بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(52)
استفراغ الوسع أعم من حجية الظن
سبق قوله (قدس سره): (ومَن إستفرَغَ وسعه في جميع ما له دخل في الوثوق والمتانة وحصّل ما هو أقرب لا يكلّفه اللّه تعالى أزيد من ذلك يقيناً)([1]) وقولنا (المستبطن للقول بانه مكلف بما وصل إليه بعد استفراغ وسعه إذا أراد ما يصل إليه عبر الأعم من الظنون الخاصة؛ إذ يمكن الإلزام بالاحتياط حينئذٍ ككافة موارد العلم الإجمالي)([2]) وبعبارة أخرى: المناقشة معه (قدس سره) ليست في منطوق كلامه وقوله (لا يكلفه الله تعالى...) لبداهة انه لا يُكلَّف المجتهد ولا غيره بالأزيد من الطافه، بل المناقشة في مفهوم كلامه المستبطَن وانه مادام استفرغ وسعه وحصّل الأقرب فهو الحجة، إذ نقول: إنّ استفراغ الوسع وتحصيل الأقرب أعم من الحجية والإلزام بإتباع الظن، إذ قد يُلزم الشارع بالاحتياط حين عجزه عن تحصيل الظنون الخاصة ولا يكتفي بالظن المطلق كطريق إلى أحكامه، فمجرد عدم تكليفه بالأكثر لا يصلح دليلاً على حجية ظن المجتهد مطلقاً.
بعبارة أخرى: إن قَصَد (قدس سره) من (ما هو أقرب) مما كان من دائرة الظنون الخاصة (أو الظنون المنهجية، حسب مصطلحنا) كان صحيحاً لكنه لا يجدي دليلاً على مدعاه من حجية مطلق ظنون المجتهد، وإن قَصَدَ ما هو أقرب سواء أكان من الظنون الخاصة أم المطلقة ورد عليه ما سبق إذ قد لا يعتبر الشارعُ الحجّةَ إلا الظنَّ الخاص فإن عجز عنه المجتهد وجب عليه الاحتياط.
الجواب: الاحتياط عسر، فالظن المطلق حجة
نعم، يمكن ضميمة ان الاحتياط مستلزم للعسر والحرج، ولذا تعيّن عليه إتباع الظن ولزم القول بحجيته، بعبارة أخرى: إنَّ من أنسدّ عليه باب العلم والعلمي، يوجد أمامه خياران: الاحتياط أو إتباع مطلق الظن فلا بد من نفي لزوم الاحتياط بكونه عسراً وحرجاً كي يصح الإلزام بإتباع الظن وحده، ولكن هذا([3]) قد يورد عليه بوجهين:
الرد: 1- لا حرج ولا ضرر لا يثبتان حكماً بل ينفيان فقط
أولاً: ان لا حرج ولا ضرر نافيان للحكم على المشهور ولكنهما غير منشئين للحكم، فكون الحرج منفياً لا يستلزم جعل حجية الظن إن أراد بالحجية الكاشفية ومطلق الحكم الوضعي، بل وإن أراد بها الحكم التكليفي ولزوم الإتباع إذ لا حرج ليس منشئاً وجاعلاً لحكم وضعي ولا تكليفي، إلا ان يقال بان الأمر حيث دار بين وجوب الاحتياط ووجوب إتباع الظن فحيث نفى لا حرج وجوبَ الاحتياط، ثبت وجوب إتباع الظن قهراً لدوران الأمر بينهما لا لأن لا حرج منشئ للحكم. فتأمل
2- لا عسر في الاحتياط، بدليل حال الاخباري ومقلدي الشيرازي
ثانياً: ما التزمه الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية بقم، والسيد الخوئي في المصباح، من ان الإلزام بالاحتياط لا يستلزم الحرج (فينتج: ان انسداد باب العلم والعلم يؤدي إلى لزوم الاحتياط لا إلى حجية الظن).
قال الأول على حسب ما نقله عنه السيد الوالد في الأصول: (والحائري (قدس سره): يرى عدم أصل العسر، لأن دعواه([4])، لاسيما المخلّ بالنظام بالنسبة إلى آحاد المكلفين، الموجب لسقوط الامتثال القطعي، عن الكل، في غاية الإشكال.
ويدل عليه: انه كان بناء سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدس سره)، على إرجاع مقلديه إلى الاحتياط وكان مرجع تمام أفراد الشيعة مدة متمادية، ومع ذلك لم يختل النظام ولم يكن مما لا يحتمل عادة)([5]).
وقال الثاني: (ولا يكون الاحتياط المذكور موجباً لاختلال النظام ولا مستلزماً للعسر والحرج. كيف؟ وجماعة من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع الأخبار المذكورة، بدعوى القطع بصدورها، فلم يختل عليهم النظام، ولم يرد عليهم العسر والحرج.
وعليه فكانت المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد غير تامة)([6])
وأجاب السيد الوالد عن الأول بقوله: (وعلى الثالث: ان احتياطات المجدد (قدس سره) كانت قليلة جداً كما يظهر لمن راجع حواشيه على نجاة العباد وآداب تجارة الوحيد (قدس سره) وأين هي مما ذكره)([7]).
الجواب: بل الاخباري واقع في العسر والحرج
ويمكننا الجواب عما ادعاه مصباح الأصول من عدم ورود عسر وحرج على الاخباريين بسبب عملهم بكافة الأخبار المروية حتى الضعاف منها (والذي قد نلتزم بالعمل بها كلما دلت على وجوب أمر أو حرمته لا لحجيتها بل من باب الاحتياط نتيجة الانسداد فيقال بانه لا يلزم العسر والحرج من التزامنا بالاحتياط كما لم يلزم العسر والحرج عليهم من التزام الاخباري بالعمل بها، من غير فرق بين كون وجه العمل بمفاد تلك الروايات انه يراها قطعية بينما نرى لزوم العمل بها من باب الاحتياط) بـ:
لأن كل تكليف وإلزام فهو عسر وحرج
أولاً: من البديهي ان أي تكليف إيجابي أو تحريمي يوقع بنفس قَدَره وفي دائرته وبما هو هو في العسر والحرج، وإنما وجب الالتزام بالواجبات وترك المحرمات لا لكونها غير موقعة في العسر والحرج؛ بل لكون التكليف بها لمصلحة أو مفسدة أهم، ولذا وردت مورد العسر والحرج، ولا يمكن نفي كون أيٍّ إلزامٍ (بوجوبٍ أو تحريمٍ) حرجياً عادة.
ولشهادة الاستقراء وتتبع مواطن الاحتياط
ثانياً: لا شك ان الاخباري واقع في العسر والحرج من عمله بكافة الأخبار، بل من عمله ببعضها أو أي واحد منها:
نجاسة الحديد
ألا ترى ان الاخباري الذي يعمل بروايات نجاسة الحديد، يقع في العسر والحرج هو ومن يعمل بفتاويه من الناس، إن لم يقع بذلك في أشد أنواعه؛ وذلك لأن الحديد منتشر حوالينا وفي كل مكان ولا يخلو بيت ولا شركة ولا معمل ولا مسجد ولا حسينية ولا غيرها، عادةً، من الحديد، بدءً من أعمدة البناء والشبابيك والأبواب الحديدية، ومروراً بالسكاكين والمسامير والقدور والفؤوس والمحاريث الحديدية، ووصولاً إلى الأجهزة التي يدخل فيها الحديد بدءً من ماكنة الحلاقة ومروراً بالدراجة والسيارة وصولاً للسفينة والطائرة.
وقد نُقِل ان بعضهم كان يتجنب موضع مماسة السكين للبطيخ أو الرقي إذا شقّه به.
نجاسة المسوخ
وأيضاً: الاخباري يعمل بروايات تحريم المسوخ ولا شك ان الحكم بنجاسة العديد منها يوقع الكثير من الناس في العسر والحرج في كافة بلاد العالم أو في تلك التي يتوفر فيها بعض تلك المسوخ، فقد ورد في الخصال وعلل الشرائع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انها ثلاثة عشر: ومنها (الفيل) ولا شك ان الحكم بنجاسته في البلاد التي تكثر فيها الفيلة وتخالط الناس كالهند والكثير من الدول الأفريقية، يستلزم العسر والحرج بل الشديدين منهما، ومنها (القرد) وهو في البلاد التي يكثر فيها، كذلك، ومنها (الأرنب) وهو في المزارع والقرى والأرياف كذلك، ومنها (العنكبوت) وهو مما لا يخلو منه بيت عادة وما أكثر ما يمر على الطعام أو الماء ومنها (الوزغة) وما أكثرها في البيوت، ومنها (الفأرة) والتي لا يكاد يخلو منها بيت ومحل وهكذا.
ولبن الجارية وموارد أخرى
كما حكم بعضهم بنجاسة لبن الجارية استناداً إلى رواية ضعيفة مع انه يوقِع الـمُرضِعةَ وأهلَ المنزل في أشد العسر والحرج، وحكم بعضهم بنجاسة ذرق الدجاج.. وهكذا.
والحاصل: ان الحكم بالحرمة أو النجاسة أو الوجوب استناداً إلى رواية (قطعية عندهم، وضعيفة عندنا لكن نعمل بها من باب الاحتياط)، موجب للعسر والحرج دون شك.
ويشهد لذلك أيضاً ان الحكم بحرمة التدخين للصائم، يوقع المدخنين عادةً في العسر والحرج، وان الحكم بالجمع بين القصر والإتمام في موارده موجب للعسر والحرج، وان الحكم بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة في موارد عديدة، عسري قطعاً، وان الحكم بوجوب غسل الجمعة استناداً إلى بعض الروايات، عسري وحرجي للكثير من الناس خاصة في القرى والأرياف التي يقل فيها المياه أو تفتقد فيها المواسير ومياه الإسالة.. وهكذا.. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الرضا (عليه السلام): ((مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا فَبَكَى وَأَبْكَى لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي الْعُيُونُ))
(الأمالي للصدوق: ص73)
----------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص136-137.
([3]) كون الاحتياط عسراً وحرجاً فيتعين كون الظن حجةً.
([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت، ج6 ص108.
([7]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت، ج6 ص109.
----------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص136-137.