46- هل مطلق المعاملات الجارية على (مسبِّبات الفساد ) باطلة ؟ الدليل العام: النهي في المعاملات يقتضي الفساد ــ اقوال ثلاثة ــ معنى (النهي) ومعنى (يقتضي)
الاحد 23 صفر 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
انهينا في المباحث السابقة البحث عن الأدلة النقلية، القرآنية والروائية، وكذا الإجماع المدعى وما أشبه على حرمة حفظ كتب الضلال ومختلف التقلبات في مسببات الفساد,
ووصلنا إلى ان حفظ كتب الضلال لو كان طريق إضلال فلا شك أن الآيتين الشريفتين (اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)، (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...)، وأيضا رواية تحف العقول والروايات الأخرى كرواية عبد الملك وغيرها، وكذلك آية (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ), هذه كلها- إلا بعض ما جرى فيه المناقشة - دليل على حرمة مختلف التقلبات في مسببات الفساد بنحو الطريقية، ومنها حفظ كتب الضلال لو كانت طريقا،
وأما لو لم يكن الأمر كذلك، بل كان مجرد حفظ كتب الضلال بما هو هو, فقد فصلنا الحديث عن ذلك وبينا إن الكثير لا يرون الحرمة، وكان رأينا مبنياً على مقتضى التحقيق في الإثم وعلى مقتضى الإطلاق في اجتنبوا، وقد بيناه، هذا ما مضى
هل تترتب الأحكام و الآثار الوضعية على الحرمة التكليفية :
بعد الفراغ عن إن حفظ كتب الضلال محرمة - بالقدر الذي نلتزمه توسعة أو تضييقا وباختلاف الآراء وسائر التقلبات في مسببات الفساد -، نأتي إلى الحكم الوضعي لهذه الحرمة لنرى مدى ثبوته من عدمه، فمثلا لو قلنا بان بناء مخمر بقصد أن يكون مكانا لبيع الخمر أو باشتراطه ذلك فيه، محرم، يأتي البحث عن الحكم الوضعي ومدى ثبوته في هذا المورد, فمثلاً هل العامل والمهندس الذي اشتغل ببناء وهندسة هذا المخمر- أو الملهى أو المقمر وما أشبه – هل كل هؤلاء يستحق الأجرة أو لا؟ وبتعبير أخر هل إن الحكم التكليفي بالحرمة ينتج ويثمر الحكم الوضعي ببطلان المعاملات من بيع وشراء وصلح وهبة ووصية بقسميها عهدية كانت أو تمليكية , وكذلك الكلام في الوقف, فلو وقف الرجل داره لكي يكون مركزا لحزب إلحادي فهل إن الوقف باطل أم لا ؟
إذن: البحث يدور حول كل المعاملات التي تجري في مسببات الفساد ومنها صغرى مبحثنا وهي انه لو باع كتاب ضلال ولنقيده بالقدر المتيقن أو المسلّم به وهو انه كان بقصد الإضلال وكان مقدمة موصله، فهل إن هذا البيع باطل؟ أي هل حصل النقل والانتقال أم لا؟
هذه هي المسألة التي سوف نبحثها الآن، ولها تشقيقات أخرى كثيرة وسنشير لها في مطاوي البحث ان شاء الله تعالى، منها ما يرتبط بالدولة وفقهها، وذلك مثل ما لو أجازت الدولة أو الوزارة أو دائرة معينة لحزب شيوعي او الحادي فأعطته رخصة بان يكون حزبا رسميا فهنا بحثان: الأول: هل إن هذا العمل جائز أو لا ؟، ومثل أن تعطى الدولة للسراق أو المختطفين إجازة رسمية لتكوين عصابة أو حزب متخصص بالسرقة أو الاختطاف فهل إن هذا العمل جائز أم لا ؟
الثاني: لو كانت هذه الإجازة وهذا العمل محرماً - وهو كذلك بالفعل – فهل هي نافذة ويترتب عليها الأثر, وهل سيكون للحزب الحقوق التي تعطى من الدولة أو من الناس، لأي حزب أخر، هذا بما يختص بفقه الدولة،
ولكن كلامنا الآن عموما يدور حول الفقه الفردي والشخصي وان المعاملات هنا نافذة أو لا ؟
الأدلة في المقام على نوعين :
وفي جواب ذلك نقول: إن الأدلة على ترتب الأحكام الوضعية أو عدمها نوعان:
أولا: الدليل العام وسنشير إليه بإيجاز
ثانيا: الدليل الخاص وهو في خصوص مسألتنا
أما الدليل العام فهو البحث الأصولي المعروف وهو هل ان النهي عن المعاملة مقتض للفساد أم لا؟
والجواب: إن الأقوال والآراء الرئيسية في المسالة هي ثلاثة :
الرأي الأول وهو رأي الآخوند الخراساني في كفايته حيث قال برأي اول هناك، والظاهر انه قد بنى عليه وان كان قد نقضه بعد ذلك بحوالي صفحتين وهو: إن النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد مطلقا.
الرأي الثاني وهو رأي الميرزا النائيني حيث قال بالتفصيل فقد ذهب إلى إن النهي المتعلق بالسبب لا يدل على الفساد ولا يقتضي ذلك , أما النهي المتعلق بالمسبب فيقتضي الفساد
ومثال النهي المتعلق بالسبب كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة حيث ان المسبب وهو النقل والانتقال لا مشكلة فيه من حيث هو هو، إنما المشكلة في نفس الانشغال بالبيع وقت النداء للصلاة.
وأما النهي المتعلق بالمسبَّب فكالنهي عن بيع المصحف للكافر فان البيع بما هو هو لا مشكلة فيه، ولكن المشكلة في المقام في المتعلَّق فان المصحف لا يصح على المشهور ان يكون مملوكا للكافر حيث لا يصح أن تكون سلطة للكافر على كتاب الله العزيز، وفي كلام الميرزا تفصيل وبحثه يترك لمقامه.
الرأي الثالث وهو رأي السيد الوالد حيث قال في قبال هذين الرأيين إنه يرى إن النهي في المعاملات يدل على الفساد مطلقا، ويشقق بحثه هناك إلى تسع صور وإجمالا فانه يرى في ثمان صور إن النهي في المعاملة يدل على الفساد، ولكن صورة واحدة وهي الأخيرة, يرى فيها ان النهي لا يدل على الفساد.
اذن: هذه هي ثلاث آراء رئيسية، ونأتي بعدها إلى عناوين البحث
عناوين البحث:
وسنتطرق الآن إلى عناوين البحث والتي على ضوئها سوف تتفرع المسائل, وفي هذه العناوين سنعتمد على المسالة الأصولية المعروفة وهي :هل إن النهي في المعاملات يقتضي الفساد؟
العنوان الأول: هل المراد بالنهي الأعم من الشرعي والعقلي :
هل المراد من النهي هو النهي الأعم أم الأخص؟ أي: هل المراد من النهي الأعم من النهي الشرعي والعقلي فيما كان في دائرة المستقلات العقلية ؟ فان العقل ينهى عن الظلم، فلو كان لدينا معاملة فيها ظلم, كما هو الحال في بيع مال اليتيم بما لا غبطة فيه، بل بما فيه ضرر له، فان العقل ينهى عن الظلم، فهل يقتضي هذا النهي الفساد؟ والظاهر: ان (النهي) يراد منه الأعم من النهي الشرعي والعقلي
العنوان الثاني :هل تعم المسألة الحرمة الغيرية
هل ان النهي يشمل الحرمة الغيرية كالحرمة النفسية او لا ؟ وهذا موطن خلاف, والوالد أيضا هنا من المعممين للمورد حيث يقول : إن الحرام الغيري كالحرام النفسي ، فان النهي فيه يقتضي الفساد، ومسألتنا - على رأي المشهور - من قبيل الحرام الغيري ؛ فان حفظ كتب الضلال لو قلنا إنها حرام فيما لو أدت إلى الإضلال، حرام حرمة غيرية،
وأما البعض الأخر كالسيد الخوئي في المصباح فانه يقول: إن النهي الغيري في العبادة يدل على الفساد إلا على إمكان الترتب، وهذا خلاصة كلامه .
العنوان الثالث : هل النهي (يشمل) المولوي والإرشادي؟
هل (النهي يقتضي الفساد) يراد به الأعم من النهي المولوي والإرشادي؟
البعض يقول إن النهي الإرشادي لا يدل على الفساد، وأما النهي المولوي فيدل على ذلك،
ولكن السيد الخوئي يعكس الأمر حيث يقول : إن النهي الإرشادي يدل على الفساد وأما المولوي – في المعاملات - فلا ، ولكن الوالد يطلق القول فيقول : إن كلا النهيين يدل على الفساد .
العنوان الرابع :الصحيح استخدام كلمة يقتضي او يدل ؟
هل ان الصحيح استخدام كلمة يقتضي أو استخدام كلمة يدل؟ والفرق بينهما جلي ؛ لان كلمة يقتضي تشير إلى عالم الثبوت وكلمة يدل تشير إلى عالم الإثبات، ورأينا في المقام هو الأعم حيث ان النهي يدل ويقتضي الفساد أي ثبوتاً يقتضيه وإثباتاً يدل عليه.
ولكن البعض استشكل على كلمة يقتضي؛ حيث ان النهي لا قضاء فيه، فكلمة يقتضي استخدامها خاطئ، ولكن هذا وهم وخلط بين قضى واقتضى؛ إذ الأصوليون لم يستخدموا كلمة قضى بل استخدموا (اقتضى) والبون بينهما واسع.
ونضيف: ان النهي يقتضي الفساد سواءً قلنا إن الاقتضاء استخدم بمعناه الفلسفي وهو ما يقابل العلية التامة, او انه استخدم بمعناه المجازي، أي ما أريد به العلة التامة، فلا فرق، وإن كان الأصح، صغرى، انه لا علية تامة.
العنوان الخامس :هل المسالة عقلية او لفظية
ولا فرق بين أن نقول بان هذه المسالة الأصولية عقلية أو لفظية، فان هذا مورد خلاف، فبعض الأصوليين أدرجوا المسالة في مباحث الألفاظ - والمشهور ذلك -، وأما القليل الآخر منهم، فقد أدرجوا المسالة في مبحث الملازمات العقلية،
ولكن نقول لا فرق بين الأمرين؛ فانه وعلى مبنى الملازمة العقلية يكون الكلام هو :هل النهي التكليفي عقلا يلازم الفساد وضعا؟
وأما على المبحث اللفظي فنقول: هل إن ألفاظ النهي ظاهرة في الفساد ؟
إضافة تطبيقية مهمة:
وهنا نذكر إضافة مهمة وهي: إن المستظهَر بلحاظ (اجتنبوا) إنها مطلقة فتشمل الحكم الوضعي والحكم التكليفي معا وبوزان واحد ؛ وذلك لان من اقتحم في المعاملة التي تسبب الفساد والضلال والإضلال، فانه لم يكن مجتنبا لها، ولو قلنا إن الإحكام الوضعية نافذة ومترتبة فاننا نكون بذلك قد خالفنا (اجتنبوا)، إذن: الآية دليل على الشمول والتعميم، وللكلام تتمة. وصلى الله على محمد واله الطاهرين
الاحد 23 صفر 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |