57- القول الثالث في ( الرشوة ) ـ فرق الرشوة عن الهدية ـ فرق الرشوة عن المعاملة المحاباتية والصور الخمسة للمعاملة المحاباتية
الاثنين 16 ربيع الاول 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين سيما بقية الله في الأرضين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم,
مضى بعض البحث عن الرشوة موضوعا وحكما. ونضيف:
عمومية الابتلاء بمسألة الرشوة
ان مسالة الرشوة هي مسالة عامة الابتلاء, ولعل الحياة الآن- مع الأسف الشديد - قائمة عليها وفي مختلف المستويات ,ابتداء من الحياة الشخصية الى الحياة العائلية والى الاجتماعية والعشائرية والحزبية ثم الى الدولة في أعلى الهرم، ولذا فيجب معرفة موضوع الرشوة وحدودها سعة وضيقاً في كل هذه الموارد فان الدائرة على التحقيق واسعة وليست دائرتها منحصرة في القضاء فقط –على ما ذهب اليه البعض -, فتكون ضيقة, ومن الأمثلة الانتخابات, إذ المرشحون عادة يعطون أموالاً وامتيازات للناخبين من اجل انتخابهم، فهل هي رشوة أم هدية؟ وعلى تقدير كونها هدية فما هو حكم هذه الهدية للمعطي والآخذ؟ ومن الأمثلة ما لو ان شخصا عليه ظلامة فدفع مبلغا هو او صاحبه إلى القاضي كي يطلق سراحه، فهل هذه رشوة موضوعا؟ ولو كانت كذلك فهل هي محرمة حكما؟
إذن: ينبغي التأمل كثيرا في هذا المبحث, و بكلا عنوانيه الأولي والثانوي، لنعرف ما هو الأصل؟ ثم ما هي الاستثناءات فيه؟
أقوال ثلاثة في المسالة :
قد ذكرنا سابقا انه يوجد في تنقيح موضوع الرشوة أقوال رئيسية ثلاثة :
أما القول الاول: فهو ان الرشوة هي:
(الجعل على الحكم بالباطل), وهذا القول دائرته ضيقة جدا, وقد ذكر هذا التعريف بعض الفقهاء ومنهم المحقق المقدس الاردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان، على ما نقله عنه فقه الصادق ج21 ص44 لكن الموجود في مجمع الفائدة ج12 ص49 (وهي في اللغة الجعل، والظاهر ان المراد بها هنا: ما يعطى للحكم حقاً أو باطلاً لأنه المفهوم الموافق للغة والخبر).
وأما القول الثاني: فقد ذكره السيد الوالد وقد نقلناه سابقاً ودائرته أوسع من الأول، وقد مضى تعريفه.
واما القول الثالث:
فقد ذكره السيد الخوئي في مصباح الفقاهة ، وهو القول الأوسع دائرة والى ابعد الحدود ؛ حيث جعل الرشوة ذات مدى واسع فتشمل حتى التملق, وتشمل كذلك حتى إعطاء المال على الأمر المباح، ونص عبارته:
( والمتحصل من كلمات الفقهاء ومن أهل العرف واللغة مع ضمّ بعضها الى البعض إن الرشوة ما يعطيه احد الشخصين للآخر ) وهنا تعميم لمطلق الشخصين فلا يشترط ان يكون المُعطى هو القاضي، ولا يشترط كذلك ان يكون المعطِي ذا مصلحة, بل حتى لو أعطى شخص أجنبي مالا لإنقاذ مظلوم أو غيره فان هذا موضوعا رشوة ,
ثم يقول: ( لإحقاق حق او تمشية باطل او للتملق ) ,
وقد فسر التملق لغة بتفسيرين، احدهما: التودد والتلطف، فهل مقصود السيد ذلك؟
ان من المستبعد ان يكون مقصوده ذلك ؛ وإلا لكانت مطلق الهدايا المهداة من الزوج لزوجته مثلا أو الأخ لأخيه او الصديق لصديقه، رشوة، والأمر ليس كذلك.
وأما التفسير الثاني له - ولعله هو الظاهر عرفا – هو: ان التملق هو فيما لو خالف القول القلب , فلو تودد احدهم لآخر، وكان التودد إلى ولي من الأولياء او الى عالم تقي رغبة في الاستزادة من تقوى الأول او من علم الثاني فهو حسن و ممدوح ولا يعد عرفاً (تملقاً), ولكن لو كان التودد من شخص لسلطان ظالم او جائر وهو يعرف ان هذا السلطان ليس بأهل ان يتودد إليه ,فهذا تملق، وبحسب رأي السيد الخوئي فان هذا مصداق للرشوة وهي محرمة, هذا هو التفسير الثاني للتملق ,وينبغي ان يكون هو مقصود السيد الخوئي (قدس سره) ولو قصد الأول فانه خلاف المتفاهم عرفاً. وسيأتي مزيد تحقيق لذلك بإذن الله تعالى.
ثم يقول (قدس سره): (والوصلة إلى الحاجة بالمصانعة) وتوضيحا لكلامه بالمثال: شخص لديه عقد لتعيينه في وزارة معينة، الا ان معاملته لا تسير كما ينبغي إلا بدفعه مبلغا من المال، مع ان التوظيف في تلك المؤسسة من حقه، ولكنه لا يُعطى ذلك الحق حتى يدفع المال, فهذه وصلة الى حاجة بالمصانعة.
ثم بعد ذلك السيد الخوئي يعمم موضوع الرشوة الى موارد أخرى: (أو في عمل لا يقابل بالأجرة والجعل عند العرف والعقلاء وان كان محطا لغرضهم وموردا لنظرهم بل يفعلون ذلك العمل للتعاون والتعاضد فيما بينهم...) ثم انه عمم الرشوة أيضاً إلى (ان يرشو الرجل على ان يتحول من منزله فيسكنه غيره أو يتحول عن مكان في المسجد) وتوضيحه: ان الشخص الذي يجلس في مسجد او في حسينية او مزار, فان لهذا الشخص حق السبق في ذلك المكان، و لو جاء آخر فأعطى للأول صاحب الحق مبلغا معينا ؛ لأخذ المكان منه فانه مصداق للرشوة؛ وذلك أنه لم يتعارف دفع المال فيه، وان كان يوجد غرض عقلائي في المقام وهو ان الثاني يريد ان يصلي مثلا في الصف الأول في صلاة الجماعة لتحصيل الثواب الأكثر، ولكن الناس عادة لا تبذل بإزاء ذلك مالا،
إذن: تعريف السيد الخوئي يشمل كل هذه الموارد, حسب صريح كلامه.
التضييق والتوسعة مدارها العرف والشرع
ولكن المدار في الضيق والسعة مفهوماً يكون بالرجوع إلى العرف و الشرع، أي ما هي الرشوة عند العرف؟ ثم لو كانت للعرف دائرة وسيعة او ضيقة, فهل ان الشارع قد تدخل وتصرف في حدود هذه الدائرة او لا؟ وهذا ما سيأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
الفرق بين الرشوة والهدية
ومن المباحث المهمة المرتبطة ببحثنا هو الفرق بين الرشوة والهدية موضوعا فانه أحيانا يدفع احدهم للقاضي هدية وأحيانا يدفع له رشوة، فما هو الفرق؟
ان الفرق بإيجاز هو: ان الرشوة تعني ان يدفع الشخص المال في مقابل الحكم بالباطل او بالحق- لا فرق بحسب التعميم او التخصيص-، وأما الهدية فلا يدفع الشخص فيها المال في مقابل الحكم, ولكنها تدفع لايراث المحبة الموجبة لاحقا للحكم، والفرق بينهما كبير ,ففي الرشوة توجد معاملة بين طرفين فهو يدفع المال لكي يحكم له الحاكم في قباله, فانه يوجد تقابل بين الأمرين، و أما مورد الهدية فلا توجد معاملة ولا مقابلة فيها، نعم الداعي فيها هو ان يقضي له القاضي لاحقا بما يريده ؛ فان الدفع في الهدية هو بقصد ايراث المحبة وان يحكم له لا حقا من غير تقابل وشرط, وسيأتي لاحقاً تفريق آخر بينهما ذكرها المحقق الايرواني وسنناقش ذلك هنالك.
وحكم الرشوة هو الحرمة بلا خلاف, ولكن ما هو حكم الهدية في هكذا موارد؟
والحاصل: هذان عنوانان مهمان لا بد من التفريق بينها وتحديد حكم كلٍّ منهما
وهناك مسألة أخرى وهي الهدية المتأخرة عن الحكم، إذ كثيرا ما يستلم القضاة هدية متأخرة عن الحكم، فهل هي رشوة او هدية؟ وإذا كانت هدية فهل هي محللة ام محرمة؟ سيأتي بحث ذلك كله ان شاء الله تعالى
المعاملة المحاباتية: ولدينا بحث وموضوع آخر وهو المحاباة والمعاملة المحاباتية, فما هي نسبتها مع الرشوة؟
والمحاباة هي: ان يبيع شخص الى القاضي مثلا -لأنه القدر المتيقن من الرشوة - بضاعة قيمتها مليون دينار بنصف مليون دينار، اي بنصف القيمة, فان هذه معاملة محاباتية ولكن هل هي رشوة ام لا؟
صور خمسة للمعاملة المحاباتية:
ان الصور والوجوه في المعاملة المحاباتية هي خمسة :
الصورة والوجه الأول: هو ان تكون المعاملة هي المصب, وان تكون المحاباة بمنزلة الشرط في صيغة العقد، اي ان الغرض الأول و الأسمى هي نفس المعاملة ولكن المحاباة فيها مزيد فائدة للشخص البائع, وذلك بنحو التزام في التزام
الصورة والوجه الثاني: وهي بعكس الصورة الأولى، بان تكون المحاباة هي المصب والمعاملة بمنزلة الشرط، أو فقل بمنزلة الهيئة والشكل اما (المادة) والجوهر فهي المحاباة.
الصورة الثالثة والرابعة :وفيهما تكون المحاباة او المعاملة مصبا ويكون الآخر داعيا لا شرطا، والفرق بينهما كبير.
الفرق بين الداعي والشرط: يمكن توضيح تصوير الفرق بين الداعي والشرط في المعاملات العرفية، وذلك كتاجر له صداقة مع تاجر آخر, احدهما يبيع الأقمشة والآخر يتاجر بالطعام، فيبيع الأول بضاعته حصريا للثاني, وهنا نتساءل: ما هو غرض التاجر الأول؟ هل يقوم بهذا لأجل أن يقوم الآخر كذلك ببيعه بصورة حصرية أيضا بنحو الشرط الضمني او لا؟
الصورة الأولى المصبّ هو نفس المعاملة لكن الشرط فيها ان يقابله الآخر بالمثل فإذا لم يبع الثاني حصرا له كذلك فان للأول خيار تخلف الشرط
ولكن الكلام في الصورة الثالثة والرابعة ليس كذلك، وإنما تكون المعاملة فيهما هي المصب وبيع الثاني للأول هو بنحو الداعي وليس بنحو الشرط، بان يضع التاجر الأول في باله انه يقوم ببيع البضاعة للآخر ليرى الآخر انه قد راعاه قي ذلك، فمن الطبيعي ان يراعيه الآخر في قبال مراعاته له, ومعه فالعقد بينهما من دون شرط المقابلة ومن دون بناء عليه, والفرق كبير بين الموردين ففي الوجه الأول والثاني لو اخلف التاجر الثاني مع الأول لكان مخالفاً قانوناً وثبت للأول على الثاني خيار الشرط ,ولكن في الصورة الثالثة والرابعة لا شرط في المقام، بل يوجد الداعي فقط فلا خيار ولا مخالفة للقانون أو الشرع.
وفي مورد بحثنا نقول: إن المعاملة المحاباتية للقاضي تكون من قبيل هذا, فتارة تكون المعاملة مصبا والمحاباة شرطا، و أخرى بعكس ذلك، وتارة أخرى تكون المعاملة مصبا والمحاباة داعيا, وأخرى بعكس ذلك فهذه صور أربعة في المقام ,
واما الصورة الخامسة هي: ان يكون كلاً من المعاملة والمحاباة مصبا، أي إن كليهما يكون مقصوداً لذاته.
هذا موضوع آخر لا بد من تنقيحه أيضا ,فأي الصور الخمسة رشوة ومحرمة؟ وأيها ليست كذلك؟
أجرة القاضي وارتزاقه من بيت المال والفرق بينهما
وهنا عنوان آخر لا ندخل فيه وان بحثه مجموعة من العلماء, كالشيخ في المكاسب وغيره حيث طرحوا عنوانين آخرين مشابهين لعنوان الرشوة، ولكنه ليس من صغريات مبحث الرشوة فلا داعي لبحثه هنا , وهو عنوان ارتزاق القاضي من بيت المال، ودفع أجرة وراتب للقاضي من بيت المال، فما هو الفرق بين الأمرين؟
وجوابه: اما حكماً فان ارتزاق القاضي من بيت المال المشهور جوازه، واما اخذ الأجرة من بيت المال فالمشهور على حرمته، واما موضوعاً فان الأجرة هي اعتبار عقلائي محدد ومضبوط بضوابط خاصة منها تحديد المدة والثمن والمثمن، وأما الارتزاق فهو اعتبار آخر ولا توجد هكذا شروط فيه.
إذن: هذه مجموعة من العناوين الرئيسية التي لا بد من تحديدها و بحثها لتتضح لنا دائرة (الموضوع) قبل الولوج في احكامها كافة بإذن الله تعالى، وللكلام صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
الاثنين 16 ربيع الاول 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |