183- الفرق الدقيق بين عدم وجوب الترك ، وبين حرمة الفعل (في مسألة بيع العنب ممن يعمله خمراً)
الثلاثاء 20 جمادى الآخرة 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(183)
2- الترك ليس بواجب ولكن الفعل حرام
كما يرد الشيخ قدس سره ان ترك بيع العنب لمن يعمله خمراً وإن لم يكن واجباً فيما لو كان تركه لا يؤدي إلى تركه لأن غيره سيبيعه له أي (لو علم([1]) بانه يحصل منه المعصية بفعل غيره) فانه (لا يتحقق الارتداع حينئذٍ بترك البيع) فالترك ليس مقدمة موصلة مادام ليس مقدمة منحصرة، لكنه غير نافع في المقام؛ فان الإشكال هو انه وإن صح ذلك (ولم نشكل عليه بما مضى) إلا انه لا ينتج عدم حرمة الفعل، لأن الترك وإن لم يكن مقدمة للترك لكن الفعل مقدمة للفعل لبداهة ان بيعه للعنب عِلّة معدّة لصنعه الخمر وشربهن فهو حرام، ولا تلازم بين عدم وجوب الترك وعدم حرمة الفعل بل الأمر تابع للمناط في كل منهما فالترك حيث لم يكن مقدمة موصلة لترك شرب الخمر (لفرض عدم الانحصار به) فليس بواجب، ولكن الفعل لفرض انه مقدمة موصلة (لفرض انه لو باعه صنع الخمر فشربه) فهو حرام.
عدمه ليس موجباً لعدمه لكن وجوده علّة لوجوده
والحاصل: ان عدمه وإن لم يكن موجباً لعدمه([2]) لكن وجوده علّة معدّة لوجوده.
بعبارة أخرى: سدّ باب هذا العدم حيث لم ينتج العدم، لم يجب، لكن فتح باب الوجود حيث أنتج الوجود حرم.
بعبارة ثالثة: البيع، عِلّة على سبيل البدل اقتضائية تامة، لصنع المشتري الخمر وشربها، فهو لا بشرط عن بيع الآخرين له وعدمه، علّة لتحقق الحرام، واما عدم البيع فهو بشرط شيء (بشرط عدم بيع سائر الباعة) عِلّة اقتضائية تامة لعدم شربه الخمر فليس بواجب مادام لم يتحقق شرطه (انضمام الغير إليه في ترك البيع).
ثم ان من ذلك كله ظهر الخلط الحاصل في كلام بعض الأعلام بين الأمرين (عدم وجوب الترك، وحرمة الفعل) فلننقل نص العبارة أولاً:
المصباح: لا موجب لحرمة الإعانة على الإثم مع علمه بصدوره ولو مع ترك الإعانة
قال في مصباح الفقاهة: (وفيه: ان النهي انما ينحل الى افراد الطبيعة لان معنى النهي عن الشئ عبارة عن الزجر عنه لما فيه من المفسدة الالزامية، فإذا توجه النهي الى طبيعة ما وكان كل واحد من افرادها مشتملا على المفسدة الالزامية فلا محالة ينحل ذلك النهي الى نواهي عديدة حسب تعدد الافراد، وأما في مثل المقام فان منشأ النهي فيه هو ان لا يتحقق الاثم في الخارج، فالغرض منه انما هو الوصول الى ذلك، فإذا علم صدور الاثم في الخارج ولو مع ترك الاعانة من شخص خاص فلا موجب لحرمتها. وهذا كما إذا نهى المولى عبيده عن الدخول عليه في ساعة عينها لفراغه، فان غرضه يفوت إذا دخل عليه واحد منهم فترتفع المبغوضية عن دخول غيره)([3]).
المناقشات
أقول: قد يناقش بالوجوه الآتية:
الخلط بين (عدم وجوب الترك) و(وحرمة الفعل)
ان قوله (فإذا علم صدور الاثم في الخارج ولو مع ترك الاعانة من شخص خاص فلا موجب لحرمتها) يرد عليه: انه خلط بين الأمرين إذ المفروض ان يقال: (فلا موجب لوجوب الترك) لا ان يقال: (فلا موجب لحرمة الإعانة) إذ مع تسليم انه مع تركه الإعانة لو كان الطرف يصدر منه الإثم حتماً (لشرائه العنب من غيره) فلا موجب للقول بان تركه الإعانة واجب (لأن هذا الترك لم يقع مقدمة لدفع الحرام) ولكن أي ربط لهذا بالقول بانه إذا علم صدور الإثم من الغير ولو مع تركي بيع الخمر له فان بيعي له العنب لا موجب لحرمته! إذ سبق ان الترك وإن لم يكن علّة للترك (فلا موجب لوجوبه لعدم المقدمية) لكن الفعل حيث كان علّة للفعل فالموجب لحرمته ثابت وهو المقدمية.
إشكال: وجوب أمر لا يستلزم حرمة نقيضه!
لا يقال: انه ذهب بعض إلى ان وجوب الشيء لا يستلزم حرمة ضده العام أو الخاص بل لا يمكن إيجاب شيء وتحريم نقيضه، أو تحريمه وإيجاب نقيضه، للّغوية؟
الجواب: ذلك أجنبي عن المقام
إذ يقال: تلك المسألة أجنبية عن المقام إذ المقام هو في ان الترك ليس بواجب لأنه ليس مقدمة للترك، ولكن الفعل حرام لأنه مقدمة للفعل الحرام، فالحكم ثابت في أحد الطرفين لوجود علته فيه (وهي المقدمية) وليس بثابت نقيضه في الطرف الآخر لعدم وجود علته فيه، لا ان الحكم حيث ثبت في أحد الطرفين فانه يلزمه ثبوت نقيضه لنقيضه، بل لدى الدقة فان ما نحن فيه من التفكيك لانفكاك الطرفين من حيث تحقق علّة الحكمين المتضادين (ومن حيث ان الحكم لأحدهما ثابت وللآخر غير ثابت لا هو ولا نقيضه) وليس من دعوى التلازم، نعم لو قلنا بان الفعل (بيع العنب) حيث حرم فان تركه واجب كان من دعوى التلازم، لكن المدعى عكس ذلك وهو ان الفعل حرام لكن الترك ليس بواجب، فلدى التدقيق نجد المسألة أجنبية عن تلك المسألة فتدبر.
إشكال: لا يصح قياس الحلال الذاتي على الحرام الذاتي
لا يقال: لا يصح قياس الحلال الذاتي (بيع العنب) على الحرام الذاتي (غصب القرط من أذن ابنة الإمام الحسين A مثلاً أو السرقة أو أي محرم آخر، معللاً بانه لو لم يغصبه لغصبه غيره) فانه نلتزم بان غصبه حرام لأنه محرم ذاتي (وإن كان لو لم يفعله لفعله غيره) ولا نلتزم بان بيع العنب حرام فانه ليس حراماً ذاتياً بل حرمته لأمر خارج (كونه إعانة).
الجواب: لا قياس، بل لكلٍّ ملاكه
إذ يقال: لم نقس هذا على ذاك، بل كل له ملاكه ودليله فتستفاد الحرمة من دليله الخاص به لا من القياس:
اما الغصب والسرقة، فواضح حرمتها لأنها حرام بالذات ولا يصح القول بانه حلال لي مادام إذا لم أفعله فعله غيري فيزني أو يقتل أو يسرق بهذا العذر لا سمح الله.
واما الإعانة فالحرمة للمقدمية (بعد قبول مبنى ان الإعانة على الإثم حرام – كما هو مبنى المسألة ومفروضها) وان مقدمة الحرام الإعدادية وإن توسطها الفاعل بالاختيار (مادام مشرفاً على المعصية أو مطلقاً([4])) حرام فيقال: ليس الترك حراماً لأنه ليس مقدمة (كما قاله الشيخ إذ مع عدم انحصار البيع به فتركه لا يوصله إلى تركه) لكن الفعل حرام لأنه مقدمة وهي محرمة عقلاً أو عقلاً وشرعاً، بل هي محرمة هنا لصدق عنوان الإعانة على الإثم بناء على حرمة كلي الإعانة. فتدبر وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((مَنْ أَنْكَرَ مِنْكُمْ قَسَاوَةَ قَلْبِهِ فَلْيَدْنُ يَتِيماً فَيُلَاطِفُهُ وَلْيَمْسَحْ رَأْسَهُ يَلِينُ قَلْبُهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ لِلْيَتِيمِ حَقّاً)) (من لا يحضره الفقيه: ج1 ص188).
-----------------------------------------------
([1]) وكذا لو لم يعلم، كما قال الشيخ.
([2]) (عدم بيع العنب) لـ(عدم شرب الخمر).
([3]) السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، الناشر: مكتبة الداوري – قم، ج1 ص295.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |