بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(319)
انه توكيل في التملك
كما يحتمل في نثار العرس ان الناثر يوكّل الآخذ في تملّكه بأخذه.
انه إهمال
كما يحتمل كونه إهمالاً: أي ان يكون الناثر مهمِلاً لما يملكه، والفرق بين الإهمال والإعراض: أن الإعراض إنشاءُ قطعِ علاقة الملكية بينه وبين ما يملكه، أما الإهمال فمجرد ترك الاستفادة منه كمن ترك بعض حاجاته في المخزن لسنين طويلة غير مستفيد منها بل حتى وإن كان غير محتمل لأن يستفيد منها لاحقاً، ومع ذلك فإن الإهمال قد يكون مخرجاً عن الملكية أو مسقطاً لحق الاختصاص وذلك كما التزم به العديد من الفقهاء من ان الحائز لأرضٍ مثلاً لو أهملها ثلاث سنين، وقيل المناط إهمالها عرفاً، خرجت عن ملكه أو سقط حق اختصاصه – على المبنيين –
ومن أمثلة الإهمال: الكثير من الأراضي المتروكة في النجف التي أهملها أهلها لسنين متمادية، على ان هذه الأراضي على ثلاث أقسام: ما أعرض عنه أهله، ما أهملوه لعدم حاجتهم له، ما لم يُعرضوا عنه ولم يُهملوه وقد تركوه للجهل به (كما لو مات والدهم وهم لا يعلمون بما يملكه) أو للعجز عن الاستفادة منه، فليس إعراضاً ولا إهمالاً إلا بالمعنى الاسم مصدري، وغاية الأمر انه انعراض قهري، وعلى أي فأمر هذه الأراضي بيد الحاكم الشرعي هذا.
ولكن الإهمال أو قصده في نثار العرس بعيد، وعلى أيٍّ فمجرد قصدِه غيرُ مسوّغ للغير للتصرف فيه.
موجز القول في الإعراض
اما الإعراض فقد اختلف فيه الأعلام فقال قوم بان المالك ليس له قطع إضافته عن ملكه أبداً وإنما له تبديل الإضافة: إما اختياراً ببيع أو صلح أو هبة أو غيرها حيث ان الملكية هي كخيط رابط بين المالك والملك فليس له قطع هذا الخيط بل له نقله إلى آخر، وإما قهراً بالموت إذ يورَث حينئذٍ، وقد أُستثنِي من ذلك بالدليل الخاص أمران: العتق فانه قطع إضافة لا تبديلها، والوقف العام بناء على انه تحرير، واما ما عداهما فيبقى على الأصل من عدم خروجه عن الملك أي سقوطه عن الملكية بالإعراض.
الأدلة على مسقطية الإعراض، للملك
ولكن المنصور تبعاً للسيد الوالد وجمع آخر من الفقهاء ان الإعراض مخرج عن الملكية، وذلك استناداً إلى وجهين:
الأول: ان الملكية والمال، من الموضوعات العرفية وليستا من دائرة الحقيقة الشرعية، فالمدار على العرف في عدّه لهذا مالاً أو ملكاً؛ إذ لم يثبت تصرف من الشارع في أصلهما، نعم تصرف في بعض شرائطها أو خصوصياتهما في بعض الموارد، فكلما لم يثبت تصرف من الشارع فيه فانه يبقى على الأصل من مرجعية العرف فيه كسائر الموضوعات، ولم يرد من الشارع تصرّف أو ردع فيما يراه العرف من كون الإعراض مخرجاً عن الملكية.
الثاني: بعض الأحاديث الخاصة:
ومنها: صحيحة أو حسنة([1]) حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((لَا بَأْسَ بِلُقَطَةِ الْعَصَا وَالشِّظَاظِ وَالْوَتِدِ وَالْحَبْلِ وَالْعِقَالِ وَأَشْبَاهِهِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ))([2]) والعبرة بعموم قوله ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) فكل ما لا طالب له فيمكنك تملّكه، والظاهر عرفاً من هذا التعبير انه حيث خرج عن ملكه بترك طلبه صح للغير تملّكه ولا يحتمل ان المراد انه مع بقائه على ملكه فان لك تملكه فانه بعيد جداً.
نعم قد يقال ان الظاهر اختصاصها بالمحقرات من الأمور لا لأن الأمثلة منها([3]) بل لأنها هي مرجع اسم الإشارة في قوله ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) فمرجع (هذا) هو أشباه العصا، خاصة مع قوله عليه السلام (وأشباهه) فمرجع اسم الإشارة هو العصا والشظاظ والوتد وأشباهها، اللهم إلا ان يستدل بان الإمام علّل بكبرى ارتكازية لا بأمر تعبدي فيعمّ غيرها، ويكون وجه ذكر هذه المحقرات هو انها هي التي يُعرَض عنها عادة دون النفائس، فتأمل.
ومنها: عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ وَالصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ احْتِيَاطاً عَلَى أَمْتِعَةِ النَّاسِ وَكَانَ لَا يُضَمِّنُ عليه السلام مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالشَّيْءِ الْغَالِبِ، وَإِذَا غَرِقَتِ السَّفِينَةُ وَمَا فِيهَا فَأَصَابَهُ النَّاسُ فَمَا قَذَفَ بِهِ الْبَحْرُ عَلَى سَاحِلِهِ فَهُوَ لِأَهْلِهِ وَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَمَا غَاصَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكَهُ صَاحِبُهُ فَهُوَ لَهُمْ))([4]) وظاهرها ان المقياس هو (َتَرَكَهُ صَاحِبُهُ) ولعله ظاهره انه تركه معرضاً عنه لا مهملاً له، وقد يدعى شمول اللفظ لهما فان كلّا من المعرِض والمهمل يصدق عليه انه تركه صاحبه، ولكن قد يقال باختصاص الرواية بصورة الانعراض القهري أو مع الإعراض اختياراً بدليل انه (غَاصَ عَلَيْهِ النَّاسُ)، فلا يعم ما عدا ذلك. فتأمل
وعلى أي فان نثار العرس هو من المحقرات عادة فتشمله الرواية الأولى.
هل للبيع ركنان أو أربعة؟
ثم انه وقع الخلاف بين المحققين الايرواني والنائيني فذهب الأخير إلى ان البيع لا يتحقق إلا باعطائين ولا ينعقد بغيرهما فالبائع يعطي المثمن ويأخذ الثمن والمشتري بالعكس فالأركان أربعة، بينما ذهب الأول إلى ان البيع يتحقق بإعطاء وأخذٍ لا باعطائين وأخذين، واما إعطاء المشتري للثمن وأخذ البائع له فوفاء وليس من حقيقة البيع، وسيأتي تفصيل الكلام عن ذلك، ومحلّ الشاهد هنا انه بناء على رأي النائيني فلا يمكن ان يكون نثار العرس بيعاً، ولكن يمكن كونه بيعاً على رأي الايرواني بان يكون الناثر يبيع لعنوان الآخذ ما نثره والآخذ يشتريه، واما ثمنه فهو حضوره في المجلس وذلك بناء على شمول الثمن للأمور غير المادية، ولكن لا يخفى ما فيه من الضعف. وللبحث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
من وصية رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لأبي ذر الغفاري ((يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ وَمَنْ طَلَبَ عِلْماً لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ يَا أَبَا ذَرٍّ مَنِ ابْتَغَى الْعِلْمَ لِيَخْدَعَ بِهِ النَّاسَ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ عِلْمٍ لَا تَعْلَمُهُ فَقُلْ لَا أَعْلَمُهُ تَنْجُ مِنْ تَبِعَتِهِ، وَلَا تُفْتِ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ تَنْجُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (الأمالي للطوسي: ص527).
---------------------------------------------------------
([1]) على المبنيين.
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص140.
([3]) إذ العبرة دوماً بعموم الجواب.
([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص242.