشرائط، باحدهما استناداً إلى المرجّح الخارجي والظن المطلق كالشهرة الفتوائية، هو عمل بالخبر الجامع للشرائط فهو قَفْوٌ بعلم وليس عملاً بالشهرة (غير الحجة على الفرض) ليكون عملاً بغير علم، وإنما استندنا إلى الشهرة لمنع الخبر المخالف من ان يمنعنا عن قفو الخبر الأول (العلمي).
والحاصل: ان العمل بالخبر ذي المزية والمرجح الخارجي خارج موضوعاً عن دائرة الآية (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وإن كان المرجّح الخارجي علة طوليه لإبقائه على حجيته؛ وذلك لأن العمل، بالحمل الشائع الصناعي، هو بالخبر لا بالمرجّح فلا تشمله الآيات الرادعة عن قفو غير العلم أو إتباع الظن. فتأمل وتدبّر والله العالم.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((رَوِّحُوا أَنْفُسَكُمْ بِبَدِيعِ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّهَا تَكِلُّ كَمَا تَكِلُّ الْأَبْدَانُ)) (الكافي: ج1 ص48)
------------
([1]) لعله: الأصدق.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج1 ص605.
------------
([1]) لعله: الأصدق.