بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(84)
سبقت المناقشة في استدلال المحقق الحائري بالسيرة القطعية بأنّ (دليله الأول وهو السيرة دليل لبّي لا إطلاق له، على أنه استدل بـ(السيرة القطعية... على التمسك في إثبات مطالبهم بظواهر القرآن) ولا شك أن ظواهره حجة، لكنه لا يصلح دليلاً على مدعاه العام من حجية (جميع الظنون المتعلّقة بهما سنداً، ومتناً، ودلالةً، وتعارضاً) وظواهر الكتاب من دائرة الدلالة دون الثلاثة الأخر، على أن الظن في الدلالة أعم من ظهورها.
إضافة إلى مخالفة بعض الأخباريين في حجية ظواهر الكتاب وبعض الأصوليين في حجيته لغير المشافهين)([1]).
مخالفة الأخباريين في حجية الكتاب غير قادحة بالسيرة
وتوضيحه: أن بعض الأخباريين ذهبوا إلى نفي حجية الكتاب علينا مطلقاً مستدلين بالأخبار الواردة في اختصاص علم القرآن بالأئمة (عليهم السلام) وبالأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي([2]) والجواب عنهما واضح مقرر في محله، إلا أن موطن الشاهد أنه مع مخالفتهم لا تصح دعوى انعقاد السيرة العامة القطعية على صحة الإحتجاج بالكتاب العزيز.
ولكن قد يجاب بشذوذهم بما لا يخل بالسيرة الكاشفة عن رضا المعصوم (عليه السلام)، وبأن عملهم على الإحتجاج بالكتاب وإن كان لسانهم على إنكاره، غاية الأمر أنهم يعملون بالكتاب بعد مراجعة الروايات أيضاً، فحاصل عملهم، بل مآل قولهم، إلى أن ظواهر الكتاب حجة لكن بعد الفحص عن مخصصاتها ومقيداتها في الروايات لا قبلها وبعد البحث عن تفسيرها في الروايات للاطمئنان على أن ظواهرها مرادة بالإرادة الجدية فتكون مقالتهم كمقالة الأصوليين. فتأمل
دعوى اكتفاء العلماء بالظنون المطلقة في الأخبار
كما سبق قول المحقق الهروي الحائري: (إنّ المعروف من العاملين بأخبار الآحاد أنّهم اكتفوا في عدالة الرواة بالوجوه الظنية والأمارات الضعيفة، وكيف لا يكون كذلك؟! مع أنّه يلزم منه الخروج عن الشريعة وتخريب الفقه؛ إذ لا يكادُ يوجَدُ خبرٌ جميعُ سلسلة سنده كان ثابت العدالة بأحد الأنحاء المذكورة، ولا سيما إذا قلنا بأنّ العدالة هي الملَكَةُ.
ومن اختار أحد هذين المذهبين، فقد اختلَّ أمره في الفقه، ولا يمكنه الجريُ على مختاره في كثير من المسائل، وربما يقولُ: الحكم بلا دليل مشكلُ، ومخالفة الأصحاب أشكلُ، أو بالعكس. وبالجملة، فحجية الأخبار المنجبرة، وكذا الإكتفاء بمطلق الظن في العدالة ممّا لا ينبغي التأمل فيه)([3]).
المناقشات
أقول: يرد عليه:
أولاً: إن المعروف منهم الإكتفاء في عدالة الرواة ببعض أنواع الظنون والأمارات، كالشهرة وقول الثقة، لا مطلقاً بل لم نعهد منهم الإستدلال بالظن الضعيف غير المعتمد لدى العقلاء، كالظن الشخصي الحاصل من قول غير الخبير بأحوال الرجال أو الحاصل من قول العامي في جرح بعض الخاصة، أو الحاصل من قول مجهول الحال أو شبه ذلك.
ثانياً: إن الإستدلال بعملهم لا يورث إلا الظن، خاصة مع التشكيك في جهة عملهم إذ لعل عملهم بها، أي بتلك الظنون والأمارات التي عبّر عنها بالضعيفة، لحصول الإطمئنان لديهم منها([4]) ولعله كان لقرائن خفيت علينا، بل التشكيك في عموميته (وكون عملهم بكافة أنواع الظنون) فكيف يستدل على حجية الظن بالظن؟.
ثالثاً: إن تخريب الفقه إنما يلزم لو قصرنا الحجية على الصحاح التي شهد عدلان بعدالة كل واحد واحد من رجال سندها، فذلك هو ما يقلّ أو يندُر وجوده بحيث لو اقتصر الفقهاء عليه لما سلمت الأحكام الفقهية من خلوها عن الدليل، إلا النادر أو القليل منها، لكن مسلك المشهور إضافةً إلى الإعتماد على (الصحاح) التي رواها العدول، مع اكتفاء بعضهم في التعديل بقول العدل الواحد، هو الإعتماد أيضاً على (الموثقات) التي رواها الثقات ولو كانوا من الفطحية أو الواقفية أو العامة و(الحسان) التي رواها من الإمامية الممدوح من دون تصريح بتعديله، ومن الواضح أن هذه المجاميع الثلاثة من الروايات كثيرة جداً تفي بالفقه كله أو بالأكثرية الكاثرة منه مما لا يلزم منه تخريب الفقه أصلاً بل لا يبقى ظاهراً علم إجمالي بوجود أحكام خارج هذه الدوائر الثلاث (أو مع إضافة سائر الأمارات المعتبرة كالخبر الموثوق به مع حيث الرواية وإن لم يكن موثوقاً من حيث الراوي، ومطلق ما دلت على اعتباره القرائن).
وبذلك يظهر ما في استشهاد الهروي بكلام البهبهاني إذ قال: (وقال أيضاً: "جميع تأليفات جميع الفقهاء مبنيّةٌ على ذلك، بل ضعافهم أضعاف الصحاح إلا النادر من المتأخرين، بل النادر أيضاً في كثير من المواضع عمل بالمنجَبِرِ، مصرّحاً بأنّه وإن كان ضعيفاً، إلا أنّه عمل به الأصحاب"([5]) ونقل عن المحقق: "أنّه بالغ في التَّشنيع على من اقتصر على الصحيح"([6]))([7]).
إذ أنك ترى أن الوحيد البهبهاني إنما ينفي صحة الإقتصار على الصحيح ويرى بناء جميع كتب الأصحاب على الأعم منه ومن الموثق والحسن، ولكنه لا يقول ببناء جميع تأليفات جميع الفقهاء على الظنون المطلقة في الأخبار من أي طريق حصلت ولو من خبر العامي غير الموثق إذا ظننا به ظناً شخصياً ولو ضعيفاً مثلاً، ولو فرض أنه ادعى ذلك فهو مما لا شك في أن عمل عامة الأصحاب ليس عليه، نعم بعض الأخباريين بنوا على ذلك.
لمسالك الثلاث: إفراط وتفريط واعتدال
والحاصل: أن المسالك في حجية الأخبار تتراوح بين الإفراط والتفريط والحد الأوسط، فالإفراط: القول بأن الظنون بمختلف أنواعها إذا تعلقت بالأخبار، سنداً ودلالةً ومتناً وتعارضاً، كانت حجة، وهو قول المحقق الهروي، والتفريط: القول بأن الصحاح خاصة هي الحجة، والحد الأوسط هو: ما عليه عمل المشهور من أن الصحاح والموثقات والحسان حجة مع ضمّ موثوق الرواية، لا الصحاح فقط، ولا مطلق الأخبار بمطلق الظنون.
الظواهر بيان وهدى دون الظنون المطلقة
وقد استدل المحقق الهروي أيضاً بـ(الآيات الواردة في وصف القرآن من أنّه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)([8])، (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقينَ)([9])، وغير ذلك)([10]).
أقول: الظواهر من اللسان العربي المبين دون كلام وهي بيان وهدى، دون الظنون المطلقة فإنها ليست بياناً عرفاً ولا لساناً مبيناً؛ أفترى أن غير اللغوي وغير أهل اللسان لو فسر آية وحصل لنا الظن الشخصي من كلامه، أنه حجة؟ وأنه يصدق على هذه الآية بهذا التفسير أنها بيان وأنه مُبين؟ أو ترى أن غير الثقة لو ادعى قراءةً ما وحصل لنا منها الظن أنه حجة؟ وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ: عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ)) (نهج البلاغة: الخطبة 87).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الدرس (83).
([2]) راجع الفوائد المدنية 352-357 والدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية 2:339-361.
([4]) ككون الراوي شيخاً للثقة أو ذا أصل.
([8]) سورة الشعراء: الآية 195.
([1]) الدرس (83).