بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(32)
هل ظنون المجتهد حجة مطلقاً؟
المقدمة الخامسة: ان البحث تارة يقع في حجية الظن مطلقاً، أي حجية كافة الظنون، وأخرى يقع في حجية ظن المجتهد مطلقاً وعدمها، إذ قد لا يَلتزم الفقيه بان كافة الظنون حتى ظنون العوام وغير أهل الخبرة حجة؛ لبداهة ان غير أهل الخبرة لا يرى العقلاء حجية آرائهم واجتهاداتهم القطعية([1]) فكيف بالظنية، ولكن قد يقال بان ظنون المجتهد حجة مطلقاً أي سواء انشأت من الظنون الخاصة (والتي نسميها الظنون المنهجية) كخبر الثقة والظواهر أم نشأت من الظنون التي لم تثبت حجيتها لدى الفقيه، كالشهرة والإجماع المنقول والظهور السياقي، أو حتى التي نشأت مما علم عدم حجيته كخبر الفاسق؛ وذلك بالأدلة الآتية، ولا يتوهم التناقض في القول بان ظن المجتهد حجة ولو نشأ مما علم عدم حجيته كخبر الفاسق، وذلك لأنه قد يقال ان خبر الفاسق ليس بحجة ولكن الظن الشخصي الحاصل للمجتهد من هذا الخبر الذي جاء به هذا الفاسق حجة، فالحجية صفةُ ظنِّ المجتهد وليست صفة خبر الفاسق وإن كان خبره عِلّة حصول الظن له، والفرق بينهما كبير.
بعبارة أخرى: قد يقال: بان الحجة هو خصوص الظن الذي يحصل للمجتهد من الأدلة الظنية أي تلك التي دلّ على اعتبارها دليل خاص مما يعني ان الحجية متفرعة على اجتماع الأمرين معاً (وجود الظواهر مثلاً واستنباط المجتهد منها) أما أ- لو استنبط غير المجتهد من دليل ما، كرواية في الكافي الشريف، فليس حجة إذ ليس محيطاً بفقه الحديث ولحن القول والمعاريض والتورية وأنواع الدلالات كدلالة الاقتضاء والإيماء والتنبيه والإشارة، ولا بسائر الأدلة فقد يوجد له معارض مثلاً، على انه لو أحاط فرضاً فانه ليس عارفاً بالحاكم والمحكوم والوارد والمورود عليه ومرجحات باب التعارض أو التزاحم، وغير ذلك، ولو عرف ذلك كله لكان مجتهداً لا مقلداً، ب- أو لو استنبط المجتهد من غير الظواهر وأخبار الثقات مثلاً فليس بحجة.
وقد يقال بحجية استنباط المجتهد مطلقاً من أي طريق حصل.
النراقي: ظن المجتهد المستند إلى الظنون الخاصة حجة
وقد ذهب المولى النراقي في عوائد الأيام إلى اشتراط كلا الشرطين في الحجية وأنَّ ظن المجتهد إذا نشأ من غير الظنون الخاصة فليس بحجة قال: (وأما ما قد يوجد في بعض عباراتهم مما يستشم منه رائحة حجية الظن بإطلاقه، أو يستلزمها، مع تصريحاتهم بخلافه، فقد بيّنا السرّ فيه في كتبنا على وجه شاف كاف([2]).
وأما ما يوجد في بعض كلماتهم من إطلاق حجية ظن المجتهد([3])، فمع أنّ هذا الإطلاق إنما هو في مقابل السلب الكلي، والغرض منه الرد عليه لا الإثبات الكلي؛ لا دلالة له على أصالة حجية الظن؛ لأنه كما أنهم يصرّحون به، ينبئ تعليق شيءٍ على وصفٍ عن عليته، فالمراد أن ظن المجتهد من حيث إنه مجتهد، أي ظنه المستند إلى اجتهاده حجة.
ويعرّفون الاجتهاد بانه استفراغ الوسع في تحصيل الظن من الأدلة الشرعية، والدليل الشرعي عبارة عمّا ثبت شرعاً كونه دليلاً، فمعنى حجية ظن المجتهد: حجية ظنٍ حاصلٍ من دليل ثبتت حجيته شرعاً، وذلك غير حجية مطلق الظن، أو أصالة حجيته، فمرادهم هو حجية الظنون المخصوصة)([4]).
أقول: مع قطع النظر عن مدى صحة استظهاره بإسناد ما استظهره إلى كافة المجتهدين، ومع قطع النظر عن ان حيثية الاجتهاد وإن كانت حيثية تعليلية لكن ذلك لا يكفي إلا بعد إرجاع كل حيثية تعليلية إلى الحيثية التقييدية، كما ذهب إليه المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية، وتحقيقه في محله فتأمل، فانه قد يقال: بان الدليل دلّ على حجية ظن المجتهد مطلقاً من أي منشأ نشأ، وذلك استناداً إلى الوجوه التالية:
الأدلة على حجية ظن المجتهد مطلقاً
انه مصداق التفقه
الوجه الأول: قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)([5]) فان التفقه صادق عرفاً وبالحمل الشائع الصناعي، على كلا النوعين السابقين من الاجتهاد أي سواء أكان مستنداً إلى الظنون الخاصة أم المطلقة؛ ألا ترى ان صاحب القوانين مجتهد يصدق عليه انه متفقه في الدين قطعاً رغم انه يستند في اجتهاده إلى الظنون المطلقة بعد انسداد باب العلم حسبما يراه؟ فتأمل.
انه مصداق التفريع، ولا انصراف
الوجه الثاني: قوله (عليه السلام): ((عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ))([6]) فان التفريع صادق سواء أكان الاستناد فيه إلى الظنون الخاصة أم المطلقة.
لا يقال: التفقه والتفريع منصرفان عما كان عن ظن شخصي ولم يكن عن الظنون المنهجية أو الخاصة؟
إذ يقال: الانصراف بدوي وعهدته على مدعيه، بل يدل على الإطلاق ارتكاز العقلاء وبناؤهم على حجية ظن الخبير وإن لم يحصل من ظن خاص؛ ألا ترى الأطباء كثيراً ما يحدسون المرض أو العلاج لا من قاعدة عامة بل لمجرد تراكم الظنون أو لـمِؤيدات فقط، وإن لم تصل إلى مرتبة الاطمئنان ومع ذلك يرى العقلاء لزوم إتباعهم، كما يدل على الإطلاق الوجه الآتي:
روايات الإرجاع تفيد الأعم
الوجه الثالث: إنّ تتبّع الروايات التي استند فيها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في استظهارهم للحكم الشرعي أو استدلالهم عليه إلى الآيات الكريمة قد يفيدنا ان التفريع الذي امروا به أعم مما كان عن ظن نوعي أو شخصي؛ ألا ترى انه (عليه السلام) عندما سأله السائل ((عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مَرَارَةً، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ؟ قَالَ: يُعْرَفُ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) امْسَحْ عَلَيْهِ))([7]) انه استند إلى ظاهر نفي الحرج ككبرى كلية وانطباقها على المقام كصغرى جزئية، ومن الواضح ان قول الإمام حجة (عليه السلام) وإن لم يستند إلى الاستدلال أو يُرجِع وجه كلامه إلى الآية الكريمة، إلا ان الكلام هو انه أرجع الأمر إلينا ((يُعْرَفُ هَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)) مع اننا عند التدبر لا نجد ظناً خاصاً في التفريع هنا بل مجرد الظن المطلق أي ان (التفريع) مستند إلى الظن الشخصي لا الظن المنهجي المنضبط.
وتوضيحه: ان الذي وضع مرارة على يده، يدور أمره من حيث الحكم الشرعي في وضوئه بين محتملات عديدة كلها مشمولة لـ(ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ومنها: سقوط الوضوء عنه رأساً لكنه مردود إذ (لا تترك الصلاة بحال) ومنها: سقوط الوضوء وانتقال وظيفته إلى التيمم بدل الوضوء ومنها: سقوط غسل ذلك الجزء من البدن (موضع الظفر) رأساً، ومنها: سقوطه مع تحوّل تكليفه إلى المسح على المرارة كما قاله الإمام (عليه السلام) ومن الواضح ان كلا الخيارين الثالث والرابع([8]) من مصاديق قاعدة الميسور ومن نتائج رفع الحرج، فتطبيق الآية على الصورة الرابعة خاصة مما لا يوجد عليه ظن خاص (لولا كلام الإمام هنا، والمفروض انه (عليه السلام) أرجعه وأمثاله لاستنباطنا) بل هو أخفي من الصورة الثالثة لأنها أيسر فهي أقرب لقاعدة الميسور ولأنها أقل حرجاً فهي أقرب للآية، ويمكن الجواب عن كونها أيسر وأقرب للآية، لكن ذلك كله كما ترى يدخل في دائرة استنباط المجتهد من غير ضابط منهجي، فتأمل([9]).
التمسك بالانصراف
الوجه الرابع: ان الفقهاء كثيراً ما يتمسكون بالانصراف، مع انه غير منضبط أصلاً ولذا يختلفون في انه بدوي أو مستقر، وكثيراً ما يرجعونه إلى مناسبات الحكم والموضوع وهي غير منضبطة على انها مجرد مؤيد ظني وليست دليلاً يرقى إلى مستوى الظهور.
وقد يجاب باندراج كل ما مضى في الظهور وإرجاعهم كل ذلك إلى تحقق الظاهر وعدمه.. وفيه ما سيأتي كما للكلام تتمات فأنتظر والله المستعان.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
عن بشير الدَّهان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَا بَشِيرُ! إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ)) (الكافي: ج1 ص33).
--------------
([1]) أي الحجية على غيره، أما الحجية لنفسه فالمشهور ان القاطع قطعه ذاتي الحجية وقد ناقشنا في ذلك مفصلاً في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).
([2]) مناهج الأحكام: 256 منهاج: في حجية الظن في الأحكام.
([3]) كما في مفاتيح الأصول: 491 و452.
([4]) المحقق أحمد النراقي، عوائد الأيام، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ص357-358.
([5]) سورة التوبة: الآية 122.
([6]) محمد بن إدريس الحلي، مستطرفات السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص575، وعنه: بحار الأنوار ج2 ص245.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي ـ طهران، ج3 ص33.
([8]) بل والثاني كذلك أيضاً.
([9]) سيأتي وجهه.