بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(38)
الظن المطلق مرجع ومرجّح
ومن الثمرات، بعبارة أخرى: ان الظن المطلق إن قلنا بحجيته كان مرجعاً، كما صلح أن يكون مرجّحاً، وإن لم نقل بحجيته فانه قد يصلح مرجّحاً إذا قلنا بحجية المتعارضين من باب الظن النوعي، وأما إذا قلنا بحجيتهما من باب الظن الشخصي، أو من باب الظن النوعي بشرط إيراثه الظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف، فانه مرجّح لحجية أحدهما أي معيِّن([1]) ومُسقط للآخر عن الحجية.
تفصيل الشيخ
ولكن قال الشيخ: ([وأمّا المقام الثالث]([2]):
وهو ترجيح السند بمطلق الظن؛ إذ الكلام فيه أيضاً مفروضٌ فيما إذا لم نقل بحجية الظن المطلق ولا بحجية الخبرين بشرط إفادة الظن ولا بشرط عدم الظن على خلافه، إذ يخرج الظن المفروض على هذه التقادير عن المرجّحية:
بل يصير حجة مستقلّة على الأول، سواء كان حجية المتعارضين من باب الظن المطلق أو من باب الاطمئنان أو من باب الظن الخاص؛ فإنّ القول بالظن المطلق لا ينافي القول بالظن الخاص في بعض الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين. ويسقط المرجوح عن الحجية على الأخيرين.
فيتعيّن الكلام في مرجحيته فيما إذا قلنا بحجية كلٍّ منهما من حيث الظن النوعي كما هو مذهب الأكثر)([3]).
فالظن المطلق إما مرجع أو مرجّح أو مُسقط
وتوضيح كلامه (قدس سره) مع تضمينه إضافة ما: ان الظن المطلق إما مرجِع أو مرجّح أو مُسقط:
والأول، مبني على القول بحجيته.
والثاني والثالث، مبنيان على القول بعدم حجيته.
ومع القول بعدم حجيته، فاما ان نقول بان الخبرين ومطلق الدليلين المتعارضين، حجتان من باب الظن النوعي أو لا:
أ- فإن قلنا بانهما حجتان من باب الظن النوعي فيقع الكلام في ان الظن المطلق (المفروض عدم حجيته مستقلاً وبذاته) هل يصلح مرجِّحاً لأحد المتعارضين على الآخر كما لو طابقت الشهرة، مع القول بعدم حجيتها، أحدَ المتعارضين، أو لا؟ وإنما نقول ببقائهما معاً على الحجية لأن الفرض والمبنى هنا انهما حجة من باب الظن النوعي، لكونهما خبرين لثقتين مثلاً، وما كان حجة من باب الظن النوعي يبقى حجة حتى مع قيام الظن المطلق أو الشخصي على خلافه، ولا يسقط عن الحجية بالمرة بل يكون حجة مرجوحة، كما ان الدليل المحكوم حجة لكنه محكوم، فيكون معنى الحجية: الاقتضائية ولكن مع منع مانع، أما على الوجهين الآتيين فلا اقتضاء، فالفرق بوجود المقتضي مع وجود المانع، أو بعدم وجود المقتضي أصلاً.
ب- وإن قلنا بانهما حجتان بشرط انعقاد الظن الشخصي بالوفاق أو بشرط عدم انعقاد الظن الشخصي على الخلاف، فان الظن المطلق على وفق احدهما يُسقِط الآخر عن الحجية (لأن الآخر إما لا ظن على وفاقه، لأنه كان على وفاق الآخر، أو الظن الشخصي على خلافه) فيكون مسقطاً. وعلى القولين الأخيرين لا يكون الظن المطلق مرجّحاً بل هو مسقط كما هو معيِّن للحجة منهما.
المناقشة: لا مانعة جمع بين المرجعية والمرجحية
أقول: قد يناقش كلامه (قدس سره).
أما قوله: (بل يصير حجة مستقلة على الأول) فيرد عليه:
أولاً: انه لا مانعة جمع بين المرجعية والمرجحية بان يكون مرجعاً في نفسه ومرجحاً لأحد الدليلين؛ كما لا مانعة جمع بين ان يوجد دليلان كالكتاب والسنة، كل منهما دليل مستقل تام على الحكم، ولا يضر اجتماعهما، بكون كل منهما دليلاً تاماً.
وبعبارة جامعة: إذا وجد دليلان أو أدلة، يصلح كل منهما / منها دليلاً مستقلاً على الحكم الشرعي فان كلا منهما / منها يكون دليلاً بالفعل، لا مجموعهما، بل جميعها، وإنما لا تصير الحجة المستقلة مرجّحاً إذا أخذت بشرط لا عن المرجحية، كما انه لا يكون أحد المرجحات دليلاً مستقلاً إذا أخذ بشرط لا عن المرجعية، بان يؤخذ في كل من المرجعية والمرجحية عدم قيامه بالدور الآخر، لكنه خلاف الأصل ومما لا وجه له وإليه يشير قوله: (فإنّ القول بالظن المطلق لا ينافي القول بالظن الخاص في بعض الأمارات كالخبر الصحيح بعدلين) ومنه يظهر انه (قدس سره) لم يأخذ القضية بنحو بشرط لا ومعه لا وجه لقوله (بل يصير حجة مستقلة على الأول) إذ هذا مبني على البشرطلائية إلا ان يقصد (قدس سره): انه غير ممحض في المرجّحية بل يكون مرجعاً أيضاَ، لكن عبارته (قدس سره) غير واضحة الدلالة على ذلك. فتدبر جداً.
قد يكون: الظن المطلق حجة ولكن غير مستقلة
ثانياً: حتى لو قلنا بحجية الظن المطلق فانه قد لا يصير حجة مستقلة، فانه إنما يصير حجة مستقلة لو كان هذا الظن المطلق دالّاً على الحكم الشرعي بذاته، كالشهرة الفتوائية لو كانت على وفق أحد الخبرين المتعارضين، وأما لو لم يكن الظن المطلق دالاً على الحكم الشرعي بذاته فلا معنى لأن يصير حجة مستقلة فمثلاً لو قام الظن المطلق([4]) على ان أبا بصير المشترك بين الأسدي والمرادي وهما ثقتان وبين ثالث مجهول، على انه أحدهما دون المجهول فانه لو قلنا بحجية الظن المطلق يكون الخبر الصادر من أبي بصير حجة في مقابل الخبر الآخر المعارض له والمفروض حجيته أيضاً، فلم يكن الظن المطلق حينئذٍ حجة مستقلة بل إنما عضد احدى الحجتين فحال دون اسقاطها عن الحجية فكانت حجة تخييرية على القول بالتخيير أو تعيينية على القول بالترجيح بالمرجحات غير المنصوصة مع كون الخبر المعتضد بالظن المطلق أقوى من قسيمه.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ)) (نهج البلاغة: الحكمة 89).
-------------
([1]) فليس المقصود بالمرجّح ما كان مع حجية الآخر اقتضاءً، بل المقصود المرجع مآلاً.
([3]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج1 ص603-604.
([4]) كاجتهادات الكاظمي في المشتركات، حيث انها ليست من الظن الخاص بالنسبة إلى المجتهد الآخر.
-------------
([1]) فليس المقصود بالمرجّح ما كان مع حجية الآخر اقتضاءً، بل المقصود المرجع مآلاً.