||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 149- فائدة أدبية صرفية: صيغ المبالغة قد يراد بها افادة الشدة او الترسخ لا الكثرة والتكرر

 من سيظهر دين الله ؟

 117- بحث اصولي: تحديد مواطن مرجعية العرف في النصوص والفاظها

 130- من فقه الحديث: تحليل قوله صلى الله عليه وآله: (ورجلاً احتاج الناس اليه لفقهه فسألهم الرشوة)

 281- فائدة أصولية: منجزية العلم الإجمالي

 313- (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) 1 الأرض للناس لا للحكومات

 250- مباحث الاصول: (الحجج والأمارات) (8)

 150- العودة الى منهج رسول الله واهل بيته (عليهم السلام) في الحياة ـ3 الاصار والضرائب ، وباء الامم والشعوب

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 244- عبادة (الاشياء) والطوطم ـ والوجه في الجمع بين الروايات في بحث الغلو



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23954254

  • التاريخ : 18/04/2024 - 21:23

 
 
  • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .

        • الموضوع : 211- مظاهر الرحمة الكونية في السيرة النبوية والعلوية .

211- مظاهر الرحمة الكونية في السيرة النبوية والعلوية
الاربعاء 10 رجب 1436هـ





 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
الرحمة الكونية في السيرة النبوية والعلوية([1])
يقول تبارك وتعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([2])
ويقول جل اسمه:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)([3])
ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):
((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ كَيْفَ مَا دَار))([4])
الترابط الجوهري بين آية (الرحمة) وآية إكمال الدين
هناك ترابط جوهري بين الآية الأولى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وبين الآية الثانية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) وسيتضح ذلك عبر التوقف عند الآية الثانية والتدبر فيها إذ بها يتجلى عمق ذاك الترابط الجوهري، فهي كالتمهيد لإثبات ذلك وبرهنته وإيضاحه.
وهناك إضاءات كثيرة وبصائر في آية الاكمال نشير إلى بعضها هنا وبها يتضح عمق الترابط الجوهري بين آية الرحمة وآية الاكمال.
فنقول:
الإضاءة الأولى: (اكملت) التشريع و(اتممت) للتكوين
المستظهر أن المقطع الأول وهو قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...) يشير إلى البعد التشريعي، والمقطع الثاني وهو قوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) يشير إلى البعد التكويني، ومعنى ذلك ان الدين قد اكتملت أركانه في هذا اليوم، أي ان التشريع الإلهي لهندسة حياة البشرية على امتداد التاريخ قد أكتمل بوضع حجره الأساس وهو حجر الولاية بعد النبوة في ذلك اليوم، تشريعاً إذ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...) وتكوينا إذ (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) في هذا اليوم بنصب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين) بمعنى ان الله تعالى قد أكمل تكويناً علينا نعمته، فان حدث تقصير فيما بعد فهو من العباد وعليهم ان يتحملوا التبعات اما فيما كان ينبغي للكريم أن يفعله فقد أكمل التشريع وأتم النعمة تكويناً بتوفير مقتضياتها والطرق إليها.
الإضاءة الثانية: النعمة التكوينية في الولاية العلوية
ماذا تعني النعمة في الآية الكريمة ؟
الظاهر ان المراد بالنعمة هو: (النعمة التكوينية) والظاهر ان ما ذكره المفسرون في تفسير النعمة في الآية هو تفسير بالمصداق أي بأجلى المصاديق فقد فسرها بعض المفسرين بالعلم والحكمة وهو صحيح دون شك كأجلى مصاديق تلك النعمة التكوينية لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قال (صلى الله عليه وآله): ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيٌّ بَابُهَا فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْ مِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا))([5])
 وعندما نصب الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) الأمير (عليه السلام) كمولى لكل البشرية على امتداد التاريخ، فقد عرفّنا على بوابة العلم الصحيح، وعلى النبع الأصيل النقي العذب، وعلى الماء الفرات العذب، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ)
 وبالتالي يكون معنى إتمام النعمة – أي من أبرز مصاديقه بل أبرزها -: انه شرع لنا أبواب العلم والحكمة، ذلك العلم الذي يرتبط بالجانب النظري أو الأعم، والحكمة ترتبط بالجانب العملي، مما قد يُعبر عنهما بالحكمة النظرية والعملية.
كما ان البعض فسر المقطع الثاني وقوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالجنة، وهو أيضاً صحيح وهو تفسير بالمصداق أيضاً، فيكون معنى (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بأن أوجبت دخولكم الجنة إن التزمتم وإن أطعتم، أي ان من يقبل التوحيد ويعمل بمقتضياته ومستلزماته ويقبل النبوة والولاية ويمشي على هذا الدرب فقد وجبت له الجنة و تمت له النعمة.
إذن قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إشارة الى الجانب التشريعي، كما ان (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) إشارة إلى الجانب التكويني، ومنه: العلم، ومنه: الحكمة، ومنه: إيجاب الجنة، ومنها: غير ذلك مما يستدعي مجالاً آخر.
والحاصل: ان بالولاية العلوية تمام نعم الله التكوينية وكمالها ومن ذلك كله نكتشف عمق الربط بين الآيتين الشريفتين فان قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) يستفاد منه عمومية العلة الغائية للارسال وهي الرحمة للعالمين، أي انه يستفاد منها ان من مقتضيات كونه رحمة للعالمين أن يكمل التشريع، كما ان من مقتضيات ومستلزمات ذلك أن يكمل التكوين بان يتم النعمة علينا بنصب خير خلائق الله بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ولياً على البشرية وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وقد أمر الله تعالى الرسول (صلى الله عليه وآله) بان يكون هو الذي يبلغ هذا الامر، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) لأن الله لا ياتي بتشريع ناقص، ولا يعقل من الكامل أن يأتي بشئ ناقص او أن ينتج الناقص أو يشرعه.
فلو أن الرسول صلى الله عليه وآله لم يبلغ رسالة الله تعالى لكشف ذلك عن نقص في التشريع وهو محال، ولكشف عن نقص في كمال الإفاضة على المحل القابل تكوينياً لما يمكنه بحسب قابليته الامكانية ان يستوعبه، ولذا جاء الإنذار صارخاً (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
وكأنّ ذلك يفيد انه من نحو الأقل والأكثر الإرتباطيين، أي إن لم تبلغ هذا الامر (إعلان الإمامة والإمام على الناس من بعدك) فسوف لا يكون ما قمت به مثمراً لأن هذا شأن الحقائق الارتباطية.
أن من الواضح ان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بذل جهوداً هائلة، طوال ثلاثة وعشرين سنة، وبلغ من رسالات الله الشيء الكثير، لكن الآية الكريمة تشدد على ان ترك هذا الامر يعد بمثابة عدم تبليغ رسالة الله أبداً لأن ترك تبليغه يعد ضربة بالصميم لكل جهود النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله).
إذًن الترابط جوهري بين الآيتين الكريمتين حيث أن الرسول صلى الله عليه وآله أُرسل رحمة للعالمين فلا بد لمرسِله من أن يكمل الدين بنصب خليفة له من بعده وإلا لم يكن رحمة للعالمين ومن وجوه ذلك – ووجوهه عديدة – انه إذا لم ينصب الرسول (صلى الله عليه وآله) الإمام علياً والأئمة الأطهار (عليهم السلام) من بعده لخيم الظلام والجهل والضلال، بل والكبت والإرهاب بأسوء معانيه على الكون كله، وذلك لأنه رغم كل الظلامات التي جرت على أهل البيت عليهم السلام وأزكى السلام ورغم عزلهم الظاهري عن مناصبهم في الخلافة إلا ان وجودهم الواقعي وأنواع تصديهم للطغاة وجهادهم المرير في ذلك هو الذي حال دون ان تعيش الدنيا كلها دائماً في ظلام واستبداد وظلم كالذي جرى زمن الحجاج وصدام وهتلر وموسليني وغيرهم من المستبدين والطغاة بل واسوأ منه.
وتدل على ضرورة نصب الإمام (عليه السلام) قاعدة اللطف بمعنى ان وجود الإمام المعصوم كوجود النبي المرسل لطف من الله تعالى كما ان نصبه اماما للناس لطف اخر منه تعالى([6]) ولولاه لساخت الارض باهلها كما ورد في الاحاديث الصحيحة الصريحة.
الإضاءة الثالثة:
ثلاثية: الخالق، الخلق، الرسالة
تفصح الآية الثانية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) عن أضلاع أو أطراف ثلاثة في المعادلة:
1) الضلع الأول: الناس المخاطبون بالآية وهم المسلمون.
2) الضلع الثاني: الدين والرسالة السماوية.
3) الطرف الثالث: هو الـمُكمِل للمسلمين ديَنهم والـمُتِم نعمته عليهم والراضي لهم الإسلام ديناً وهو الله سبحانه وتعالى.
وبعبارة اخرى: ها هنا أطراف ثلاثة: الخالق، الخلق، الدين والرسالة.
ان الكلام في الآية الكريمة متقن ومتكامل إلى أبعد الحدود:
فان قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يشير الى ان الدين اتصف بالاكتمال، والدين هو الذي يهندس حياتنا في علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين ومع الطبيعة ومع الخالق أيضاً ومع النبات والجماد.
فالضلع الأول: هو الدين وقد أكتمل.
اما الضلع الثاني: فهم المسلمون وقد تمت عليهم النعمة ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
اما الطرف الاخر وهو الرب فقد أكمل وأتمّ ورضي الإسلام مع اتمام هذا الامر (الولاية) ديناً وقد اشار الى ذلك بقوله تعالى (وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) وإذا كان الرب هو الذي أكمل وأتمّ ورضي فهل يتصور بعد ذلك نقصٌ أو إشكال أو احتمال خطأ؟
فهنا ثلاثة أطراف لها ثلاثة صفات، كل منها تليق به تلك الصفة: فان الله تعالى قد أكمل وأتم (رضي) لهم الإسلام دينا، وان الدين قد اتصف بـ(بالإكمال والإكتمال), كما ان الذين مشوا على الدرب وأسلموا لله حقاً قد (تمت عليهم نعمة الله الدائمة)
مقتضيات ونتائج (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
هذه الأطراف الثلاثة بمواصفاتها الثلاثة ترتبط ارتباطاً جوهرياً بالآية الأولى أيضاً،أي قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ذلك ان من يُرسَل رحمة للعالمين ينبغي أن يفعل ما يستوجب رضى الرب المُرسل، ورضى الرب انما يكون في نصب أمير المؤمنين (عليه صلوات المصلين) كقائد للأمة وهاد من الضلال، هو وأولاده الطاهرين الى ابد الاباد.
وصفوة القول: ان مقتضى الرحمة الإلهية أن يمنّ الله تعالى على عباده بثلاثة أشياء مترابطة متسلسلة وليس شيئين فقط:
الشيء الأول: أن يكمل الدين الذي يجسد التخطيط العام لحياة البشرية والهندسة المتكاملة للحياة السعيدة.
والشيء الثاني: أن يتم النعمة التكوينية على المسلمين.
الشيء الثالث: ان يرضى الله تعالى عنا بعد كل ذلك.
وهذا الاخير فوق كل شيء إذ (وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ) ورضوانه قد جعله منوطاً بالتسليم لأمر الإمامة.
وقفة هامة عند رواية ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ))
ولا بد ان نتوقف الان عند احدى الإضاءات والبصائر الهامة في الرواية الشريفة ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)) والتي توضح – بدورها – بعض العمق في الآيتين الشريفتين. فنقول:
لما كان الرسول (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين وحيث أنه قد أمر بنصب علي (عليه السلام) في يوم الغدير وقد نزل الامين جبرائيل بهذه الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) فان ذلك يعني فيما يعني ان الحدث عظيم جداً لأن ما يعتبره جل اسمه إكمالاً لدينه وإتماماً لنعمته وسر رضاه عن أمته، لا يوجد أعظم منه بعد رسوله (صلى الله عليه وآله).
معنى المولى
قوله (صلى الله عليه وآله): (( مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ...)) فما هو معنى مولى؟
ولا نريد هنا ان نبحث ما هو مبحوث عنه عادة بل نحاول ان نكمل ما لعله لم يُذكر.
ان في هذه الرواية روائع من الدروس والحكم، لكن الكثيرين هم مع الأسف قليلوا التأمل والتدبر والاستضاءة والاستزادة، فان بحراً من المعاني يستبطن في نفس هذه الكلمة (المولى) غير البحث اللغوي – الكلامي المعروف عن أنه ليس بمشترك لفظي.
منطلقات: السلطة، الكمال، المنفعة
فلنذكر اولا القاعدة العامة وهي: ان المنطلقات للتعامل مع الاخرين ممن هم تحت السلطة والمولوية تختلف باختلاف طبيعة السلطة القائمة فكرياً وسيكولوجياً.
ولنوضح البحث بمثال مبسط: اذا كان ابنكم في الصف الأول الابتدائي مثلاً ولم تكن لديه رغبة في الذهاب إلى المدرسة فانكم سوف تحرضونه وتدفعونه للذهاب إلى المدرسة، لكن من أي منطلق؟ ذلك ان المنطلقات متعددة:
المنطلق الأول: الانطلاق من منطلق سلطوي، أي لأنك ترى انك الأب وتعتقد أنك الأعرف بمصالحه ولأن بيدك الثواب والعقاب، فتخاطب ابنك من هذا المنطلق، فتقول له: لا بد ان تذهب إلى المدرسة وإلا سأفعل كذا وكذا أو سأمنعك من كذا وكذا، فتأمره أمراً مولوياً سلطوياً تقف وراءه قوة وعقوبة مع ضمان للتنفيذ، أو تهديد بذلك على الأقل.
المنطلق الثاني: الانطلاق من منطلق الرحمة، وتنطلق من منطلق الفائدة، ومن منطلق المكاسب والمغانم التي تعود له، فتقول له: اذهب إلى المدرسة فانك إذا ذهبت فانك ستصبح طبيباً محترماً في المجتمع، ولا تضطر عندئذٍ لكي تستجدي الناس بل ويصبح لك من الثراء ما تعيل به أهلك واقاربك.
ان هذا المنطلق هو منطلق آخر مغاير تماماً السلطة والقوة والهيمنة والفوقية ولكن المنطلقات إن كانت تختلف، الا ان النتيجة واحدة.
المنطلق الثالث: الانطلاق من منطلق الكمال، فتقول له: إذهب إلى المدرسة وتعلَّم فان العلم كمال، فإذا كانت له القابلية فانه يدرك ذلك ويستجيب، وإلا فعلينا ان نسلك الطريقة الثانية وهكذا.
والحاصل: ان المنطلق تارة يكون منطلق الحق أي أنه لي الحق في أن أفرض عليك الذهاب إلى المدرسة، وأخرى يكون منطلق المنفعة والمصلحة والمكتسبات ,وثالثة: يكون منطلق الكمال الذي سوف يتمتع به المدعو إليه.
مثال آخر: ان مدراء الشركات يضعون لوائح ومناهج ومقررات كما يبرمون عقدا لازما مع المنتسبين الى الشركة، فمن يلتزم بهذا العقد فيستمر توظيفه وإلا فسيُطرد أو يفصل أو ينقل بعد إنذارات ثلاثة أو أقل أو أكثر حسب اللوائح..
وهنا نجد اختلاف المنطلقات: فان مدير الشركة تارة ينطلق من منطلق الحق كما هو المعتاد: فلأن الموظف قد وقع على ما جاء بهذه اللوائح فلا يحق له مخالفتها.
وأخرى ينطلق من منطلق آخر وهو منطلق الحافز والمنفعة، وهذان منطلقان مختلفان فان منطلق الحق أمر ومنطلق الحافز أمر آخر.
والشركات المتطورة لا تنطلق من منطلق الحق والقوة، وان كانت لها القوة وكان القانون معها ويحميها بل تتعامل مع موظفيها عبر المنطلق الآخر فانه يرجع عليها بالفائدة الأكبر ويدرّ عليها ارباحا لا تقدر.
ولذا نجد مدير الشركة أو مدير القسم يعقد اجتماعات مع الموظفين ويُشعرهم بأهمية عملهم، وباهمية الالتزام بالوقت وبالعوائد المكتسبة ويوضح لهم – بالخرائط والجداول والاحصاءات – انهم إذا التزموا بالانضباط في الوقت والجدية وبالضوابط فان أرباحنا ستزداد أو تتضاعف ذلك ان بعض الشركات تجعل للعمال والموظفين نسبة في الربح، كـ 1% او 2% أو 5% أو أقل أو أكثر من أرباح الشركة.
وهذا يعتبر من اكبر المحفزات للعاملين فاذا كان الراتب الشهري ألف دينار مثلاً فان الشركة تمنح الموظفين امتيازاً انه إذا ازدادت أرباح الشركة عن الحد المرسوم فان 5% من الفائض مثلاً تقسم عليكم وهنا فان العامل يرى بأنه لو جدّ بالفعل واجتهد فسوف يحصل ـ اضافة الى راتبه ـ على مبالغ أخرى ومن الطبيعي جدا ان العمال سيتحركون عندئذٍ بشكل أفضل.
وهذا المنهج لا يتبع في بلادنا إلا نادراً، لكن في تلك البلاد حيث أخذوا بحظ من قوانين الإسلام أو العقل تقدموا علينا، فانهم يشركون الموظف في الأرباح كي يكون له حافزا داخليا ينطلق فيه باتجاه الاتقان في العمل، وهذا غير حافز الحق والانصاف وان كان صحيحا في حد نفسه.
كلمة (المولى) مجمع جميع المعاني: الكمال، السلطة، المنفعة
وعندما نستنطق كلمة (مولى) في الحديث الشريف نكتشف منتهى الدقة والجمال والعمق:
ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) سيد البلغاء وسيد الحكماء والعقلاء، فلماذا انتخب هذه العبارة، ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ...)) ولماذا لم يستبدلها بـ: من كنت حاكماً عليه فعليّ (عليه السلام) هو الذي يحكمه؟ أو من كنت مثلاً مربّياً له، أو من كنت معلماً له، أو من كنت أميراً عليه، ومن كنت كذا وكذا.
نعم، وردت روايات بعبارات أخرى مشابهة لكن الكلمة الجوهرية والمحورية هي هذه الكلمة، ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)).
فما هو السبب؟
ان السبب في ذلك أن كلمة المولى تستبطن كل هذه المعاني بأجمعها ففيها 1- منطلق الحق، 2- منطلق الحافز، 3- منطلق الكمال، وفيها غير ذلك أيضاً.
من آفاق الولاية ودلالاتها في القرآن الكريم
فان مولوية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هي أولاً حق مطلق وهي ثانياً الكمال كل الكمال وفيها ثالثاً: الحافز الأعظم فانه الذي أرسل رحمة للعالمين فمن يسلس قياده له فانه سينال أعظم الفوائد وأعم الدرجات.
ومن الممكن برهنة ذلك وإيضاح بعض آفاق كلمة (مولى) في القرآن الكريم وفي اللغة العربية، عبر استنطاق آيات ثلاثة أو الاستلهام منها:
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)
1- قوله تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) إذ يقول في مجمع البحرين([7]): (الله ولي الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور, قال الإمام الصادق عليه السلام ـ: يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من الله)
إذن هذه الآية لا تعني فقط الإخراج النظري بل العملي أيضاً، فيخرجهم من الظلمات، أي من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة كما هو معناها الأولي لكن الإمام يضيف: (من ظلمات المعاصي إلى نور التوبة).
وهنا نلاحظ بوضوح ان المنطلق في وصف([8]) (ولي الذين آمنوا) بـ(يخرجهم...) هو منطلق الحافز، وهو جانب من جوانب الولاية، اذ ماهي مهمة الولي ؟ أليس هي ان لا يترك المولى عليه ويتركه يضيع في الصحراء: صحراء الذنوب والمعاصي والغفلة؟
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فاذا ما جمعنا هذه الآية مع قول الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)) فستكون النتيجة ان عليا (عليه السلام) سيخرجكم من الظلمات إلى النور، أي كما أخرجتكم أنا ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ من الظلمات إلى النور، وهذا هو ما عبرنا عنه بمنطلق الحافز.
صحيح أن له الحق وهو المولى )ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) لكن منطلق الحافز ايضا متضّمن موجود وهو ان في ذلك خروجكم من الظلمات الى النور وفي ذلك فوائد وارباح عاجلة وآجلة لاتعد ولا تحصى.
(إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ)
2- قوله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ومقتضى ولاية الله وقد نزل الكتاب تولّي أمر الصالحين، ومقتضاها ان (بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وكونه متوليا يفيد منطلق الحافز إضافة إلى منطلق الحق والقوة والكبرياء والعظمة والقهارية فان نصرة الله تعالى للإنسان (وهي المفسّر بها (وليي الله) ) هي أكبر حافز له كي ينقاد له ويعبده ويطيعه وأية مثوبة أعظم من نصرة الله تعالى القادر الكبير الكريم المتعال؟
(إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) وحيث أنه ولي فقد أرسل الرسول رحمة للعالمين وليس لإثبات قهاريته وجباريته وسلطته وملكوته وحسب.
ويشير الطريحي رحمة الله عليه في مجمع البحرين إلى بعض ذلك بقوله: (إن وليي الله أي: ناصري وحافظي ودافع شركم عني)([9]) ونضيف: (ان وليي الله) فهو الذي يتولى أمري ويرعاني ويمنحني لطفه وعنايته، وتجمعها نصرته، وعليه فأي ولي أعظم وأجدر من الله تعالى أن يتخذ ولياً؟
ان المعاني السامية كلها مستبطنة في كلمة (ولي) ومن هنا ندرك كيف ان النبي (صلى الله عليه وآله) انتخب هذه العبارة الجوهرية والمفتاحية المتنوعة الأبعاد بل لا متناهية الأبعاد !!
(من كنت مولاه..) فان كنتم تريدون من ينصركم حقاً فتمسكوا بحبل علي بن أبي طالب (عليه السلام). وإن كنتم تريدون من يفتح لكم أبواب العلم على مصراعيه فتمسكوا بحبله، وإن كنتم تريدون الهداية والإرشاد والسعادة الأخروية فتمسكوا بعروته الوثيقة، وإن كنتم تريدون أن تربحوا دنياكم: استقرارَكم وأمنكم وازدهاركم ومكتسباتكم الدنيوية والأخروية فتشبثوا وتمسكوا بحبل أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين.
وهنا نقول: لو كانت الأمة متمسكة بحبل أمير المؤمنين ومولى الموحدين لما وجد مكان للاشرار في أمة النبي (صلى الله عليه وآله) أبداً الى يوم القيامة فلم نكن نرى غاصبي الخلافة ولا الأمويين ولا العباسيين والعثمانيين ولا شيئاً اسمه داعش أو القاعدة ولا الحجاج ولا أشباه هؤلاء من الطغاة على مر التاريخ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([10])
(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
3- قول الله تعالى: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في مجمع البحرين: (أي كنا نحرسكم من الشياطين) فتكون الحراسة من الشياطين من أدوار أو معاني الولي ومن وجوه الولاية أيضاً.
ان أخطار الشياطين ليست بالقليلة، والتي عادة لا نعرفها ولا نلتفت لها، فاننا نعرف جانباً منها وهو وسوسة الشيطان، الا ان خطر الشيطان وشره أعظم من هذا بكثير، فان كل الحروب التي أثيرت في العالم فان الشياطين لهم فيها يد ودور أساسي، وكل معوّق في حرب أو فتنة أو غيرها وكذلك كل جريح وكل قتيل وكل مستشهد فان السبب الأساسي والجوهري هو الشيطان، بل كل فاجعة وكل بلية وكل فقر وفاقة ومجاعة وكل تضخم في الكون فإن الشيطان من ورائه.
لكن إذا دخل الانسان في ولاية الله حقاً وفي ولاية رسول الله وعلي بن أبي طالب حقاً فان دور الشياطين سينحسر إلى أبعد الحدود وقد ينتهي كما سينتهي في زمن ظهور ولي الله الأعظم الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وصفوة الكلام: اننا إذا ضممنا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) إلى قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) وقول الرسول (صلى الله عليه وآله)  ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ..)) فاننا سنكتشف ان بولاية علي (عليه السلام) وسائر المعصومين تتحقق العلة الغائية القصوى – وبأعلى درجاتها – من البعثة النبوية وهي الرحمة للعالمين، وهذا إضافة إلى دلالة كلمة مولى في حد ذاتها ونصب الرسول علياً (عليه السلام) مولى للأمة، على ذلك إذ – وكما سبق – فان كلمة مولى تستبطن كافة المعاني الخيّرة أو تستلزمها، فانها تستبطن: (الحق)، (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم بلا شك، فالمولى هو الأولى فهو أولى بنا ومعنى ذلك ان منطق الحق موجود، ومنطق السلطة الحقة موجود، كما ان منطق الفوقية بالمعنى الصحيح لها ايضا موجود، كما تستبطن (الكمال) كله، كما تفيد وتعني إضافة إلى ذلك (الرعاية) فان هذا الولي يراعى مصالحكم ويُعنى بتربيتكم أفضل التربية لكن بشرط أن تستجيب لهذا الدليل الذي يرشدك إلى هذا الطريق وهذا السبيل.
كيف يستبطن كلمة المولى كل تلك المعاني؟
اذن ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ...)) تستبطن هذه المعاني بأكملها لكن المحتملات في كيفية ذلك متعددة:
أ- ان ذلك بنحو الإشتراك المعنوي بمعنى أن (المولى) وضعت لجامع ينطبق على الأربعة عشر معنى المذكورة في كتب اللغة من الناصر والمحب والوالي والسلطان والحاكم، وغير ذلك.
ب- ان ذلك هو بنحو الاشتراك اللفظي.
ج- ان المولى موضوع للمعنى الأول (الأولى بالناس في كل شيء) والبقية مجاز، بمعنى ان المعنى الأول الموضوع له هو الأولى أي ذو الولاية الذي يلي الأمر كله.
والمستظهر أن المولى موضوعة لهذا المعنى المعهود للتبادر والاطراد، ولكنه (يستلزم) تلك المعاني الأخرى في المقام خاصة بمناسبات الحكم والموضوع وذلك لأن الولي حقاً لا بد ان يكون هو الناصر وهو المحب وهو الراعي وهو غير ذلك.
كيف واجه الإمام علي (عليه السلام) إساءة أبي هريرة؟
ولنختم الحديث ببعض النماذج والأمثلة التي تشهد – إلى جوار الألوف من القصص والشواهد - بان أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين كان ذاك الامتداد للرحمة النبوية وانه الرحمة العلوية التي تواصلت عبرها مسيرة الرحمة النبوية (صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما أجمعين)
في الرواية أن أبا هريرة جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأسمعه كلاماً قاسياً مراً، وكان الامام حاكماً أعلى للبلاد الإسلامي وهي حوالي خمسين دولة بجغرافيا اليوم او لعل ما يقرب من ثلثي الكرة الأرضية (والآن من بمقدوره ان يصل إلى مكتب الحاكم حتى يسمعه كلام حق أو باطل؟، من يستطيع أن يصل إلى الحكام في بلادنا الاسلامية وغيرها؟ وإذا وصل فهل يتجرأ بأن يتكلم ويعترض فكيف بان يهين ويهاجم؟).
لكن موقف الامام كان موقف رحمة، فلم ينطلق من منطلق الحق وإن كان له الحق لأنه مولى (وحاكم أيضاً) في ذلك بل انطلق من منطلق الرحمة (وهو الوجه المشرق للمولوية) فلم يعاقبه ولم يقابله حتى بالمثل.
ثم أن أبا هريرة جاء في يوم آخر وطلب بعض الحاجات، (والغريب انه لم يستحي ولم يخجل من كلامه القاسي السابق الذي واجه به امير المؤمنين (عليه السلام) ولكننا نجد انه امر طبيعي عند من يضع أكثر من خمسة آلاف من الأحاديث المزورة!)
الا ان الأمير (عليه السلام) لبى ما طلبه من حاجته ولم يشعره حتى بموقف الامس، فقال الناس لأمير المؤمنين عليه صلوات المصلين:
لقد قال امس فيك كذا وكذا واليوم أنت تقضي حاجته؟
وهنا لنلاحظ روعة كلمة الامام ونجعلها منهاجاً في حياتنا، ولنقتبس بعض الشعاع من رحمة أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين.
فقال: ((إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ يَغْلِبَ جَهْلُهُ عِلْمِي وَذَنْبُهُ عَفْوِي وَمَسْأَلَتُهُ جُودِي‏))([11])
وهذه في الحقيقة درر الحكم، وكل جزء منها جواهر لا تقدر بثمن كما انها تكشف عن نفس رفيعة إلى أبعد الحدود فانه يقول (اني لاستحي) مع ان الطرف الاخر كان ينبغي ان يستحي ويخجل!
لكن هذه النفس رفيعة جداً (إني لأستحيي أن يغلب جهله علمي)، فبجهله هاجمني وبحيائي وعلمي صفحت عنه.
والجهل في اللغة العربية يطلق على معنيين بل أكثر.
1- الجهل في مقابل العلم، لكن ابا هريرة ما كان جاهلا بمكانة أمير المؤمنين، بل كان يعلم ان هذا أمير المؤمنين (عليه السلام) حقاً فليس هذا المعنى هو المراد.
2- (وهذا المعنى كثير الدوران في اللغة العربية وفي الروايات والآيات وقد أشرنا إليه في بحث الإجتهاد في أصول الدين) وهو أن يعمل عمل الجاهل، بان يعمل عمل الجاهل رغم انه عالم فهو بذلك كأنه جاهل، فمثلا يعلم ان ههنا مسبعة الا انه ينزل اليها فتأكله السباع، او يدري ان ههنا عقرباً لكنه يضعها على يده أو رأسه فنقول عندئذٍ هذا جاهل، وليس بجاهل حقيقة، بل انه حيث نزل نفسه منزلة الجاهل وتعامل مع الحدث تعامل الجاهلين وصف بانه جاهل.
فـ(جهله) يعني ما من شأنه أن ينبع عن الجهل وإن كان قد نبع عن علم، (إني لأستحيي أن يغلب جهله) فإن شئت فقل تجاهله لكن الأدق ما سبق، إني لأستحيي أن يغلب جهله علمي، لأني أعلم بأن الاحسان من شيم الكرام، في حين ان الإساءة شيمته هو، ولكن هل تغلب شيمته شيمتي؟
هذا المنطق منطق رفيع جداً: (إني لأستحيي أن يغلب جهله علمي وذنبه عفوي) فلقد أذنب بحقي لكن من هو الأقوى ذنبه؟ او عفوي أنا؟ إذا لم أعفُ عنه فان معناه ان ذنبه غلب على عفوي وهذا ليس من شيم النفوس الكبيرة.
الحاكم على نصف الكرة الأرضية لا يمتلك إلا قميصاً واحداً!
نموذج آخر: كان بيد أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين بيت المال بأكمله.
ولكنه لم يكن يأخذ منه شيئاً إلى درجة أنه كان أحياناً يضطر إلى يرهن درعه، مع ان الدرع هو سلاح المقاتل والأمير كان في حالة حرب، والدرع كانت أعز ثروة عند المقاتل، خصوصا عندما يكون الانسان في حالة الحرب، فالامام كان يرهن درعه حتى يقضي حاجة من حاجاته الشخصية من أكل أو شرب أو ما أشبه، أين ترون نظيراً لذلك في العالم كله، أليس هذا منهج الرحمة بالرعية: فكل شيء لهم ولا شيء للحاكم!
وفي كتاب المعصومون الأربعة عشر للسيد الوالد رحمة الله تعالى عليه، جاءت هذه الرواية:
(وفي المناقب كان علي بن أبي طالب عليه صلوات الله وسلامه يمتنع من بيت المال حتى يبيع سيفه، ولا يكون له إلا قميص واحد في وقت الغُسل، لا يجد غيره)([12])
تصوروا قميص واحد فقط مع انه تجري أموال بيت المال تحت يديه كالأنهار!!، ولنقارن ذلك بنبأ سرقة أربعمائة مليار دولار طوال عشرة سنوات من أموال الدولة بأيدي ثلة من السياسيين من أنواع مختلفة وأحزاب متنوعة، في احدى أهم البلاد الإسلامية!
وفي نفس الوقت يقول (عليه السلام) يا صفراء يا بيضاء غري غيري، فقد كان الدنانير الذهبية والدراهم الفضية تنهال عليه كالسيل فيقسمها بين الناس وكأنه يطردها عنه طرداً في حين ان بعض الناس يتعلق بالمال حتى يبيع دينه وآخرته ووطنه!
وأنا شخصيا أعرف العديد من العلماء ممن يكره المال عندما يأتي إليه إذ انه يرى المال وكأنه عقرب قد تلدغه الآن، لذلك يسارع في فترة قياسية لكي يصرفه في مشروع أو مؤسسة أو يعطيه للأيتام أو الفقراء أو غير ذلك، وأعرف بعضهم ممن تصل بيده الملايين بل لعله المليارات وهو زاهد فيها زهد احدنا في تراب نعله! وهذ العالم قد ربى نفسه من البداية أن المال شؤم إلا ما صُرف في طريق الله تعالى كما اعرف العديد من الأخيار من التجار ممن هم كذلك وقد شهدت كيف ان الله تعالى أيضاً وسّع باستمرار على هؤلاء لأنه رأى – منهم – وهم عبيده - الصدق: فانهم لم يتوكلوا على المال، بل ان توكلهم هو على الله الواحد الأحد.
ولنتلُ الآيتين الكريمتين مع الرواية الشريفة في ختام الحديث بتمهل وإمعان:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)
ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ كَيْفَ مَا دَار))
اللهم عجل لوليك الأعظم الفرج واجعلنا من خلص خدمه وأعوانه وأنصاره والمجاهدين بين يديه والمستشهدين في ركابه.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
 

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الاربعاء 10 رجب 1436هـ  ||  القرّاء : 11820



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net