بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(637)
الملخص: سبق البحث عن دعوى أن مثل {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لا إطلاق له ولا يعم ما يخالف المرتكزات العقلائية بل حتى ما لا يوافقها، وذلك بدعوى أن أدلة المعاملات إمضائية، فلا تكون إلا مرشدة للمعاملات العرفية فلا ينعقد لها الإطلاق، وعليه: لا تشمل الإطلاقات المعاملة الإكراهية؛ نظراً لكونها باطلة عند العرف.
النائيني: التأسيسي والإمضائي، والملكية ممضاة بزيادة
وقد سبقت المناقشة في ذلك صغرى، وكبرى ومضت برهنة أن المعاملات إمضائية – تأسيسية، ومن المفيد أن نستعرض هنا كلام المحقق النائيني (قدس سره) حول الاعتبارات العرفية كالملكية التي اشتهر كونها إمضائية، مع بعض الإيضاح وبعض النقد، قال: (الأمر الرابع: المجعولات الشرعية: إما أن تكون تأسيسية وهي التي لا تكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء، كالأحكام الخمسة التكليفية، وإما أن تكون إمضائية وهي الأمور الاعتبارية العرفية التي يعتبرها العرف والعقلاء، كالملكية والزوجية والرقية والحرية ونحو ذلك من منشآت العقود والايقاعات، فان هذه الأمور الاعتبارية كلها ثابتة عند عامة الناس قبل الشرع والشريعة، وعليها يدور نظامهم ومعاشهم، والشارع قد أمضاها بمثل قوله ـ تعالى {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و((وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ))([1]) ونحو ذلك من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة، وليست الملكية المنشأة بالبيع والزوجية المنشأة بالنكاح والتسالم المنشأ بالصلح، من المخترعات الشرعية، بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع بزيادة بعض القيود والخصوصيات، وليست من الأمور الانتزاعية)([2]).
أربعة أمور في العقود، إمضائية - تأسيسية
أقول: أما قوله في ذيل كلامه (وليست الملكية المنشأة بالبيع والزوجية المنشأة بالنكاح والتسالم المنشأ بالصلح من المخترعات الشرعية، بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية) فهو ما تبناه المشهور([3]) ونضيف له: أن الأمور الأربعة السابقة كلها تساق بعصا واحدة وهي (الصيغة والإنشاء، التسبيب، مبادلة مال بمال، والملكية) فليس أيّ منها، على المبنى المشهور، من المخترعات الشرعية بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية، أفهل ترى أن الشارع اخترع صيغة بعت واشتريت أو آجرت أو صالحت؟ أو اخترع التسبيب بها إلى النقل والانتقال وأشباهه؟ أو اخترع مبادلة مال بمال؟ أو اخترع الملكية؟
وأما قوله: (بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع بزيادة بعض القيود والخصوصيات، وليست من الأمور الانتزاعية) فهو ما ذكرناه من الامضائية – التأسيسية لكنه (قدس سره) حكم بها على المرتبة الرابعة (الملكية) وقد سبق أن أجريناها على المراتب الأربع كلها حيث مضى إثبات أن المراحل الأربع كلها إمضائية في أصلها – تأسيسية في حدودها فراجع ما مضى، وحيث أن مصبّ الإطلاق هو الحدود فلا يبقى مجال للشك في انعقاد الإطلاق مادام الشارع مؤسِّساً في الحدود وليس مجرد ممضٍ كي لا ينعقد لكلامه إطلاق على خلاف مرتكزات العقلاء فيها.
وبعبارة أخرى: كلامه (قدس سره) يقع في مقابل كلام الشيخ (قدس سره) حيث ارتأى أن مثل الملكية انتزاعية، منتزعة من الأحكام التكليفية فهي على هذا من مجعولات الشارع بجعل منشأ انتزاعه، لكنه رأى أنها ليست منتزعة ولا هي من مجعولات الشارع بل هي إمضائية لأصل الماهية مع تصرف وجعلٍ لبعض القيود والحدود، وهو ما التزمنا به من الإمضائية والتأسيسية في المراحل الأربعة كلها.
مناقشة: الأحكام الخمسة، موجودة لدى العرف
وأما قوله: (المجعولات الشرعية: إما أن تكون تأسيسية وهي التي لا تكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء، كالأحكام الخمسة التكليفية) فيرد عليه: انه أراد عناوينها أو مفاهيمها وماهياتها والكبرى الكلية، أي نفس الوجوب والحرمة وسائر العناوين الخمسة، كما هو ظاهر كلامه خاصة بقرينة مقابلته لها مع الأحكام الوضعية، كالملكية والزوجية المراد بها كبرياتها الكلية، ورد عليه: بداهة وجود هذه العناوين في كافة الملل والنحل، كما توجد لهم ملكية وزوجية وحرية... إذ يوجد لديهم وجوب وإيجاب وحرمة وتحريم.. إلخ.. وإن أراد صغرياتها، أي أن صغريات الواجبات والمحرمات ليس منها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء، وَرَدَ عليه: عدم تمامية هذا الكلام إذ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية، لبداهة أن العديد من الواجبات الشرعية، ثابتة لدى العقلاء، وإن كان ذلك باختلافٍ في بعض القيود والخصوصيات كما أن المعاملات ثابتة لدى العقلاء باختلاف عن الشرع في بعض الخصوصيات؛ ألا ترى وجود الضريبة لدى العقلاء، والخمس نوع ضريبة وإن اختلفت المقادير أو الشروط؟ وألا ترى وجوب الجهاد لدى كل الأمم إذا دهمهم عدو غاشم؟ ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لديهم، وإن اختلفوا عن الشرع في بعض مصاديقهما؟ بل ألا ترى وجوب الصلاة لديهم في الجملة؟ وهكذا.
ردّ دعوى المشهور: انّ الاعتباريات ثابتة قبل الشرع
وأما قوله: (فان هذه الأمور الاعتبارية كلها ثابتة عند عامة الناس قبل الشرع والشريعة، وعليها يدور نظامهم ومعاشهم) فيرد عليه:
انّه إن أراد انها ثابتة قبل شرعنا وشريعتنا، وَرَدَ عليه: أنه أعم من المدعى إذ ثبوت هذه قبل شرعنا كما قد يكون لكونها من الاعتباريات العرفية فانه قد يكون لكونها من مجعولات الشرائع السابقة فتكون الآيات والروايات ممضية لما ورد في الشرائع السابقة لا للأعراف السابقة.
وإن أراد من (قبل الشرع والشريعة) الجنس أي مطلق الشرائع، أي أن هذه الاعتبارات ثابتة قبل كافة الأديان، ورد عليه: أولاً: انها دعوى بلا دليل، ثانياً: بل الدليل على عدمها، لبداهة ان أول من وجد من البشر على سطح الأرض كان نبياً مرسلاً من قبل الله تعالى وهو آدم (عليه السلام) فكيف يدعى وبأي دليل أن البشر اخترعوا هذه العناوين قبل شريعته، فأمضاها هو؟ بوجه آخر: قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (سورة فاطر: الآية 24) فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا ومعها نذير، فمن أين أن المعاملات كان منشأها بعض الناس فأمضاها النذير وليس العكس([4])؟ ويكفي احتمال العكس أي انه هو اخترعها أو أسّسها؟ بعبارة أخرى: من أين أن قابيل وهابيل أو بعض ذريتهما هم الذين اخترعوا البيع والإجارة و... فأمضاها آدم (عليه السلام)، إذ لعل الذي حدث هو العكس؟ وإذا جاء الاحتمال، وهو عقلائي بل هو برهاني كما سيأتي، بطل الاستدلال فلا تصح دعوى أن إطلاقات الشارع إرشادية للأعراف السابقة على الشرائع كلها من دون إقامة دليل على سبقها عليها.
بل نقول الظاهر أن الأحكام والموضوعات مخترعة للشارع، إذ يقول تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} (سورة البقرة: الآية 31) ومن الأسماء أسماء المعاملات وحقائقها، وقد ورد ((الْحُجَّةُ قَبْلَ الْخَلْقِ وَمَعَ الْخَلْقِ وَبَعْدَ الْخَلْقِ))([5])([6])
الإمضاء المطابقي يسبق الإمضاء الالتزامي
كما يرد على قوله: (والشارع قد أمضاها بمثل قوله ـ تعالى {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} و{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و((وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)) ونحو ذلك من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة) انه وإن صح إلا أن الأولى كان الاستدلال بالأسبق رتبةً، فانه (قدس سره) استدل باللازم على الملزوم؛ إذ ملزوم {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} هو تحقق الملكية إذ البيع يقع على الملك، وكان الأولى الاستدلال بما دل مطابقة على تلك العناوين كـ{خَلَقَ لَكُمْ} بناء على أن اللام للملك، فتأمل و((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))([7]) وهي للملك دون كلام و{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}([8]) و((النكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي))([9]) بدل الاستدلال بـ{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} على النكاح باعتباره من صغرياته وهكذا. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
* * *
اذكر أدلة أخرى نقلية واعتبارية على أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا هم المؤسسين حتى لما يسمى بالاعتباريات العرفية، أو ناقش أدلتنا السابقة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ((أَكْرِمُوا ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ)) (إرشاد القلوب، ج1 ص32).
----------------------------
([1]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، منشورات جماعة المدرسين ـ قم: ج3 ص32.
([2]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج4 ص386.
([4]) أي انه (عليه السلام) جعلها فتعلموا منه وعملوا بها.
([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص177.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص279.
([9]) المستدرك ، ج 14 كتاب النكاح ، أبواب مقدمات النكاح ، ب 1 ح 15 .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ((أَكْرِمُوا ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ)) (إرشاد القلوب، ج1 ص32).