بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(117)
١١- عدم الفحص يستلزم العِلم الإجماليّ بالمخالفةِ التدريجيّة.
الحادي عشر: ما قيل من أنَّ جريانَ البراءة في الشبهات الموضوعيّة قبل الفحص، وكذا الاستصحاب قبل الفحص وإجراء قاعدة الـمُقتضي والمانع قبله، يستلزم العِلم الإجماليّ بالمخالفة التدريجيّة، وذلك ممّا لا يصحّ بناءً على مُنجزيّةِ العِلم الإجماليّ في التدريجيّات.
إشكالان وأجوبة
وأُشكِل عليه أوّلًا: بأنّ العِلم الإجماليّ لا يتحقّق في المكلَّف الواحد، بل إنّما يتحقّق ويتولّد بالنسبة إلى جميعِ المكلَّفين، أو بالنسبة إلى مجموعةٍ مُعتدٍّ بها منهم كأهل هذه البلدة، أو طُلّابِ الجامعة، أو هذه العشيرة. وليس العِلم الإجماليّ المتعلّق بالمكلّف وغيره مُنجزًا بالنسبة له، إذ غيرُه أجنبيٌّ عنه، فيكون الأمرُ بالنسبةِ له شُبهةً بدويّة.
ولكن يمكن الجواب عن هذا الوجه، بتحقّقه ولو في الجملة في بعض المكلّفين، ولو في بعض الأوقات، فيجب التفصيل بحسب ذلك، لا إطلاق النفي؛ ألا ترى مثلًا أنّ المرأة التي يكثر شكُّها في بداية حيضها، والتي تشكُّ كثيرًا في تحوُّل الاستحاضة القليلة إلى متوسّطة أو كثيرة، أو العكس، يحصل لها علمٌ إجماليّ بأنّها إن لم تفحص، وأجرَت استصحاب الطهر عند الشكّ في الحيض، أو القلّة عند الشكّ في تحوّلها إلى متوسّطة أو كثيرة، يحصل لها علمٌ إجماليّ بالمخالفة خلال أشهر؟ سلَّمنا، لكن لا شكّ أنّها يحصل لها علمٌ إجماليّ بالمخالفة، إمّا في الحيض والاستحاضة، أو في القصر والتمام، إذا كانت ممّن تكثر السفر للزيارة مثلًا، فَتَصِلْ إلى منطقة يُشَكُّ أنّها مسافة أو لا، وكانت ممّن تستدين أو تشتري بالنسيئة، وممّن يجب عليها قضاء صومها وصلاتها لحيضٍ وشبهة، وتردّد ما فات بين ستّة أيام أو سبعة مثلًا، وكانت في معرض الاستطاعة وشبه ذلك؟!
أو التاجر الذي يُكثِر من الاستدانة وشبهها، والبيع والشراءِ بالسَّلَم والسَّلَف، أو الذي يُكثِر من معاملاتٍ يعلم بوقوعه في الربا في بعضها، إجمالًا، لو لم يفحص.
أو الساكن في الفندق، الذي يكثر تعرّضُه لأن يرى امرأةً قد تكون زوجته أو أجنبيّة، وأوضحُ منه العوائل الساكنة في بيوت مشتركة، حيث يكثر تعرّض الأزواج في ساحة الدار أو الممرّات، لرؤيةِ امرأةٍ قد تكون زوجته أو زوجة أخيه مثلًا.
ثانيًا: سلَّمنا أنّه قد يحصل بالنسبة إلى شخصٍ واحد، لكنّه من قبيل الشبهة غير المحصورة، على حسب بعض تعريفاتها.
ويمكن الجواب: بأنّه في بعض الصور السابقة هو من شبهةِ الكثيرِ في الكثير، فهو مُنجَّز، لأنّه محصور.
وفيه: أنّه قد يُدّعى أنّه غيرُ منجّز، لعدم كونِ الأطراف
[1] مُبتلى بها، ولو للغفلةِ عنها، كما أشار إليه الآخوند (قدس سره).
والجواب: إنّ ذلك وإن ضيّق الدائرة، إلّا أنّه يقتضي التفصيل بحسب الصور السابقة أيضًا، ولكن بحسب الـمُلتفِت وغيره.
ثالثاً: سلَّمنا، ولكن يمكن الجواب بوجهٍ عام، وهو الانتقال أوّلًا إلى عالم الملاكات، ثمّ النزول إلى عالم الأدلّة ودلالتها ودعوى انصرافها، بأن نقول: إنّ الـمُشرِّع الحكيم، الـمُلتفت إلى أنّ تشريع البراءة قبل الفحص، في القواعد الثلاث
[2]، يستلزم وقوع مجموع المكلّفين في مخالفة الواقع كثيرًا، لا يصحّ له، بالنظر إلى الحِكمة، ذلك.
فإن قيل: إنّ عالم الملاكات ليس من شأنِنا، إذ لا نعرف المزاحمات والموانع... إلخ، فليس لنا أن نحكم بأنّه موافقٌ للحكمة أو مخالفٌ لها.
أجبنا: بأنّ ذلك، إن صحّ
[3]، إلّا أنّ المدَّعى هو أنّ العُرف، الـمُلقى إليهم الكلام، مع إحاطتِهم بذلك (استلزام المخالفة في مجموع المكلَّفين كثيرًا من تشريع إجراء البراءة قبل الفحص)، فإنّ مثل «
رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ: ... وَمَا لَا يَعْلَمُونَ...»
[4]، عندما يُلقى إليهم، ينصرف، بحسب ارتكازهم العميق السابق، إلى أنّ المراد ما بعد الفحص.
١٢- (الأصول) قوالبُ عُرفيّة، وهي مُختصّةٌ بما بعد الفحص
الثاني عشر: ما قيل من أنّ الأصول، إن كانت تأسيسيّة، فإنّ قوالبها عُرفيّة عقلائيّة، وإن كانت إمضائيّة، فهي تُرجِع إلى العُرف والعقلاء، وفي الصورتين، العقلاء والعُرف لا يُجرون البراءةَ إلّا بعد الفحص.
وتحقيقُ هذا الوجه: أنّ الأصول (والمراد الأعمّ من الأمارات والأصول العمليّة) ثلاثةُ أنواع: الإرشاديّةُ المحضة، والتأسيسيّةُ المحضة، وما بينهما، أي التأسيسيّة – الإمضائيّة، أي الإمضائيّةُ في أصلها مع كونها تأسيسيّةً في حدودها.
فالأوّل: كحُجّيّة خبر الثقة، كـ:
«الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ»[5]، و«لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا»[6]، فإنّها إرشاديّةٌ محضة، لحُكمِ العقلاء دون تصرّفٍ من الشارع بتوسعة أو تضييق إلا على مبنى من يشترط الإيمان أو العدالة في الراوي، وككون الإرادة الاستعماليّة مرآةً للجدّيّة، وعدم التفكيك المطلق
[7] بين الإرادتين إلّا بقرينة.
والثاني: كقاعدة الطهارة والبراءة الشرعيّة (رُفِعَ ما لا يعلمون)؛ وفي الأخير تأمُّل
[8].
والثالث: كقواعد اليد، والسوق، والصحّة، والتقليد، فإنّها في أصلِها ممّا عليها بناءُ العقلاء والأعراف كافّة، إلّا أنّ الشارع وسَّع أكثرَ منهم في الثلاثة الأولى، وضيَّق في الأخير
[9]، فاشترط فيه العدالة، وطهارةَ المولد، والذكورة والبلوغ، والحياة، وشبهها (بناءً على ذلك فتوى أو احتياطًا)، فهي تأسيسية – إمضائيّة.
ولنا أن نغيّر التعبير والتصنيف إلى: تأسيسيّة، وإمضائيّة، وأنّ الإمضائيّة قسمان: إمضائيٌّ محض
[10]، وإمضائيٌّ تأسيسيّ.
والحاصل: إنّه في الأصول الإرشاديّة المحضة، حيث كانت إرجاعًا إلى الأصول العقلائيّة، كانوا هم المرجع، وهم لا يُجرون البراءةَ إلّا بعد الفحص.
وأمّا الإمضائيّةُ المحضة، والإمضائيّة – التأسيسيّة، فإنّها وإن كانت حيث كانت كذلك، فإنها ممّا لا يُعلَم إلّا من قبل الشارع، إلّا أنّه حيث كانت قوالبُها عرفيّة، فالمرجع تلك القوالب، والعُرف لا يفهم من هذه القوالب إلّا ما بعد الفحص.
وقد يُناقَش: بأنّ الكلام في تقييد إطلاق أدلّة الاستصحاب والبراءة، بما بعد الفحص، والتقييدِ من سنخ المعاني، لا القوالبِ والألفاظ.
وفيه: إنّ الإطلاقَ والتقييد، وإن انصبّا على المعنى (والحكم أو موضوعه بما هو موضوعه)، إلّا أنّ مَصبَّه أوّلًا، وواسطته، هو اللّفظ، فكما يفهم العُرف من (أكرم العالِم) الإطلاق، وهو معنويّ، لكنّه مُستند إلى اللفظ، كذلك حال ما لو فَهِم من الدليل المطلق، تقييدَه بأمرٍ ارتكازيّ.
وفيه: إنّ ذلك وإن صحّ، لكن الأَولى التعبيرُ عنه بمُقيَّديّة الارتكاز العميق للّفظِ المطلق، فالارتكازُ، وهو من سنخِ المعاني، هو الـمُقيِّد، لا القالبُ اللفظي.
والحاصل: القالب اللفظي لا بشرط، لكنّ الارتكاز العقلائيَّ العميق، هو الذي يُقيّده، فقد حصل خلطٌ بين الـمُقيِّد وغيرِه، فتدبّر.
بقي أن هُهُنا أكثر من وجهٍ غير الوجوه السابقة للزومِ الفحص قبل إجراءِ البراءة، ولكن نكتفي بهذا القدر.
الاستدلال على البراءة بـ «إِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا»
وقد استُدِلّ على جريانِ البراءةِ قبل الفحص، برواية ابن محبوب عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمدِ بن أبي نصر، قال:
«سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِي السُّوقَ فَيَشْتَرِي جُبَّةَ فِرَاءٍ لَا يَدْرِي أَ ذَكِيَّةٌ هِيَ أَمْ غَيْرُ ذَكِيَّةٍ؟ أَيُصَلِّي فِيهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمُ الْمَسْأَلَةُ، إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِجَهَالَتِهِمْ، إِنَّ الدِّينَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ»[11].
ولكنّ الاستدلالَ بهذه الرواية، موقوفٌ على إرادة المعنى الرابع الآتي، وهو ممّا لا يُعلَم؛ إذ المحتملات في قوله (عليه السلام) « إِنَّ الْخَوَارِجَ...»، الواقعِ موقعَ التعليل، المستظهرِ منه إفادةُ كبرى كليّة، هي أربعة:
1- (ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، في السوق)، لكن المورد وإن كان مُشعِرًا، لكنه غيرُ مخصِّص.
2- (ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، في أشياء)، إذ لا يُعلَم ما الذي ضيّقوا على أنفسهم فيه، فإنّها قضيّةٌ خبريّة، وحوالةٌ على حالتهم الخارجيّة وهو مجهول لدينا.
3- (ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ في كلّ ما لا ينبغي أن يُضيَّق فيه)، ولعلّ هذا هو المستظهر، ولكنّ (ما لا ينبغي) مما لا يعلم ما هو.
4- (ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ في كلّ شيء بما هو هو) فهذا هو النافع لتلك الدعوى دون غيره. فتدبّر.
أما الخامس وهو: (ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ في كلّ شيء) فهو مما لا يحتمل.
الاستدلال عليها بموثقة مسعدة بن صدقة
كما استُدِلّ على البراءةِ قبل الفحص بموثّقةِ مسعدة بن صدقة، وهي: ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
«سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ، حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ، فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ يَكُونُ قَدِ اشْتَرَيْتَهُ، وَهُوَ سَرِقَةٌ، أَوِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَكَ، وَلَعَلَّهُ حُرٌّ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ أَوْ خُدِعَ، فَبِيعَ أَوْ قُهِرَ، أَوِ امْرَأَةٍ تَحْتَكَ وَهِيَ أُخْتُكَ أَوْ رَضِيعَتُكَ، وَ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا، حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ»[12].
وأُجيب عنها: إنّ «بِعَيْنِهِ» قرينةٌ على إرادة صورة العلم الإجماليّ، وأنّ الأمثلةَ كلَّها من مواردِ السوق أو اليد أو الصحّة أو الاستصحاب، فلا تُعمّم لغيرها، مع وضوح أنّها عرفاً صارفةٌ للكلام، وإلّا فموجبة لإجماله، لأنّها من مُحتملِ القرينيّةِ المتّصل، وبمعارضتها في النكاح على الشبهة، بموثقة مسعدة بن زياد.
وفي العديد من المطالب السابقة أخذٌ ورَدّ، يُوكَلُ لِمَحلِّه من علمِ الأصول، بإذن الله تعالى.
قال الإمام الصادق (عليه السلام ): «اتَّقُوا الْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ، قُلْتُ: وَمَا الْمُحَقَّرَاتُ، قَالَ: الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ طُوبَى لِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي غَيْرُ ذَلِكَ» الكافي: ج2 ص287.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
كيف نقضي العطلة الصيفة وكيف نستثمرها؟[13]
قال الله العظيم في كتابه الكريم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرار}[14].
وفي قوله تعالى: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} احتمالان ذكرهما المفسرون:
أوّلهما: إنّ هنالك مجازًا وتقديرًا، وأنّ أصله (بدّلوا شُكرَ نعمةِ اللهِ كُفرًا)، فبدلَ أن يشكروها بالأقوال والأفعال، كفروها، وكفروا بها.
ثانيهما: وهو الأرجحُ في النظر القاصر، إبقاؤها على حالها دون تصرّف؛ إذ إنّ المعنى الحقيقيّ من دون تقدير صحيح، إذ يمكن تحويل نعمةِ الله إلى كفر، كما لو حوّل الخلَّ خمرًا، أو الدواءَ سُمًّا قاتلًا (بمزجه بموادّ كيماوية مثلًا)، أو الكلام، وهو من أعظمِ نعمِ اللهِ علينا – كُفرًا، بأن حوّله إلى غيبةٍ وتُهمةٍ ونميمةٍ وشتائم، أو إلى أسوأ من ذلك، إلى الكفر بالله العظيم، بأن نطق بخلافِ كلمةِ التوحيد، فأنكر البارئ جلّ اسمُه، أو جعل له أندادًا.
وكذلك القوّةُ الغضبيّة، فإنّها نعمةٌ من نِعَم الله تعالى، إذ بها قِوامُ الحياة (بالدفاع عن النفس مقابل وحشٍ كاسر، أو عدوٍّ غاشم)، وتبديلها كفرٌ، بأن يُحوّلها من الدفاع عن المظلوم إلى الاعتداء عليه وسحق حقوقه.
وكذا حال القوّةِ الشَّهويّة، إذا حوّلها ممّا يَحِلّ ويجمل، إلى ما يَحرُم ويَقْبُح.
و(الوقت) من نِعم الله تعالى، التي كثيرًا ما يُحوّلها الناس إلى كفر، بصرفه في اللّهو واللعب المحرّمين، أو بقضائه في مجالس البطّالين (
أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفَ مَجَالِسِ الْبَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي)
[15]، أو في حياكةِ المؤامرات ضدّ المؤمنين، فإنّ (الوقت كالسيف، إن لم تقطعه، بالعمل الصالح والعلم النافع قطعك بتضييعه فيما لا يحلّ).
والعطلة الصيفيّة، ومُطلق العُطل، توفّر للجميع (سواء أطباء، ومهندسين، أم علماء ورجال دين، أم طلابًا وجامعيين... إلخ) وقتًا طويلًا وثمينًا جدًّا، فإمّا أن نستثمره فيما يُرضي الله تعالى، ويَبني مستقبلنا وأسرتنا ويُنجِد شعبنا، وإمّا، والعياذ بالله، لا، والعقوبة شديدة حينئذ
{سَلْ بَني إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ}[16]، و{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ}[17].
استثمار العطلة في أربعة أمور
وامتحانُ الوقت امتحانٌ نجح فيه قومٌ، وخسر فيه آخرون، فلنُصمّم ونَعزِم ونَجزِم على أن نكون من الرابحين...
وذلك عبر استثمار العطلة في أربعة أمور:
أوّلًا: تهذيب النفس وبناء الذات...
ذلك أنّ كُلًّا منّا يُعاني من نقاط ضعفٍ، فعليه أن يرصدها جداً وأن ينتهزَ العطلة لاقتلاعِها من الجذور حقاً، وذلك عبر الإيحاءِ النفسيّ، والتلقين، والاشتراك في الدورات التخصصية، ومطالعة الآياتِ والروايات، والتفكّر في القصص بما فيها من دروسٍ وعِبر.
فمن يُعاني من طُغيان القوّة الغضبيّة، في المنزل أو خارجه، عليه أن يُجنِّد كلَّ طاقاته في العطلة الصيفيّة للقضاء على هذا الإدمان.
ويُقال: إنّ فترة ثلاثة إلى أربعة أشهر هي مثاليّة للقضاء على كلّ إدمان، ولكن بعض الناس، بقوّة الإرادة، وبالتسلّح بالأدعية والأذكار، يمكنه أن يقضي على الإدمان في أيام، بل منذ اللحظة الأولى.
وكذلك من تسوقه قوّته الشهوية لمشاهدة المناظر اللا أخلاقيّة، في أجهزة التواصل الحديثة
[18] وغيرها، فإنّ العطلة أفضل فرصة لكي يُعسكر عند نقطةِ الضعف هذه حتى يقتلعها.
أو من اعتاد عدم الصلاة في أوقاتها، أو عدم الانضباط في المواعيد، أو جلسات البطّالين... فهذه أفضل فرصة لتهذيب النفس، وترويضها على اجتناب المعاصي، واقتلاع الرذائل الخُلُقيّة.
ثانيًا: تطوير المهارات
فإنّ الكتابة مهارة، وكذلك الخطابة، والتربية، والتدريس، ومهما كان الإنسانُ خبيرًا فيها، فإنّ هنالك درجاتٍ أعلى، فعليه أن يدخل دورةً تدريبيّةً مكثّفة لتقوية قلمه أو بيانه، أو التعرّف على فنون التربية والتدريس المتطوّرة، وأن يُطالِع كتبًا منوّعة في ذلك وأن يتشاور دوماً مع مجموعة من أهل الخبرة.
وكذلك على ربة البيت أن تدخل دورة مثلًا في فنّ تنظيم المنزل، في وقتٍ أقلّ وبكفاءةٍ أعلى، وعلى الشابّ أن يتعلّم فنّ التسويق، وعلى الطبيب ان يدخل دورةً مكثّفة، يتعلّم بها آخر مستجدّات الطب واكتشافاته، ويتدرّب على الأجهزة الحديثة... وهكذا، كأن يدخل المزارع دورةً تدريبيّة في كيفية الحفاظ على خصوبة التربة، أو ريّ المزروعات بكفاءةٍ أفضل، أو استخدام المبيدات الحشريّة بأقلّ قدرٍ من الأضرار... إلخ.
ثالثًا: إنجاز عمل
مثلًا، ليُصمِّم طالب العلم على مطالعة مرآة العقول كلّه في فترة العطلة (فإن لم يكتمل، فيُكمِله في العُطَل اللاحقة)، أو يُطالِع منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة كلّه، أو (بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة)، أو تفسير التبيان، أو البرهان، أو ما أشبه.
أو إذا كان مشغولًا ببناء حسينيّة، أو ميتم، أو مدرسة، أو غيرها، فليركّز كلّ جهوده للإسراع في إنجاز المشروع قدر المستطاع.
رابعًا: تربية الأسرة
ذلك أنّ كثيرًا منّا ينشغل عن أسرته، بتجارته، أو زراعته، أو حتّى بدرسه وتدريسه، مع أنّه تعالى يقول:
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْليكُمْ ناراً}[19].
ولعلّ إهمال الآباء والأمّهات لأولادهم وبناتهم، وعدم منحهم وقتًا كافيًا من التوجيهِ الرفيق والوعظ الرقيق، والاحتضان، والاستماع لهم ولمشاكلهم، وكونهما كالأصدقاء لهم، يُعدّ من الأسباب الرئيسة في جنوح الكثير من الأحداث، وانحرافهم، ووقوعهم أسرى في شباك المخدّرات، أو العصابات، أو أنواعٍ من الانحراف الخُلقي والعَقَدي والفكري.
من هَدْيِ الروايات
أخيرًا: فإنّ الروايات تمنحنا أفضل التعليمات عن استغلال الأوقات أفضل استغلال، إذ تُصوّر لنا من جهةٍ خطورةَ الفراغ وأهميّةَ الوقت، وتَحُضّ من جهةٍ أخرى على أداء حقّ الوقت كأفضل ما يكون.
نعمتان مفتون بهما الناس
ومن النوع الأول: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«نِعْمَتَانِ مَفْتُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الْفَرَاغُ وَالصِّحَّةُ»[20]، والفتنة تعني الابتلاء والامتحان، كما تعني العذاب والعقاب، والمعنى الأخير ممكن: أي أنّ نِعمتين يُعذّب بهما ويُعاقَب عليهما كثيرٌ من الناس: الصحّة، إذا صَرَفها في المحرمات، والفراغ، إذا بذله في المعاصي.
وأمّا المعنى الأول، فيعني: نِعمتان مُمتحَن فيهما كثير من الناس، وتصوّروا أنفسكم في المدرسة أو الجامعة، في قاعة الامتحان، فمن أدار أوقاته من قبل بأفضل الوجوه، فإنه يخرج ناجحًا، وإلّا كان راسبًا.
كذلك حالُنا في العطلة الصيفيّة وطوال العمر، فمن استغلّها في طاعة ربّه، وخدمة عباده، وتهذيب نفسه، خرج آخر العطلة مرفوع الرأس، وإلّا كان هو البائس حقًّا.
وورد:
«الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ نِعْمَتَانِ مَكْفُورَتَانِ»[21]، أي يُكفر بهما، بمعنى يُجحَد حقهما ويُنكَر، بدل أن يُشكر.
كن من حقوق النِّعَم على وجل
ومن النوع الثاني: ما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام):
«وَاللَّهِ، إِنَّهُ لَتَكُونُ عَلَيَّ النِّعَمُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا أَزَالُ مِنْهَا عَلَى وَجَلٍ، وَحَرَّكَ يَدَهُ، حَتَّى أَخْرُجَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَجِبُ لِلَّهِ عَلَيَّ فِيهَا»[22].
وهي من أروع الروايات والعبارة عجيبة جدًّا... إذ إنّه هو الإمام الرضا (عليه السلام)، بعصمته، وعظمته، وسموّ مكانته فوق جميع الخلائق، إلى جوار سائر المعصومين (عليهم السلام)، ومع ذلك، هو منها على وَجَل... فما بالُنا نحن؟ وكيف لا نكون على وجلٍ من أداء حقوق الله تعالى علينا، في نعمة الوقت، والصحّة، والذّكاء، والأمن، والعلاقات... إلخ؟
والوَجَل يعني: القلق والاضطراب، وهو مباينٌ للخوف، كما ارتآه أبو هلال العسكري؛ أي أنّه ينبغي للإنسان، عند مواجهته لأيّة نعمةٍ، أن يكون قلقًا مضطربًا، غير مستقرّ، ولا آمن، ولا مطمئنّ، حتى يؤدّي حقوق الله فيها.
وأقول: إنّ الوجل لا يُستَعمَل عادةً إلا فيما هو مطلوب وخير، كما في قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيماناً}[23].
أمّا الخوف، فقد يكون فضيلةً ومطلوبًا، كـالخوف من الله تعالى، وقد يكون رذيلةً ومرغوباً عنه كالخوف من مواجهة العدوّ حين البأس، أو الخوف ممّا لا ينبغي الخوف منه
[24].
نسأل الله تعالى التوفيق لنا ولكم للعلم النافع والعمل الصالح مع الإلحاح في الدعاء لتعجيل فرج وليه الأعظم ( عجل الله فرجة )في عافية منّا.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين