بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(492)
المحتملات الثلاث في (رُشْداً)
سبق: (إنّ المحتملات في مفردة (رُشْداً) في الآية الكريمة ثلاثة: ان يراد بها: الرشد الكامل، أو رشداً ما، أو الرشد المناسب لكل نوع من أنواع المعاملات ولكل كمية من كميات الأموال.
أما الاحتمال الأول: فقد يصار إليه استناداً إلى ما صار إليه المحقق العراقي من...
وأما الاحتمال الثاني: فقد يصار إليه لمكان الإطلاق البدلي في (رُشْداً) وللصدق مع تحقق أدنى مراتبه فتدفع إليه كل الأموال حينئذٍ.
وأما الاحتمال الثالث: فهو ما ذهب إليه السيد الوالد قدس سره، وذلك لمناسبات الحكم والموضوع ومشككية الرشد ومراتب الدفع ولأنه مقتضى الحكمة وأما غيره فسفاهة...)([1])
ونضيف: ان الوجه الأول وهو إرادة الرشد الكامل، يمكن ان يستدل عليه بوجه آخر غير ما ذكره المحقق العراقي، وهو ما أشرنا إليه في بحث الأصول([2]) من ان الماهية إذا كانت حقيقة تشكيكية انصرف المطلق إلى أكمل أفرادها وإن لم نقبل الوجه الذي تبناه المحقق العراقي.
وعلى أية حال فان هذا المعنى يلزمه تالٍ قد لا يلتزم به الفقيه وهو انه يلزمه أن لا يَدفع الولي للصبي إذا بلغ ورشد رشداً غير كامل أيّ قدر من أمواله، مع انه خلاف الحكمة ومخالف لمرتكز العقلاء (وعلى احتمالٍ: للسيرة) فان الوصول إلى الرشد الكامل لا يحدث إلا بعد سنين وسنين بل قلّ من وصل إلى هذه المرتبة، إلا ان يقال المراد الرشد الكامل العرفي لا الدقي، أو يقال: يكفي أدنى مراتب الرشد الكامل وهو ليس بعزيز. فتأمل.
المحتمل الرابع: ان يراد بـ(رُشْداً) المَلَكَة
كما نضيف: ان هنالك احتمالاً رابعاً وهو ان يراد بـ(رُشْداً) المَلَكَة، عكس المحتملات الثلاثة الأول التي يراد بها الفعلية أي فعلية الرشد كاملاً أو ناقصاً أو متناسباً، وهذا الاحتمال وإن كان مخالفاً للظاهر لأن ظاهر وضع الألفاظ انها وضعت لتشير إلى معانيها الفعلية لا الملكة فالرشد يراد به الرشد نفسه أي ما هو رشد بالحمل الشائع، لا ملكة الرشد أو ملكة هي الرشد، إلا ان الذي يشفع له هو الفهم العرفي في أمثاله، فانه إذا قيل فلان مجتهد أريد به ذو الملكة ولا يراد به انه مجتهد بالفعل وكذا لو قيل عادل إذ يراد به انه ذو الملكة لا مجرد انه عادل بالفعل، والرشد ملكة فقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) يراد به ملكة الرشد، ويؤكده ان الناس يبحثون في كافة الصفات التي تجد طريقها إلى الأفعال، أي الملكات، عنها لا عن تجلياتها، فإذا قيل أنظر أهو شجاع أو جبان، كريم أو بخيل، مؤمن أو منافق راشد أم سفيه.. الخ أريد أنظر هل له الملكة أم لا وليس هل انه شجاع بالفعل أو لا؟
ولو تمّ هذا الاستظهار فهو وإلا كان الأرجح الثالث وهو الرشد المتناسب مع كمية الأموال المعطاة له ومع نوعية المعاملات التي يريد ان يقوم بها الصبي؛ لما سبق.
وعلى أي فان المعنى الرابع (الملكة) أوسع دائرة من المعنى الأول، فان ذو الملكة قد يمتلك الحد الأعلى وقد لا يمتلك، كما انه أضيق دائرة من المعنى الثاني فانه يتحقق من دون الملكة، كما انه أسهل منالاً من المعنى الثالث، فتدبر.
إشارة إلى مدعيات الفلاسفة التي اعتبروها أدلة
كما سبق: (وتوضيحه: ان دعوى بساطة النفس وعدم تركيبها، رمي بالغيب إذ من أين دعوى الفلاسفة انها بسيطة غير مركبة؟، فلعلها مركبة كما ثبت ان النور مركب من الفوتونات وكان يُتوّهم سابقاً انه بسيط، وأما الأدلة التي أقاموها([3]) فهي لا تعدو كونها نوعاً من الخطابة والمصادرة، واللطيف ان العديد من دعاوى الاشراقيين وبعض دعاوى المشائيين ليست إلا مدّعى اعتبروه دليلاً)([4]).
ونضيف: انهم ربما أقاموا أدلة على مدعياتهم ولكنها لا تعدو كونها مدعيات تحتاج إلى دليل، لكنها اعتبرت مفروغاً عنها، كما قد تكون أدلتهم نوعاً من المغالطة ولو عن غفلة، ويكفيك برهاناً على ذلك استدلالاتهم العقلية على استحالة الخرق والالتيام([5]) وعلى أن الأفلاك كأقشار البصل ومختلف ما كانوا يقيمون الأدلة العقلية على استحالته من مباحث (الطبيعيات) التي أثبت العلم لاحقاً بطلانها؛ إذ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، والتي لذلك عدل عن تقريرها والاستدلال عليها متأخروا الفلاسفة، فكذلك نمط استدلالهم على الكثير من البحوث التي تتناول الغيبيات والمجردات، وإذا كانوا يقيمون الأدلة الباطلة (لخلل ما ولو من دون ان يلتفتوا) على الطبيعيات وهي السهلة إدراكاً ونوالاً، فكيف يصعب تصوّر خطأهم في الغيبيات والماورائيات وهي الأصعب منالاً؟
تجرّد الإدراك كدليل على تجرد النفس
ويكفي ان نستشهد في المقام باستدلالهم على تجرد النفس بتجرد الإدراك، كما سبقت الإشارة، فانهم استدلوا على تجرد الإدراك بعدم انقسام الصور الذهنية وبثباتها وشبه ذلك ويكفي في هذه العجالة ان ننقل استدلال الشهيد الصدر على ذلك بالآتي: (ولكي يتضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء، يجب أن نعلم أنّا بين ثلاثة عروض: إحداها: أنّ إدراكنا لهذه الحديقة، أو لذلك النجم، صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه ودلّلنا على رفضه. وثانيها: أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية، بل هي صور مجرّدة عن المادّة، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا - وهذا افتراض غير معقول أيضاً، لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا، فما هي صلتنا بها؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا؟! وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، ولم يبقَ لدينا إلاّ التفسير الثالث للموقف، وهو: أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية، ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان كما أنّها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان. فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر، لا العضو المادّي، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك، للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان)([6]). وللكلام صلة وتتمة ومناقشات بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُ)) (نهج البلاغة: الخطبة 366).
-------------
([1]) الدرس (490).
([3]) كقيام العلم بها، وهو بسيط.
([6]) محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، ط2 ص333-334.
([1]) الدرس (490).