بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(45)
الوحيد: لا يشترط في التبيُّن، كالعدالة، اليقين
ولكن من الأفضل ان ننقل نص كلام الوحيد البهباني ونبحث عن مدى تماميته ثم نرجع إلى نقد المحقق القزويني له وجوابنا عنه، قال الوحيد البهباني: (والبناءُ على أنّ التبيُّن لا بُدّ أن ينتهي إلى اليقين؛ دون العدالة الّتي هي شرط - إذ يكفي فيها أيّ ظنٍّ يكون من المجتهد – فتحكُّم؛ لأنّه تعالى اعتبر في قبول الخبر أحد الشيئين: إمّا العدالة أو التبيُّن، ولم يثبت من الأدلّة، ولا أقوال العلماء أزيدُ من هذا، فالاكتفاء في أحدهما بأيّ ظنّ يكون دون الآخر فيه ما فيه)([1]).
وبعبارة أخرى: ظاهر آية النبأ ان المدار في حجية الخبر هو أحد أمرين:
1- العدالة فان ظاهر الآية إناطة عدم قبول الخبر بكون الفاسق هو الراوي له والمفهوم منه عرفاً إناطة قبول الخبر بكون الراوي له عادلاً، فان الوصف وإن لم يكن حجة كقاعدة عامة ولكنه يخرج منه ما رأى العرف له مفهوماً بمناسبات الحكم والموضوع كما في الآية الكريمة وبغيرها.
2- التبيُّن، وهو في الفاسق لصريح قوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).
وكما ان خبر العادل (وهو الملاك الأول للحجية) حجة من غير اشتراط حصول اليقين منه إذ يكتفي بمطلق الظن الحاصل منه (أقول: بل حتى لو لم يفد الظن الشخصي فانه حجة لأن المدار على مطلق الظن النوعي الحاصل منه) فكذلك في التبيُّن (الذي هو الملاكُ الثاني للحجية) لا يشترط حصول اليقين فيه بل يكفي التبيُّن الظني، وذلك لأنهما في الآية الكريمة مسوقان بعصى واحدة فالتفصيل بينهما والتفريق باشتراط حصول اليقين في الخبر المتبيَّن دون خبر العادل، تفريق من غير فارق وقول من غير دليل.
وعليه: فان الخبر الضعيف، ينجبر بموافقة الشهرة له، سواء أكانت عملية – استنادية أم فتوائية، كما صرح (قدس سره) به في كلام لاحق، وذلك لأنه ببركة الشهرة يتبين صحة ذلك الخبر الضعيف فينجبر ضعفه بها.
المناقشة: الفرق بين العدالة والتبيّن
ولكنّ كلامه (قدس سره) غير تام، وذلك للفرق الجلي بين العدالة والتبيّن فانه إنما لم يشترط في خبر العادل اليقين واكتفي فيه بالظن لأن العدالة مقسم لهما وهي جامعة لهما، وبعبارة أخرى: إذا قيل خبر العادل حجة فان له إطلاقاً من حيث إفادته اليقين أو الظن، وأما التبيّن فإنما اشترطنا فيه اليقين لدلالة مادته عليه فهو بشرط لا عن الظن، إذ مادة التبيّن تعني الوضوح والظهور، ففي غير خبر العادل أي في خبر الفاسق يشترط التبيّن بنص الآية الكريمة والتبيّن مساوق للتيقن فلا يعقل شموله لما إذا حصل له مجرد الظن فانه ليس متبيّناً حينئذٍ، عكس خبر العادل الذي يصدق عليه دقةً وعرفاً انه خبر العادل وإن أورث الظن فقط.
قال في مجمع البحرين: (قوله (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) [سبأ:١٤] أي ظهر وتَبَّيَنَ أن الجن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) [سبأ: ١٤] من تَبَيَّنَ الشيء إذا ظهر وتجلى.
والْبَيْنُ : الواضح ، قال تعالى (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) [الكهف: ١٥] أي واضح.
قوله تعالى: (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: ٥٩] أي في اللوح المحفوظ ، وقيل علم الله تعالى.
قوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168] أي مظهر للعداوة.
قوله: (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف: ١٠٧] أي بَيِّنٌ.
وبَيَّنَ الشيء : إذا أوضحه)([2]) و(وَفِي الْحَدِيثِ ((أَنَّ اللهَ نَصَرَ النَّبِيِّينَ بِالْبَيَانِ)) أي بالمعجزة، وبأن ألهمهم وأوحى إليهم بمقدمات واضحة الدلائل على المدعى عند الخصم، مؤثرة في قلبه.
وَفِيهِ ((أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ)) أي كشفه وإيضاحه.
والْبَيَانُ والسلطان والبرهان والفرقان: نظائر، وحدودها مختلفة.
فَالْبَيَانُ: إظهار المعنى للنفس، كإظهار نقيضه.
والبرهان: إظهار صحة المعنى وإفساد نقيضه.
والفرقان: إظهار تميز النفس مما التبس.
والسلطان: إظهار ما يتسلط به على نقض المعنى بالإبطال.
وتَبَيَّنَ الشيء لي إذا ظهر عندي وزال خفاه عني، وفي المثل "قَدَّ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ" أي تَبَيَّنَ)([3]).
نعم سيأتي منّا دفاع عن الوحيد البهبهاني، كما سيأتي منّا الجواب عن إشكال القزويني عليه، ووجه آخر نتفصّى به عن الإشكال.
تنبيه: قول الوحيد (إذ يكفي فيها أيّ ظنٍّ يكون من المجتهد) مبني على ان آية النبأ شاملة للاخبارات الحدسية كالحسية بدعوى ان المجتهد ينبأ عن نظره وفتواه كما ان السامع والناظر ينبأ عما رآه أو سمعه، والفرق ان هذا الأخبار عن خارج وحس، وذاك انباء عن داخل وعن حدسه واجتهاده، لكن الظاهر انصراف النبأ إلى النبأ عن حس وعدم شموله للاخبار عن حدسه وفتواه.
القسيم الثالث للظن المطلق والخاص
وقد سبق: (ويمكن إدراج الظنون المطلقة في دائرة الحجج رغم عدم دلالة دليل خاص على حجيتها، فيما إذا أمكن إدخالها، بوجه، في ضمن احدى الأدلة الخاصة، وذلك كإدخال الخبر الضعيف في دائرة التبيّن المصرّح به في الآية الكريمة، ببركة موافقة الشهرة له كما سيأتي بعد قليل، وهو أمر متوسط بين الظن الخاص أي الذي دلّ دليل على حجيته بخصوصه والظن المطلق الذي لم يدل على حجيته دليل بخصوصه ولم يدخل في ضمن دليل خاص ويندك فيه، ولذلك مصاديق وتصويرات)([4]) وبعبارة أخرى: الظن إما مطلق وإما خاص والظن الخاص إما مدلول على حجيته بخصوصه وبالذات أو لا بل بالعرض والأخير هو ما عبّرنا عنه بالقسم الثالث وجعلناه الآن أحد قسمي الثاني، ولا مشاحة في الاصطلاح فتدبر.
وجوه للقول بحجية الخبر الضعيف المعتضد بالشهرة
وعلى أية حال فان الظن المطلق، كالخبر الضعيف، يمكن الذهاب إلى حجيته، فيما إذا اسندته الشهرة رغم القول بعدم حجيتها وذلك باحدى وجوه وتصويرات:
الوجه الأول: إدراجه في آية النبأ ودائرة التبيّن الظني كما مضى وسيأتي مزيد.
الوجه الثاني: إدراجه في دائرة التبيّن العرفي والتبيّن العقلائي، كما سيأتي منّا.
الوجه الثالث: ما سلكه الشيخ من دعوى ان مطابقة المشهور للخبر الضعيف السند، يفيد الظن بصدوره وكل خبر مظنون الصدور حجة، لكنه أشكل على الكبرى قال: (إلا أن الظاهر أنه إذا كان المجبور محتاجاً إليه([5]) من جهة إفادته للظن بالصدور - كالخبر إذا قلنا بكونه حجّةً بالخصوص بوصف كونه مظنون الصدور، فأفاد تلك الأمارة الغير المعتبرة الظن بصدور ذلك الخبر - انجبر قصور سنده به.
إلا أن يدّعى: أن الظاهر اشتراط حجية ذلك الخبر بإفادته للظن بالصدور، لا مجرّد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظن بصدوره من غير سنده)([6]).
وبعبارة أخرى: الأمر على المبنى:
أ- فإن قلنا بان مظنون الصدور حجة مطلقاً سواء أكان الظن بصدوره ناشئاً من قرينة داخلية أم من قرينة خارجية أي سواء أفاد بنفسه الظن بصدوره (ككون راويه إمامياً عادلاً ضابطاً وهي قرينة داخلية تستوجب إفادة الخبر بنفسه الظن بصدقه) أم استفيد الظن بصدوره من خارج كقيام الشهرة عليه، فان الخبر الضعيف الذي طابقته الشهرة يكون حجة حينئذٍ.
ب- وإن قلنا بان مظنون الصدور إنما يكون حجة لو كان بنفسه مفيداً للظن بصدقه ومطابقته للواقع، فلا ينجبر الخبر الضعيف بالشهرة، إذ انها وإن أفادت الظن بصدقه لكنها قرينة خارجية والفرض ان الشرط في حجية الخبر على هذا المبنى ان يفيد بنفسه، لا بأمر خارج، الظن بصدقه.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((الْمُؤْمِنُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَرَقَةً وَاحِدَةً عَلَيْهَا عِلْمٌ، تَكُونُ تِلْكَ الْوَرَقَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِتْراً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكُلِّ حَرْفٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا مَدِينَةً أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَقْعُدُ سَاعَةً عِنْدَ الْعَالِمِ إِلَّا نَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَلَسْتَ إِلَى حَبِيبِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَسْكَنْتُكَ الْجَنَّةَ مَعَهُ وَلَا أُبَالِي))
(الأمالي للصدوق: ص37)
--------------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص489.
([2]) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين ط – الحسیني، منشورات المكتبة المرتضوية ـ تهران: ج6 ص217-218.
([5]) أي إلى الظن غير المعتبر.
([6]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص586.
--------------
([1]) محمد باقر الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ص489.