بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(230)
إشكال: كما يجري استصحاب الأعدام، فلتكن متعلَّقاً للاضرر
واما الإشكال الأصولي فهو: (ولا يقال: إنّ ما هو الملاك لجريان الاستصحابات العدمية، هو الملاك لصحة إسناد هذا المعدوم إلى الشارع؛ فإنّ ملاك جريانها أنّ الفاعل إذا كان قادراً على الفعل فهو قادر على الترك لا محالة، وإلا لزم أن يكون مضطراً في الفعل، كاضطرار المرتعش في الحركة، فيصح أن يسند الترك إلى الفاعل وعدم الحكم إلى الشارع)([1])
وحاصله بعبارة أخرى: ان حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فكما جاز ان يقع العدم مستصحَباً جاز ان يقع متعلَّقاً للاضرر؛ وذلك لوضوح ان الاستصحاب لا يختص بالوجود والوجوديات بل يشمل العدم والعدميات؛ فانه في بناء العقلاء كذلك كما ان صحاح زرارة الأربع وغيرها من الأدلة النقلية تشملها جميعاً، ألا ترى ان العقلاء يستصحبون الزوجية لدى الشك في بقائها، كما يستصحبون عدم الزوجية مع الشك في حدوثها كما إذا شك انه أجرى العقد أم لا أو أجرى وكيله العقد أو لا([2])، كما ان من الواضح شمول ((فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً))([3]) و((لَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ))([4]) وغيرها.
الجواب: استصحاب العدم حكم بالعدم، ومتعلَّق لا ضرر اللاحكم
وأجاب عنه الميرزا بقوله: (لأنا نقول: مرجع الاستصحابات العدمية إلى حكم الشارع بالعدم، فإنّ استمراره بمفاد "لا تنقض" مرجعه إلى وضع العدم على حاله، وعدم طرده بإيجاد نقيضه، وأين هذا مما لا يكون هناك حكم أصلاً لا نفياً ولا إثباتاً)([5]) فلا يصح قياس المقام على استصحاب الأعدام؛ إذ في المقام يُراد شمول لا ضرر لما لم يكن حكم أصلاً (لا نفياً ولا إثباتاً) اما في الاستصحاب فيراد إما استصحاب العدم المحكوم به سابقاً او استصحاب عدم الحكم السابق والحكم بعدمه الآن([6]).
إشكال: عدم الحكم، حكم
واما الإشكال البلاغي فهو: (ولو سلّمنا صحة إسناد هذا العدم إلى الشارع بالمسامحة والعناية، بأن يقال: كان للشارع أن يحكم إما بالضمان أو بعدم الضمان؛ فإذا لم يحكم، فعدم الحكم أيضا من أحكامه، فإذا لزم منه الضَّرر يرتفع ويحكم بالضمان)([7]).
ويمكن ان نعبّر عنه بعبارة أخرى وهي: ان (شأنية الحكم) كافية لعدّه حُكماً توسّعاً، فان كل ما للشارع ان يحكم عليه بالضمان وعدمه، له شأنية الحكم عليه بالضمان، فهو نظير المجاز بالمشارفة أو الأوْل – على فرقٍ لا يخفى – وعليه: فاذا لزم من الحكم الشأني بعدم الضمان([8]) ضرٌر، رَفَعَهُ لا ضرر ولازم رفعه جعل الضمان والحكم به، ويوضّحه أيضاً: الفرق بين الوجودات ونقائضها والملكات وأعدامها، فان عدم البصر بالنسبة للحائط عدم بصر لمحل غير قابل فلا يصح وصْفُه بالعمى ولا بالبصر حتى توسّعاً، اما عدمه بالنسبة للإنسان القابل له فهو صحيح ويصح وصف الأعمى بالبصير لا من باب الوصف بالضد([9]) فقط، بل من باب شأنية البصر فيه. فتأمل.
الجواب: فليكن، لكن لا ضرر لا تشمله إلا على تفسيره بالمتدارَك
وأجاب عنه الميرزا بقوله: (ولكنّا نقول: إنّ هذا الضَّرر لا يمكن أن يكون مرفوعاً بـ"قاعدة لا ضرر" إلا إذا كان مفاد الحديث أنّ الضَّرر الغير المتدارك ليس مجعولاً. وهذا المعنى مرجعه إلى الوجه الرابع الذي تقدّم في فقه الحديث، وهو الذي ظهر أنّه أردء الوجوه ولا تصل النّوبة إليه إلا بعد تعذّر المحتملات الأخر)([10]) لأنه لو اريد ان عدم الضمان مرفوع وأريد لازمه([11]) من ان الضمان مجعول، فلا بد ان يراد بـ(لا ضرر) رفع الضرر غير المتدارك لأن عدم الضمان – الذي اعتبرناه حكماً توسّعاً – إنما لا يكون ضرراً إذا كان متداركاً (بان ضمّنه الشارع) فقوله لا ضرر أي لا ضرر غير متدارك أي ان الضرر موجود([12]) لكنه متدارك ببركة لا ضرر فان كل ضرر جرى تداركه فليس بضرر، وذلك كما لو كسر إناء الغير وعوّضه بإناء مماثل فوراً فكيف لو عوّضه بالأكثر.
بعبارة أخرى: حيث علمنا وقوع الضرر في الإسلام، ككسر أحدهم إناء الآخر أو قتله أو شبه ذلك، فلا يراد بلا ضرر: لا ضرر تكويناً في الإسلام، بل يراد الضرر بقيدٍ مصحِّحٍ ليكون منفياً وهو قيد التدارك فيكون المعنى ان الضرر غير المتدارك غير موجود([13]) وعليه فكل ضرر وجد فقد حكم الشارع بتداركه فكان بتداركه كأنّه غير موجود ولذا صح القول ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ)([14]).
مقارنة بين رأيين: (الحكم الضرري) و(الضرر المتدارك)
لكن الميرزا رأى تبعاً للشيخ ان هذا هو اردء الوجوه، واختار المعنى الذي ارتضاه الشيخ تبعاً للمشهور وهو ان لا ضرر يعني لا حكم ضررياً فهو نفي للحكم الضرري لا للضرر غير المتدارك.
قال الميرزا في أوائل قاعدة لا ضرر: (في معنى الحديث الشريف وبيان المراد منه، وإنما المهم البحث عن مفاد الجملة التركيبية، فالأولى صرف العنان إليه، فنقول: قد ذكروا فيه وجوها، وقال بكل قائل:
الأول: إبقاء النفي على حقيقته وكون المنفي هو الحكم الضرري ومرجعه إلى نفي الحكم الذي يوجب ثبوته ضرراً على العباد، سواءٌ كان الضَّرر ناشئاً من نفس الحكم، كما في لزوم العقد وسائر الأحكام الوضعية؛ أو باعتبار متعلّقه كالوضوء الضَّرري وغيره من الأحكام التكليفية. وقد نسب هذا الوجه إلى فهم الأصحاب واختاره شيخنا الأنصاري H، وهذا هو المختار كما سنبين وجهه)([15]).
و: (الرابع: أن يكون كناية عن لزوم التدارك، أي الضَّرر المجرّد عن التدارك منفي. وهذا المعنى نسبه شيخنا الأنصاري H إلى بعض الفحول. وقال: بعد ما اختاره من المعنى: "ثم إن أردء الاحتمالات هو الثاني، وإن قال به بعض الفحول، لأن الضَّرر الخارجي لا ينزّل منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بلزوم تداركه، وإنما المنزّل منزلة الضرر المتدارك فعلا" إلى آخر كلامه قدس سره)([16]).
ثم ان الميرزا النائيني أشكل عليه ثانياً بـ(وعلى أيّ حال: لو التزمنا بهذا، فلا معنى لحكومته على الأحكام الثابتة؛ لأنه لا جامع بين هذا المعنى والمعنى الأول)([17]) إذ لا جامع بين (حكم ضرري) – وهو الذي اختار انه المنفي بـ(لا) في (لا ضرر) وبين (الضرر غير المتدارك) وهو هذا المعنى الرابع إذ ما الجامع بين الحكم وهو إنشاء تشريعي والضرر وهو تكويني؟ وما الجامع بين الحكم بقيد الضرري والضرر بقيد غير المتدارك؟ هذا.
مناقشات مع المحقق النائيني قدس سره
أقول: لكن كلامه قدس سره قدس سره السابق بطوله قد يناقش بوجوه عديدة:
أ- لا يوجد القسم الثالث (عدم الحكم)
الأول: ماسبق ان شيّدناه مفصلاً من عدم وجود القسم الثالث في الشريعة وهو (عدم الحكم) ليكون محل الكلام والنقض والإبرام في شمول لا ضرر له وعدمه، بل المتحقق اما الأحكام الوجودية أو الأحكام العدمية وكلا النوعين حكم وإنشاء وإنما المتعلَّق وجود أو عدم، ولا نقاش للميرزا في شمول لا ضرر لهما، والحاصل: ان الخلاف في القسم الثالث من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
وقد استدللنا على ثبوت حكم من الشرع لكل إقتضائي ولا إقتضائي بأدلة ستة كان منها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ)([18]) و(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)([19]) و((مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَفِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ))([20]) و((وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وَهِيَ فِيهَا حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ))([21]) و((عَفَا لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْهُ لكم))([22]) و((كُلُّ شَيْءٍ مُطْلَقٌ حَتَّى يَرِدَ فِيهِ نَهْيٌ))([23]) وانّ سكوتَ مَن كان شأنه التشريع فيما يصلح له نطقٌ به، فراجع ما سبق، إضافة إلى ما استدللنا به على خصوص حكم الشارع بالضمان أو حكمه بعدمه، بمثل ((لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِم))([24]) فان من حبس حرّاً عن زراعته وبنائه ونجارته.. الخ وفوّتها عليه فانه يصدق عليه عرفاً انه ضيّع حقه دون شك، ولا يتوى أي لا يضيّع حق امرئ مسلم، فعليه الضمان، وبـ(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)([25]) والسيئة حبسُه الحرّ، فيجازى بالضمان.
لا يقال: مثلُ السيئة حبسه له في قبال حبسه له؟
إذ يقال: أولاً: المثلية جنسية ولا دليل على كونها نوعية. فتأمل
ثانياً: يدور الأمر بين جزائه بحبسه أو بضمانه وتعويضه، والإجماع ينفي الأول فيبقى الثاني. فتأمل
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِهِ)) (الكافي: ج2 ص312).
---------------------------------------------------------------------
([1]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، قاعدة لا ضرر: ط1، 1421هـ ص181.
([2]) لولا دليل دال على النقض، فانه يستصحب العدم.
([3]) تهذيب الأحكام: ج1 ص421.
([4]) تهذيب الأحكام: ج1 ص8.
([5]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، قاعدة لا ضرر: ط1، 1421هـ ص181.
([6]) وظاهر كلام الميرزا هذا الثاني.
([7]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، قاعدة لا ضرر: ط1، 1421هـ ص181.
([8]) أي عدم الضمان الذي هو حكم شأني.
([9]) وتسمية الشيء باسم ضده.
([10]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، قاعدة لا ضرر: ط1، 1421هـ ص181-182.
([11]) إن لم يكن هو هو لأن نفي النفي إثبات.
([12]) وهو عدم الضمان بدواً أو هو نفس حبس الحر وحرمانه منافعه – والأول هو ظاهر كلام الميرزا.
([13]) وهو متضمن لوجود الضرر نفسه.
([14]) عوالي اللآلئ: ج1 ص220.
([15]) الشيخ موسى النجفي الخوانساري، تقريرات بحث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، قاعدة لا ضرر: ط1، 1421هـ ص99-100.
([16]) المصدر نفسه: ص104-105.
([17]) المصدر نفسه: ص182.
([18]) سورة المائدة: آية 3.
([19]) سورة الأنعام: آية 38.
([20]) الكافي: ج1 ص59.
([21]) الكافي: ج1 ص241.
([22]) الأمالي للمفيد: ص158.
([23]) من لا يحضره الفقيه: ج1 ص317.
([24]) عوالي اللآلئ: ج1 ص315.
([25]) سورة الشورى: آية 40.