بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(400)
تتمة الكلام حول فقه (بِالْباطِلِ)
سبق: أّن المفهوم قد يتغيّر، وانه قد يتعدّد، وان الموضوع قد يكون هو المتغيِّر، وسبق: ان المدار في عناوين موضوعات الأحكام هو المعنى المتغيَّر عنه لا المتغيَّر إليه، وانّه لو تعدّد على نحو الاشتراك اللفظي فالقرينة المعيِّنة هي الملاك وإلا فمجمل، وأنّ الموضوع لو تغير شملته أحكام الموضوع الاخر (المتغيّر إليه) وتحقيق ذلك في ضمن بحث تطبيقي هام مبتلى به على ضوء فقه قوله تعالى (بِالْباطِلِ) وهو:
بحث تطبيقي: تحريم العلماء لأمثال التلفاز والمنجد ثم تحليله
إنّ العديد من العلماء حرموا في البداية المذياع والتلفاز ثم أجازوهما، فوقع الإشكال من كثير من الناس بان من المسلّمات بان ((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...))([1]) فكيف حرّمتم ثم حلّلتم؟ وكذا حرّم بعض العلماء ربطة العنق ثم أجازها، وحرّم بعض ما يسمى بالستلايت والدش ثم أجازوه، وحرّم بعض شراء المنجد وبيعه ثم أجازوه، وأجاز بعضهم البيع الشبكي ثم حرّموه أو العكس، فكيف يعقل ذلك؛ فانه إن كان من المنكر أو الباطل كان محرّماً وكان مشمولاً لقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ...)([2]) فيكون بيعه وشراؤه محرماً باطلاً وثمنه سحتاً، وإلا فلا.
الإشكال: بان بيع المحلل ممن يعمله محرماً، ليس بمحرم
والجواب: ان ذلك مما يمكن تخريجه بوجوه عديدة، ولكن علينا ان نقوي الإشكال أولاً ثم نجيب عنه، ونستعين في تقويته بما بحثه الأعلام في مبحث بيع العنب ليعمله خمراً ونظائره كبيع الخشب ممن يعمله آلة لهو أو قمار وإجارة الدكان ممن يبيع فيه الخمر فنقول: ان الصور في بيع ما هو حلال ممن يحتمل أو يعلم انه سيصرفه في الحرام كبيع العنب ممن يحتمل أو يعلم انه سوف يعمله خمراً، متعددة.
الصورة الأولى: ان يبيعه العنب أو الخشب بشرط ان يعمله خمراً أو آلة لهو (وحسب تعبير الشيخ: على ان يُعمَل خمراً)، وهذا مما لا شك في حرمته وفساده بلا خلاف كما ذكره الشيخ، فلو باعه التلفاز أو الخشب أو غيرهما بشرط ان يستعمله في الحرام حرم وفَسَد.
الصورة الثانية: ان يبيعه العنب أو الخشب بقصد ان يعمله خمراً أو آلة لهو (لا بشرط ان يعمله، أي وإن لم يشترط ذلك) وهذا محرم بالإجماع أيضاً لأدلة عديدة مذكورة في المكاسب وغيره ومنها ان أكل المال في الصورة الأولى بل والثانية أيضاً أكل للمال بالباطل بالحمل الشائع، عرفاً، وقد قال تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ومنها: انه إعانة على الإثم وغير ذلك فراجعه هناك مع الأخذ والرد فيه.
وعليه: فإذا باعه التلفاز أو الخشب بقصد ان يستعمله في الحرام حرم.
الصورة الثالثة: ان يبيعه ممن يعلم انه يعمله خمراً (لكن لا بشرطه ولا بقصده) والمشهور جوازه، وقد وردت في بعض صُوَرِه روايات خاصة لكنها تتضمن تعليلاً عاماً كقوله عليه السلام في خبر ابن اذينة قال: ((كَتَبْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ كَرْمٌ أَ يَبِيعُ الْعِنَبَ وَ التَّمْرَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ خَمْراً أَوْ سَكَراً فَقَالَ إِنَّمَا بَاعَهُ حَلَالًا فِي الْإِبَّانِ الَّذِي يَحِلُّ شُرْبُهُ أَوْ أَكْلُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ))([3]).
فعلى هذا لا ينبغي القول بحرمة بيع التلفاز وشبهه حتى إذا علم بانه يستعمله في الحرام (مادام لم يشترطه ولم يقصده) فكيف إذا ظن فقط؟ بل كيف إذا احتمل فقط؟
نعم يخرج من ذلك ما علم من الشارع كراهة وقوعه في الخارج مهما كان، فيحرم مثلاً بيعه السكين أو البندقية حتى ممن يحتمل عقلائياً انه سيقتل بها شخصاً، فكيف بما لو علم؟
فكان ينبغي القول بالتفصيل، لا إطلاق التحريم ثم التجويز.
وجوه خمسة لتخريج فتاوى العلماء
والجواب: ان ما يمكن ان يذكر من الوجوه للتحريم ثم التجويز، وجوه خمسة:
ان التحريم من باب المقدمية
الوجه الأول: ان ذلك من باب المقدمية، فان مقدمة الحرام حرام عقلاً، أو عقلاً وشرعاً.
ولكن هذا الوجه يواجه بإشكالات:
الإشكال بتوسط الفاعل المختار
منها: ان مقدمة الحرام إذا تخلّلها فاعل مختار ليست بمحرمة، أي ان مقدمة الفعل الحرام للمكلف نفسه محرّمة، أما المقدمة التي تقع في طريق فعل شخص آخر للحرام فليست بمحرمة من جهة عنوان المقدمة؛ إذ قد توسّطها الفاعل المختار فالمحرّم هو فعله للحرام عن إرادة، لا تمهيد شخص آخر بعض المقدمات له ليفعل، نعم لو كان الفاعل مجنوناً أو طفلاً غير مميز فانه يُنسب فِعلُ الحرام حينئذٍ إلى السبب دون الفاعل المباشر لأنه كالآلة حينئذٍ.
وأنّ المحرّم المقدمة الموصلة فقط
ومنها: انه لو سلمت الحرمة من باب المقدمية، فان الحرام هو المقدمة الموصلة، وليس كل من يشتري التلفاز مثلاً يفعل به المحرم([4]) فكان اللازم التفصيل في الحرمة بين بيعه ممن توصل به إلى الحرام وبين بيعه ممن لم يتوصل به إليه.
الجواب: تعميم الحرمة لما لو ترك ترك
ويمكن الجواب عن الإشكال الأول: بتعميم الحرمة لما وقع مقدمة لفعل الغير، وذلك على مسلك بعض أعلام الأصول، حيث ذهب العديد منهم إلى حرمة المقدمة المنحصرة وإن لم يحرُم غيرها، بمعنى انه إذا كان مما لو ترك ترك([5])، حرم الفعل والتمهيد، واما إذا كان مما لو ترك لم يترك لم يحرم التمهيد وما عدّ مقدمة.
توضيحه: انه ذهب جمع في أمثال بيع العنب إلى مَن يعمله خمراً (لا بشرط ان يعمله ولا بقصد ان يعمله) إلى انه لو كان بحيث إذا ترك بيعه له ترك المشتري شرب الخمر لانحصار طريقه إلى شراء العنب وشرب الخمر بهذا البائع فإذا لم يبعه له لم يمكنه ان يصنع الخمر وان يشربها لعدم وجود بائع آخر أو لامتناع سائر الباعة عن بيعه له، فهنا تحرم المقدمة وان توسطها الفاعل المختار لأن تركها سبب تام لترك الحرام فالترك واجب([6]).
واما لو كان بحيث إذا ترك البيع لا يترك الطرف الآخر شرب الخمر لعدم كون المقدمة منحصرة به لأن غيره سيبيعه له أو سيسرقه أو غير ذلك، فانه لا يحرم البيع له حينئذٍ.
فعلى هذا المبنى يمكن تصحيح فتوى أولئك العلماء بحرمة بيع التلفاز أو المنجد أو الربط أو غير ذلك ثم تجويزه؛ إذ كان الناس سابقاً ملتزمين بفتاوى العلماء فكانت المقدمة منحصرة أي ان تحريم الفقيه بيع الخشب أو التلفاز على آحاد المكلفين إنما كان لعلمه بان كلّا منهم (كزيد مثلاً وعمرو...) لو ترك ترك الآخرون أيضاً البيع، أي لأنه يعلم بان غيره لا يبيعه له، واما في هذا الزمن فقد خرجت القضية عن المقدمية الانحصارية فانه إذا لم يبعه باعه غيره وإذا لم يشتر منه اشتراه من غيره، فلَمْ يحرم البيع لأنه ليس مما إذا ترك ترك([7]). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام: ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ الْعَبْدُ إِذَا دَعَاهُ وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُبَثَّ إِلَيْهِ الْحَوَائِجُ فَإِذَا دَعَوْتَ فَسَمِّ حَاجَتَكَ)) (الكافي: ج2 ص476).
----------------------------------------------------------
([1]) الكافي: ج1 ص58.
([2]) سورة النساء: آية 29.
([3]) الكافي: ج5 ص231.
([4]) كمشاهدة المناظر الخليعة.
([5]) لو ترك السبب، ترك المباشر.
([6]) والفعل حرام، بناء على الملازمة بينهما أو كون أحدهما عنواناً للآخر.
([7]) راجع المكاسب المحرمة، وقد فصّلنا الكلام عن ذلك وعن بعض المناقشات مع الأعلام في المقام، في بحث سابق.