بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(320)
فقه قوله عليه السلام ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ))
سبق: (ومنها: صحيحة أو حسنة حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((لَا بَأْسَ بِلُقَطَةِ الْعَصَا وَالشِّظَاظِ وَالْوَتِدِ وَالْحَبْلِ وَالْعِقَالِ وَأَشْبَاهِهِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ))([1]) والعبرة بعموم قوله ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) فكل ما لا طالب له فيمكنك تملّكه، والظاهر عرفاً من هذا التعبير انه حيث خرج عن ملكه بترك طلبه صح للغير تملّكه ولا يحتمل ان المراد انه مع بقائه على ملكه فان لك تملكه فانه بعيد جداً)([2]) وإن أمكن ان يعتبره الشارع أو من بيده الاعتبار فان الاعتبار خفيف المؤونة فيمكن ان يعتبر التقاطها هو المخرج لها عن ملك المالك والسبب لملك الملتقِط، لا الإعراض السابق.
ثم ان قوله ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) يعمّ صوراً وهي: المعرِض، والمهمِل، ومن حصل له الانعراض القهري لعجزه عن الوصول إلى ماله مثلاً، فانه يصدق على جميعها بالحمل الشائع الصناعي انه ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) لكن الصدق على المهمِل محل نظر لأنه مهمل للاستعمال لا لأصل الملكية التي لا يتصور إهمالها([3]) والظاهر من ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) أي طالب لذاته([4]) لا الطالب لاستعمالاته أي ليس المراد (ليس لهذا طالب لاستعمالاته وإن كان طالباً لذاته).
بل قد يقال: بان الإجماع والارتكاز وبناء العقلاء على عدم كون إهمال بضاعة مسقطاً لها عن الملكية، فتكون قرينة متصلةً حافَة بمثل ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) مانعةً عن انعقاد إطلاقها، بل حتى لو شك فانه لا ينعقد الإطلاق لأنه من محتمل القرينية المتصِّل وهو – على المشهور – مانع من انعقاده لاشتراط إحراز كون المتكلم في مقام البيان ومع محتمل القرينية المتصل لا إحراز([5])، وليس الإطلاق، على فرض انعقاده، من القوة والوضوح بحيث يصلح للردع عن الارتكاز والبناء والإجماع، فتدبر.
عموم التعليل في ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ))
كما سبق: (نعم قد يقال ان الظاهر اختصاصها بالمحقرات من الأمور لا لأن الأمثلة منها بل لأنها هي مرجع اسم الإشارة في قوله ((لَيْسَ لِهَذَا طَالِبٌ)) فمرجع (هذا) هو أشباه العصا، خاصة مع قوله عليه السلام (وأشباهه) فمرجع اسم الإشارة هو العصا والشظاظ والوتد وأشباهها، اللهم إلا ان يستدل بان الإمام علّل بكبرى ارتكازية لا بأمر تعبدي فيعمّ غيرها)([6]) والظاهر هو عموم التعليل وانه بأمر عقلائي لا بجهة تعبدية فان ظاهر مقام التعليل هو ذلك إذ التعبد لا يحتاج إلى تعليل بل يحتاج إلى تسليم فالتعليل يساق للإقناع فلا بد ان يكون عقلياً أو عقلائياً وإلا دار أو كان نقضاً للغرض.
ولا يخلّ به قوله (هذا) و(أشباهه) كما سبق إذ العبرة بعموم العِلّة، واللقب لا مفهوم له، بل يؤكده ويوضحه: انه لو سأله عن (مَغلِيّ القمح والشعير وأشباهها) مثلاً فأجاب عليه السلام (ليس مغلي القمح بمسكر أو ليست هذه بمسكرة) فانه لا يتخصص الجواب بالشعير وأشباهه من السّلت والرز، بل يشمل حتى مغلي قشر البطيخ مثلاً مما ليس من أشباه الشعير، أي ان مثل هذا الجواب المشتمل على التعليل نص في ان تمام الملاك هو الإسكار سلباً وإيجاباً وانه حيث ان هذه وأشباهها ليست مسكرة فهي محلّلة فالمدار على الإسكار عرفاً ويبعد جداً ان تكون لخصوصية المورد مدخلية بان يكون الإسكار في ضمن هذه الأمور خاصة، عِلّة للتحريم، كما استظهرها([7]) الشيخ في موضع من كتاب الطهارة على ما ببالي.
هل البيع إعطاءان أو إعطاء وأخذ؟ والثمرة
كما سبق نقل الخلاف بين المحققين الإيرواني والنائيني: (فذهب الأخير إلى ان البيع لا يتحقق إلا باعطائين ولا ينعقد بغيرهما فالبائع يعطي المثمن ويأخذ الثمن والمشتري بالعكس فالأركان أربعة، بينما ذهب الأول إلى ان البيع يتحقق بإعطاء وأخذٍ لا باعطائين وأخذين، واما إعطاء المشتري للثمن وأخذ البائع له فوفاء وليس من حقيقة البيع، وسيأتي)([8]).
وبعبارة أخرى: انه قد يقال بان إعطاء المشتري للثمن وأخذ البائع له، جزءان للبيع كما ان اعطاء البائع للمثمن وأخذ المشتري له جزءان فأجزاؤه أربعة، وقد يقال: بان إعطاء المشتري للثمن وأخذ البائع له ليسا جزئين بل هما لازم للبيع، وقد يقال بانهما ليسا حتى لازمين بل هما أمران خارجان وهما (وفاء) وليسا جزء ولا لازماً لذا قد ينفكان عن البيع كما سيظهر من الثمرة.
وتظهر الثمرة في هذا الخلاف في مواطن، منها: النسيئة المعاطاتية والسلم المعاطاتي، فانه إذا أخذ الخبز مثلاً نسيئة ليوم أو لشهر فقد تحقق الإعطاء من البائع للمثمن والأخذ من المشتري ولم يتحقق إعطاء الثمن من المشتري ولا أخذ البائع له، فعلى رأي الايرواني قد تحقق البيع فتعمّه أحكامه من الخيار وغيره([9]) وعلى رأي النائيني لم يتحقق البيع لأن ركنيه الإعطاءان. وسيأتي تحقيق ذلك ومدى صحة هذه الثمرة لاحقاً بإذن الله تعالى، وعلى أية حال فان احتمال كون نثار العرس بيعاً معاطاتياً ليس بوارد حتى على مبنى الايرواني.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((مَرَارَةُ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَحَلَاوَةُ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ)) (نهج البلاغة: 512).
----------------------------------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص140.
([2]) الدرس (319).
([3]) وإن تصوُّر عدم الاهتمام بها، فتدبر.
([4]) أي لأنه ليس هناك طالب لذاته فلك تملّكه.
([5]) على كلام فصّلناه في بحث سابق.
([6]) الدرس (319).
([7]) المدخلية.
([8]) الدرس (319).
([9]) كتعلق الخُمس مثلاً بالمالك الفعلي. فتأمل