بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(2)
هل الظن حجةٌ اقتضاءً؟
سبق الخلاف بين المشهور وغيرهم في حجية الظن اقتضاءً وعدمها، بمعنى كونه لو خلي وطبعه وقُطع النظر عن جعل الشارع لبعض أنواعه حجةً بالخصوص وعن دلالة دليل كدليل الانسداد على حجيته بقول مطلق، فهل يقتضي الحجية بنفسه بحيث لا يرفع اليد عنه إلا مع ثبوت ردع من الشارع عنه، أو لا؟ قولان:
التحقيق موقوف على تحقيق معنى الحجية
ولكن تحقيق الحال في ذلك يقتضي أولاً تحقيق معنى الحجية وما هو المراد منها، فانه قد يدل على أحد القولين أو قد ينفيه، بمعنى ان تشخيص معناه قد يصلح بنفسه للتنبيه على ثبوته للظن، فنقول:
المعاني التي فسرت بها الحجة تزيد على العشرة وهي:
الحجية بالمعنى اللغوي والعرفي
1- الحجة (بالمعنى اللغوي والعرفي؛ فإن الحجة هي (ما يحتج به المولى على عبده، أو ما يحتج به العبد على مولاه، أو النظير على نظيره) قال في مجمع البحرين: (وهي الاسم من الاحتجاج)([1])، و(الحجة: البرهان) و(الحجيج: المغالب بإظهار الحجة) و(المحجوج: المغلوب بالحجة)([2]) فللمولى أن يحتج على عبيده بالظواهر وغيرها، ولهم أن يحتجوا عليه بها وبالبينة وفتوى المجتهد مثلاً، وللإنسان أن يحتج على شريكه بـ (أوفوا بالعقود) ليلزمه بمقتضياتها، أو بخيار الغبن للفسخ، وكذا له أن يحتج بكلامه ـ نصاً وظاهراً ـ عليه.
وهذا المعنى لـ(الحجة) هو ظاهر آيات عديدة، قال تعالى ((فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ))([3]) وقال جل اسمه: ((لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))([4]) و((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ))([5]) و((فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ))([6])، كما تقول (حاجَّ فلاناً فحجّه) غلبه بالحجة)([7]).
ومن الواضح ان من التكلف تفسير الحجة في هذه الآيات بالكاشف أو المنكشف أو المنجّز والمعذّر أو المحرك؛ ألا ترى ان تفسير ((فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)) بالكاشف البالغ أو المنجّز البالغ بعيدٌ غايتهَ؟.
الحجية بمعنى الكاشفية أو المنكشفية
2- الحجة تعني الكاشف والحجية تعني الكاشفية، وهو ما بنى عليه عدد من الأعلام.
3- الحجة بمعنى المنكشف والحجية بمعنى المنكشفية أو الانكشاف (وقد ذهب إلى كون (القطع عين الانكشاف) المحقق الأصفهاني قدس سره في نهاية الدراية.
وفيه([8]) ما لا يخفى؛ إذ إضافة إلى أنه لو صح فان العلم هو عين الانكشاف لا القطع؛ لأنه أعم من الجهل المركب فانه متوهّمة([9])، وانه لا تلازم بين القول بأن (القطع عين الإنكشاف) وبين القول بأن (الحجية تعني الإنكشاف)([10])، أن (الانكشاف) صفة المعلوم وما دلت عليه الحجة أو أوصلت إليه، فإنه (منكشف)، وليس صفة للعلم ولا لمطلق القطع.([11])
وبعبارة أخرى (الانكشاف) لازم (الكاشفية)، و(الكاشفية) لازم خصوص العلم، أو مطلق القطع ــ على رأي ــ أو عينه.
نعم له أن يقول ـ ولعله مقصوده ـ العلم([12]) ـ وكذا القطع ـ عين الإنكشاف للنفس أي للعالم([13])، إلا أنه أجنبي من مباحث الحجية في الأصول؛ إذ الكلام فيها عن (الحجة) على الخارج لا (الحجة) بالقياس للداخل أي النفس؛ فإنه بحث يتعلق بأحوال (النفس) التي كان يبحث عنها قديماً في الفلسفة أو الكلام، وليس بحثاً أصولياً. وبعبارة أخرى الكلام في الأصول عن (الحجة) على مرادات الشارع أو أحكامه أو الوظيفة فـ(هل خبر الواحد حجة) و(هل القطع حجة) أي حجة على صدور هذا الحكم من الشارع أم لا؟ وليس البحث عن أنه حجة أي منكشف للنفس ـ هذا الخبر ـ تاماً أو ناقصاً أو لا؟ هذا)([14]).
ردّ دعوى ان الظن ليس فيه انكشاف الواقع
والحجية بالمعنى الثاني والثالث هي التي بنى عليها عدد من الأعلام، وقالوا بان الظن ليس حجة بذاته أبداً وقد سبق كلام المصباح (إذ ليس فيه انكشاف الواقع كما في القطع، لوجود احتمال الخلاف. و مجرد الرجحان الموجود فيه لا يقتضي الحجية، فهو بنفسه غير حجة لا يجوز العمل به عقلا بلا حاجة إلى تعلق المنع الشرعي عن العمل به)([15]).
أقول: الظن حجة بذاته اقتضاءً سواءً أقلنا بان معنى الحجة الكاشفية أم ان معناها الانكشاف، وذلك لأن الظن كاشف نسبي أو ناقص عن الواقع دون شك؛ ولذلك قَبِل تتميم الجعل أو تتميم الكشف، ولو لم يكن له كشف أصلاً ولو ناقصاً لما أمكن تتميم كشفه لأنه يكون حينئذٍ من السالبة بانتفاء الموضوع.
الفرق بين العلم والاطمئنان والظن والشك والوهم
وبوجه آخر: الفرق بين العلم والاطمئنان والظن والوهم شاهد على المدعى؛ فان العلم هو المطابق للواقع مائة في المائة، أما الاطمئنان فهو المطابق للواقع 95% مثلاً ولذا سمي علماً عرفاً لكنه ليس علماً حقيقة، وأما الظن فهو المطابق للواقع بنسبة 80% أو أقل أو أكثر وأما الوهم فهو المطابق للواقع بنسبة 30% مثلاً، والكاشفية فيها جميعاً ثابتة لكن باختلاف النِّسَب والدرجات.
فهذا في الظنون المتعارفة، أي التي لم يقم دليل خاص من الشرع ولا دليل الانسداد العام، عليها، أما الظنون الشخصية فانها في متعارف الناس وفي متعارف أحوالهم كذلك فتدبر.
ولذا (استدل السيد الوالد بجهة كشفه الناقص وانه لذلك قابل لتتميم الجعل عند بعضهم وللمنع عنده قدس سره فهو مقتضىٍ للحجية، وفرّع عليه انه (فما عن المشهور: من أنه غير حجة عقلاً، والنهي إرشاد إليه، لا مولوي، منظور فيه)([16]).
وبوجه آخر: (الشك) هو الذي لا كاشفية فيه أبداً، دون قسيميه، الظن والوهم، لأن الفرض انه لوحظ طرفاه معاً في وقت واحد أي انه مجموع الطرفين وهو (تساوي نسبة الوجود والعدم في نظر الشاك) فلا تعقل والحال هذه كاشفيته، نعم كل طرف من طرفيه كاشف بنسبة 50% لكن كل طرف وحده لا يسمى شكّاً (وهذا في الشك الاقتضائي واضح، دون الجهل المطلق كما سيأتي) وحيث يحدث كسر وانكسار بين الطرفين ويتكافئان فلا كاشفية فيه أصلاً، عكس الظن الذي لوحظ فيه الطرف الراجح فهو كاشف بنفس النسبة.
ويرد على قوله: (إذ ليس فيه انكشاف الواقع كما في القطع، لوجود احتمال الخلاف. و مجرد الرجحان الموجود فيه لا يقتضي الحجية)([17]) انه اما ان يريد به انه (ليس فيه انكشاف الواقع أصلاً) أو يريد به (ليس فيه انكشاف الواقع بدرجة انكشاف الواقع في القطع) فقوله (كما) اما لنفي الأصل أو لنفي الدرجة، فإن أراد الأول ورد عليه بداهة ان فيه انكشافاً للواقع بدرجة ولذا أقرّ هو قدس سره بالرجحان الموجود فيه.
وإن أراد الثاني ورد عليه انه من البديهي عدم كونه بدرجة القطع، لكن لزوم كون الانكشاف بدرجة القطع كي يكون حجة هو أول الكلام ومن المصادرة، بعبارة أخرى: ان كون الانكشاف فيه دون درجة القطع لا ينفي الاقتضاء، وهو محل الكلام، وإن نفىَ العلية والاستلزام... وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: ((أَشَدُّ سَاعَاتِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ: السَّاعَةُ الَّتِي يُعَايِنُ فِيهَا مَلَكَ الْمَوْتِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا مِنْ قَبْرِهِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)) (الخصال: ص119).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) مجمع البحرين، مادة حـ جـ ج.
([3]) سورة الأنعام: الآية 149.
([6]) سورة آل عمران: الآية 61.
([8]) في كل من التفسير والاستشهاد بكلام المحقق الاصفهاني.
([10]) إذ ذلك منوط بتفسير الحجية وانه ما هو؟
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: ((أَشَدُّ سَاعَاتِ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ: السَّاعَةُ الَّتِي يُعَايِنُ فِيهَا مَلَكَ الْمَوْتِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقُومُ فِيهَا مِنْ قَبْرِهِ، وَالسَّاعَةُ الَّتِي يَقِفُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)) (الخصال: ص119).