بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(561)
العراقي: الإكراه بحقٍ غير مرفوع، للامتنان
بحث تمريني: قال المحقق العراقي في شرح التبصرة: (ثمَّ إن مقتضى كون رفع الإكراه لمحض الإرفاق على المكره اختصاص ذلك بالإكراه بغير الحق، وإلا ففي الإكراه بحق مع امتناعه لا يكون في وضعه عليه خلاف امتنان في حقّه، بل رفع الأثر عن عمل مثل هذا الشخص خلاف الامتنان في حق الغير، وهو خلاف كون سوق الحديث في مقام الامتنان على الأمة)([1]).
بين بيع السلاح للمسلم أو للحربي
ولا بد من توضيحه أولاً ثم طرح السؤال، فانه إذا باع شخص ما، السلاح لأعداء الدين وهم في حالة حرب مع المسلمين، فانه من غير الحق إذ لا يجوز بيع السلاح لهم فانه ظلم ومفسدة وإضرار بالمسلمين، وقد قال تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)([2])، وأما لو باع السلاح للمسلمين مطلقاً أو لدى حاجتهم إليه كما فيما إذا كانوا في حالة حرب دفاعية مع الكفار أو ابتدائية بإذن الإمام (عليه السلام)، فانه من الحق.
وحينئذٍ: لو أكره مُكرِهٌ مالكَ الأسلحة على بيع السلاح لأعداء الدين فإنه إكراه بغير الحق، ولذا فان حديث رفع ما أكرهوا عليه يشمله فان الامتنان في شموله له، فهذا البيع ليس بيعاً بحق ولذا فانه حتى لو قيل بكونه صحيحاً فرضاً بعنوانه الأولي (أي محرماً لكنه غير باطل، كالبيع وقت النداء فانه محرم لكنه ليس بباطل) فانه باطل بعنوانه الثانوي أي لأنه وقع مكرهاً عليه لذا ترفع صحته، وذلك على العكس مما لو أكرهه بالحق أي ببيع السلاح للمسلمين، فان حديث الرفع لا يشمله لأنه خلاف الامتنان، فان تصحيح الشارع هذا البيع، على حسب العراقي، ليس خلاف الامتنان في حقه بل رفع الأثر عن عمل مثل هذا الشخص خلاف الامتنان في حق الغير وهو خلاف كون الحديث مسوقاً في مقام الامتنان على الأمة كما قال (قدس سره).
الفرق بين إكراهها على الزواج إذا اصلحها أو إذا أضرّ بها
مثال آخر: لو أكره ابنته على الزواج، فإن كان بباطل كما لو أراد تزويجها بغير الكفء لها كشاربٍ للخمر زنّاءٍ والعياذ بالله وشبه ذلك، فإن مقتضى الامتنان بطلان النكاح، ولو أكرها على الزواج بحقّ كما لو اختار الكفء لها (أو الأعلى منه) وكان في زواجها مصلحة لها وفي عدمه مفسدة لها، فان الامتنان يقتضي صحة العقد وإن كانت مكرهة، ولا يشمله حديث الرفع، بحسب العراقي. فالمدار الامتنان وعدمه، إذاً، لا الإكراه وعدمه؟
فهل كلامه قدس سره تام؟ فكروا جيداً قبل ان تراجعوا الجواب خاصة البنائي الآتي.
المناقشات
والجواب: مبنىً وبناءً:
المناقشة مبنىً: الامتنان حِكمة
أما مبنىً فقد سبق أن الامتنان حِكمة وليس عِلّة فيجب ان ندور مدار الإطلاق وحديث الرفع مطلق لوجهين: انّ الأصل في اللام الجنس وانّ حذف المتعلق يفيد العموم، والعِلّة معمّمة مخصّصة لا الحِكمة، وقد أقمنا على ذلك (ان الامتنان حِكمة) دليلين وسنشفعهما بأربع أدلة أخرى إن شاء الله تعالى غداً.
لا يقال: إنّهم صرحوا بان منصوص العلّة حجة معمّمة مخصّصة؟ فلا يتم الدليل الأول الماضي في الدرس السابق.
إذ يقال: لا شك في انه إذا أحرز كون شيء علّة للحكم بنص الشارع على كونه علّة تامة، كان معمماً مخصصاً حاكماً على الإطلاق أو العموم اللفظي، إلا ان الكلام كل الكلام في انه لا يصح التمسك بهذه القاعدة العامة في الشبهات المصداقية، أو فقل ثبّت العرش ثم انقش فأين منصوص العلّة؟ بل الموجود عادةً منصوص الحِكمة وأما ما ظاهره انه علّة فقد حملوه على انه حِكمة كما يشهد به استقراء الفقه كله، كما مضى في الدرس السابق.
والحاصل: انه لا شك في هذه القاعدة ككبرى كلية، إنما الكلام في المصاديق حيث ان الاستقراء في الروايات وفي الفقه والقرائن الحافة وغيرها تفيد كون المذكورات حِكماً بل حتى ما صرحوا بانه (علّة) كـ(لا تشرب الخمر لأنه مسكر) ليس دليلاً على المقام وذلك نظراً لأنه ورد عنوانان في الروايات كمتعلَّق للتحريم 1- الخمر 2- والمسكر، ولذا يحرم شرب هذا الخمر وإن لم يكن مسكراً؛ لأنه خمر وقد ورد تحريم الخمر بنصه في الكتاب والسنَّة؛ وإلا لو كان الإسكار علّة معممة مخصصة ولم يدل دليل فرضاً على حرمة الخمرة بعنوانها لكان ينبغي ان يقال بعدم تحريم القطرة من الخمر لأنها ليست مسكرة وبعدم تحريم الخمر لمن اعتاده فلم يعد يسكره، وكذلك الحال في المسكر فانه محرم خمراً كان أو غيره. فتأمل([3]) وعلى أية حال فانه حتى لو سلّمنا هذا المثال فان ما التزموا من الحِكَم بكونه عِلّة، نادر أو قليل جداً.
المناقشة بناءً: الفرق في الـمُكرِه بين مَن له الولاية وغيره
وأما بناءً، وهو العمدة في الإضافة ههنا، فنقول: انه على مبناه من عِلّية الامتنان يلزم، كما هو ظاهر كلامه، صحة المعاملة التي أكره عليها بحق لأن الصحة ليست خلاف الامتنان بل هي على وفق الامتنان، لكنه هو (قدس سره) والمشهور في الفقه لم يلتزموا بذلك على إطلاقه حتى في المقام بل فصّلوا بين كون الـمُكرِه ممن له الولاية فيصح ما أكره الغير عليه وممن لا ولاية له فلا يصح، ففي المثال السابق. لو كان الأب أو الجد هو الـمُكرِه لها على الزواج الذي كان لمصلحتها وكان تركه مفسدة لها ، فانه يصح، حسب دعوى عدم شمول حديث الرفع لأنه شموله للمقام ليس امتنانياً، لكنه لا يصح، على المشهور، لو كان المكرِه لها هو غير الولي كما لو أكرهها ابن عمها على هذا الزواج فانه باطل إذ هي مكرَهةٌ وهو لا ولاية له، مع ان الامتنان في المقام بالنسبة لها بحاله([4]).
وكذلك الأمر في الـمُلزِم ببيع السلاح للمسلمين فان كان هو الحاكم الشرعي، صح، وإن كان آحاد المسلمين لم يصح، خاصة وانه يلزم الهرج والمرج أو اختلال النظام من تسويغ ذلك لآحاد المسلمين.
إن قلت: فهذا هو المحذور الذي يلجأنا إلى القول بعدم صحة هذا البيع؟.
قلت: كون هذا أو غيره محذوراً مانعاً عن صحة البيع، لنا وليس علينا بل هو عليكم إذ دلّ على ان الامتنان حِكمة وأنّ الحكم لا يدور مداره، ولذا عندما زوحم بالأهم (وهو خوف الفوضى...) لم يَدُر الحكمُ مدارَه.
إذاً: لا مناص على مختلف الأقوال والوجوه من الإذعان بان الامتنان ليس علّة، غاية الأمر كونه (حِكمة أشبه بالعلّة) أو (علّة إذا أحرز من لسان بقية الأدلة عدم وجود مزاحم أهم أو مانع) وإلا فانه بما هو هو حِكمة لا غير. فتدبر جيداً والله العالم.
وسنتطرق غداً لسائر الأدلة على عدم صحة الالتزام بكون الامتنان علّة لرفع الأحكام، بل هو حِكمةٌ فقط.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: الْبِرُّ وَإِخْفَاءُ الْعَمَلِ وَالصَّبْرُ عَلَى الرَّزَايَا وَكِتْمَانُ الْمَصَائِبِ)) (تحف العقول: ص200).
--------------
([1]) الشيخ آغا ضياء العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج5 ص29.
([2]) سورة البقرة: الآية 188، وسورة النساء: الآية 29.
([3]) إذ قد يجاب: بان تحريم القطرة لقوله (عليه السلام): ((وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)) (الكافي: ج6 ص408)، وان الخمرة حرمت لشأنية الإسكار لا لفعليته أو لأنها مسكرة للنوع، فتأمل وقد فصّلنا الأخذ والرد في ذلك في بحث ما سبق.
([4]) أي ينبغي حسب كلام العراقي صحة هذا العقد لأن صحته امتنانية فلا يرفعها حديث الرفع والإلزام خلاف الامتنان.
--------------
([1]) الشيخ آغا ضياء العراقي، شرح تبصرة المتعلّمين، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج5 ص29.
([2]) سورة البقرة: الآية 188، وسورة النساء: الآية 29.
([3]) إذ قد يجاب: بان تحريم القطرة لقوله (عليه السلام): ((وَمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)) (الكافي: ج6 ص408)، وان الخمرة حرمت لشأنية الإسكار لا لفعليته أو لأنها مسكرة للنوع، فتأمل وقد فصّلنا الأخذ والرد في ذلك في بحث ما سبق.
([4]) أي ينبغي حسب كلام العراقي صحة هذا العقد لأن صحته امتنانية فلا يرفعها حديث الرفع والإلزام خلاف الامتنان.