بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(487)
الأردبيلي: عِلّة الحجر السفه، فالصبي الراشد تصح تصرفاته
وفي مقابل رأي المحقق النائيني قدس سره الذي ذهب إلى بطلان تصرفات الصبي حتى بإذن الولي، يقع رأي المقدس الأردبيلي قدس سره الذي يذهب حسب نقل (العناوين) عنه إلى جواز تصرفات الصبي مطلقاً، قال المحقق المراغي في العناوين: (نعم، ذهب بعض المتأخرين - وأظن أنه المولى المقدس الأردبيلي - إلى جواز معاملات الصبيّ المميز مطلقاً، وله على ذلك ضروب من الأدلة([1]) ([2]) وقال: (والرابع: أنّا نعلم: أنّ الحجر على الصبيّ في التصرفات إنّما هو من جهة أنّه يُتلفه ولا يصلحه، ومتى ما علم أنّه لا يتلف - كما نراه في كثير من الصبيان في زماننا، فإنّهم أشدّ مداقّةً و مماكسةً من البالغين - فلا ضرر فيه؛ ويرشد إلى هذه العِلّة الأمر بالدفع مع الرشد، وليس معناه إلّا ملكة الإصلاح للمال)([3]).
المراغي: ليست العِلّة منصوصة ولا مقطوعة
وأورد عليه المحقق المراغي قدس سره بـ: (وعن العلّة: بمنع ثبوت عليّتها، إذ ليست منصوصة ولا قطعية، والمستنبطة ليست حجّةً عندنا. وعلى فرض كون العلّة عدم الإتلاف، فنمنع حصول الاطمئنان بعدم كونه متلِفاً ما لم يبلغ)([4]).
المناقشة
أقول: يمكن الجواب عن إشكالات المراغي:
العِلّة منصوصة
أولاً: ان العلّة قد يقال بكونها منصوصة، إن لم يكن في الآية الشريفة، ففي رواية العيّاشي التي فسرت ((السُّفَهاءَ)) في الآية الخامسة بـ((مَنْ لَا تَثِقُ بِه))([5]) كما سبق الظاهرة في ان تمام المدار على الوثوق وعدمه، سلّمنا لكن الظاهر من الآية الخامسة، بمعونة هذه الرواية أو من دونها، ان تمام ملاك الحكم هو ((السُّفَهاءَ)) إذ قال تعالى: ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً)) فجعله تعالى السفهاء هو الموضوع لـ: لا تؤتوا، أو كونه المتعلَّق له، مع تتميمه بـ((الَّتي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً)) يفهم منه عرفاً عِلّيّة السفاهة لعدم دفع الأموال إليه، مضافاً إلى ذلك كله ما ذكره المقدس من (ويرشد إلى هذه العِلّة الأمر بالدفع مع الرشد، وليس معناه إلّا ملكة الإصلاح للمال) فالظاهر ان المجموع يورث الاطمئنان بان المذكور في الآيتين من الرشد والسفاهة عِلّة وليست حكمة.
وإلا، فمقطوعة
ثانياً: سلّمنا، لكن يمكن القول بان عِلّيّتها مقطوعة وذلك، إضافة إلى ما سبق الذي قد يفيد القطع بالعلّيّة وإن لم نقل بكونها منصوصة، استناداً إلى ارتكازية مدارية الرشد والسفاهة لدى العقلاء وكونهما تمام الملاك لديهم، والأحاديث الواردة في غير العبادات وشبهها تحمل على المرتكزات العقلائية إلا إذا دل دليل على التعبدية؛ وذلك لأن من المسلم لدى العقلاء كافة، من غير خلاف ولا نكير، ان الطفل الراشد المميز إذا أذن له الولي، صح عقده، بل لو سمعوا خلاف ذلك (وانه حتى لو أذن له الولي لمصلحةٍ فانه لا يصح له البيع والشراء حتى في الأمور اليسيرة مثلاً) لأثار ذلك أشد الاستغراب فيهم، ولرفضوه إلا بان يجاب بالتعبد، والحاصل: ان كون السفه هو تمام العلّة لحرمان المالك من التصرفات في ماله، لدى العقلاء، يصلح قرينة مقامية عقلية قطعية على ان (الرشد) في ((فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً)) عِلّة، على ما عليه العقلاء، وكما ان الشارع لو حاد عن الطرق العقلائية إلى التعبد وجب عليه البيان فكذلك المقام لو حاد عن الرشد والسفه (في تسليط المالك على ماله)، إلى مدارية غيرهما أو كونهما جزء المدار، لكان عليه البيان، لكنّه لم يبيّن بل ظاهر الآية عكسه، أي المدارية.
ما يمكن ان يورد على الأردبيلي
فهذا غاية ما يمكن الدفاع به عن استدلال المقدس الأردبيلي، ولكن يرد عليه، انتصاراً للمراغي، ان قرينة التعبد موجودة في الآية الكريمة بحسب ظاهرها إذ علَّقَت ((ادْفَعُوا)) على الأمرين معاً: بلوغ النكاح والرشد ((حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) مع ان بلوغ سن النكاح لو لم تكن له مدخلية تعبّداً كما نستظهر([6]) أو تعقلاً لوجه ما، في إيتاء أموالهم، لما كان هنالك وجه لإقحامه في البين خاصة بعبارة ((إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ...)) الظاهر في الشرطية.
سلّمنا([7]) لكنه محتمل المدخلية، فيكون من محتمل القرينية المتصل المخل بالظهور (أي بالظهور المدعى من كون أدفعوا معلقاً على الرشد وحده لأن ارتكاز العقلاء عليه).
لكن الحق معه، في الجملة([8])، بوجه آخر
وبذلك يكون الحق ظاهراً مع المراغي، ولكننا استدللنا سابقاً بدليل آخر لا يرد عليه اعتراضه، فان اعتراضه وارد على استدلال الأردبيلي بكون الرشد هو العلّة فورد عليه ما ورد، ودليلنا الآخر هو ما سبق من الاستناد إلى ظهور ((فَادْفَعُوا)) (لا عِلّية السفه للحجر والرشد لعدمه) في الدفع الاستقلالي فيكون المفهوم المنفي هو الدفع الاستقلالي أيضاً، فما لم يبلغ ويرشد فلا تدفع إليهم أموالهم استقلالاً، فلا تدل على عدم دفع مالهم إليهم حتى بإذن الولي، مع ان إطلاق الآية الثانية من سورة النساء يكفي للصحة، فتدبر. وهذا([9]) هو المطابق لمرتكزات العقلاء أيضاً.
وأما قول المراغي: (وعلى فرض كون العلّة عدم الإتلاف، فنمنع حصول الاطمئنان بعدم كونه متلِفاً ما لم يبلغ) فانه خلاف الملموس المشاهد بالوجدان من حصول الاطمئنان في بعض المميزين بلا كلام بل قد يزيد الاطمئنان به على الاطمئنان في بعض البالغين، نعم لو أراد الاطمئنان العقلي فانه وإن صح في المميز لكنه جار مثله أيضاً في كثير من البالغين، وعلى أي فالمدار الاطمئنان العرفي لا الفلسفي.
الزنجاني: الحجر على الصبي لقصور فيه لا لقصور في ماله
كما يقع في مقابل المقدس الاردبيلي، الذاهب إلى صحة تصرفات المميز الراشد ولو لا بإذن الولي، ما ذهب إليه الميرزا محمد باقر الزنجاني، أحد السبعة الذين يقال ان المحقق النائيني كان يدرّس لهم، من عدم قابلية الصبي لإجراء المعاملات والعقود ومطلق التصرفات التي يكون البالغ قابلاً لها بأسبابه الشرعية، وانه قاصر اقتضاء، لا لمانع، لذا لا يصح تصرفه ولو بالإذن، واستدل على ذلك بظهور ان الحجر عليه لا لنقص ومشكلة في (ماله) بل لمشكلة وقصور في (مالكه) (وهو الصبي) وان هذا القصور عام تام.
قال: (كما أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ حجره عن التصرّف ليس من سنخ حجر الراهن عن التصرّف في المال المرهون، أو حجر المفلّس عن التصرّف في أمواله ونحو ذلك، ممّا يستند الحجر إلى عدم قابليّة المال للتصرف فيه، لتعلّق حقٍّ به مانعٍ عن نفوذ التصرّف، لا إلى قصور في المتصرِّف نفسه وعدم قابليته للتصرّف، وإن أمكن التصرّف فيه من أهله بالأسباب المشروعة له. بل حجره لا محالة مستند إلى قصوره، وعدم قابليته لإيجاد التصرّف الذي يكون البالغ المدرك قابلاً له بأسبابه المشروعة)([10]) وقال: (والظاهر المتفاهم من الآية – صدراً وذيلاً – ليس إلا كونهم محجورين عن ذلك لقصور في أنظارهم وأفكارهم، وتمييز الصالح والأصلح عن غيرهما، لا لخصوصية في الأموال. فلا محيص عن حجرهم في مطلق التصرفات التي تترتّب عليها أحكام تكليفية أو وضعية – كالعقود والإيقاعات – لو صدرت من البالغين المدركين، سواء كانت في الأموال – لهم أو لغيرهم – أم في غيرها.
وليس حجرهم – كحجر الراهن في المال المرهون، أو المفلّس في أمواله، أو البالغ العاقل في مال غيره – مستنداً إلى قصر سلطنته عن التعلّق بالمال لمانع، ككونه متعلّقاً لحقّ الغير أو مالاً لغيره، حتى يكون نفس التصرّف مشروعاً بنحو الصحة التأهّليّة، بحيث يصحّ برضا ذي الحق ابتداءً أو إمضاءً أو بتوكيل صاحب المال في التصرف)([11]) وستأتي تتمة لكلامه ثم المناقشات بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه ال: (( إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَأَمَاتَ شَهْوَتَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ لِصَلَاحِ آخِرَتِهِ)) (غرر الحكم: ص50).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([5]) محمد بن مسعود العياشي، تفسير العياشي، المطبعة العلمية ـ طهران، ج1 ص220.
([8]) أي مع إذن الوليّ، لا مطلقاً.
([9]) الاستدلال بأدفعوا وانه في المنطوق والمفهوم يراد به الاستقلالي.
([10]) الميرزا محمد باقر الزنجاني، المكاسب، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج2 ص9.
قال أمير المؤمنين عليه ال: (( إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَأَمَاتَ شَهْوَتَهُ وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ لِصَلَاحِ آخِرَتِهِ)) (غرر الحكم: ص50).