23- مناقشة استدلال الميرزا النائيني والسيد الخوئي على ان الموسع لا يزاحم المضيق
الاحد 28 ربيع الاول 1439هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(23)
وتفصيل الكلام حول المرجحات الأربع التي اعتبرها الميرزا النائيني في المجلد الرابع من الفوائد في (خاتمة: في التعادل والترجيح) من مرجحات باب التزاحم (إضافة إلى خامسها وهو الترجيح بالأهمية) والتي أخرجها من باب التزاحم في المجلد الأول في بحث التزاحم من الأوامر، هو:
أولاً: ترجيح ما لا بدل له على ما له البدل العرضي
وهما المعبر عنها بالموسّع والمضيق، فقد قال الميرزا النائيني: (المقام الثالث في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور:
(الامر الأول) ترجيح ما لا بدل له، على ما له البدل عرضا، كما لو زاحم واجب موسَّع له أفراد تخييرية عقلية لمضيَّق لا بدل له، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء، فان الواجب المضيَّق يقتضي صرف القدرة له في زمانه، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان، لأن المفروض انه موسع، فلا معنى لمزاحمته للمضيق، وذلك واضح)[1] ولا يخفى ان الاقتضاء في كلامه لا يراد به المعنى المصطلح وهو الملاك فان المقتضي هو ذو الملاك، بل كما فسره بـ(اقتضاء صرف القدرة إليه).
مناقشة مع النائيني في قوله بخروج ذلك عن التزاحم
ولكن يرد عليه: ان الواجب الموسع انحلالي ولذا كان الفرد المزاحم بالمضيَّق واجباً أيضاً – قبل تزاحمه مع المضيق - إلا انه واجب له بدل، ومقتضى وجوبه هو صرف القدرة إليه أي ان نفس كونه واجباً يعني ضرورة امتثاله بصرف القدرة إليه وكونه موسعاً لا ينفي وجوب هذا الفرد كي لا يقتضي صرف القدرة إليه فإذا اقتضى صرف القدرة إليه (ولو على سبيل البدل مع سائر الأفراد) لم يجتمع بما هو كذلك مع المضيق الذي يقتضي صرف القدرة إليه أيضاً، اللهم إلا أن يجاب بأن هذا اقتضاء لا بشرط وذاك بشرط مشرط فيجتمعان (كما سبق) لكنه جواب آخر غير دعوى انه لا يقتضي صرف القدرة إليه.
والحاصل: الفرق بين القول بانه لا يقتضي صرف القدرة إليه والقول بانه يقتضي صرفها إليه لكنه سنخ اقتضاء يجتمع مع اقتضاء المضيق.
ثم ان له ان ان يلتزم بان هذا الفرد من الموسّع غير مأمور به وانه ليس بواجب أصلاً مادام مزاحماً بالمضيق وغير قادر على أدائها لكنه خلاف مبناه إذ التزم بإمكان طلب الضدين (دون طلب الجمع بين الضدين) وانه لا محذور فيه عند عصيان الأهم فانه مأمور بالمهم لتحقق شرطه وبالأهم لعدم سقوطه بالعصيان فيلتزم بنظيره في المقام وانه عند عصيان المضيق يتحقق الأمر بالفرد من الموسّع المزاحم له أو يلتزم بالأكثر من ذلك – كما لعله ظاهر كلامه هنا – وانهما (المضيّق والفرد المزاحم له من الموسّع) مأمور بهما معاً من غير تنافٍ لأن الموسّع لا يقتضي صرف القدرة إليه.. الخ، فتأمل وتدبر – كما نقلنا كلامه سابقاً.
وعلى أي فانه لو رفع اليد عن وجوبه وعن شمول الأمر له لكان ذلك ببركة مزاحمة المضيق له، وهو معنى التزاحم، إذ رفع اليد عنه لمجرد عدم القدرة على الجمع، لكن هذا خلاف ظاهر كلامه ومفروضه، فتدبر.
وسيظهر وجه التأمل في كلامه أكثر بمناقشة الوجه الآتي.
استدلال السيد الخوئي على خروج هذه الصورة عن التزاحم
واما مصباح الأصول فقد علل خروجه من باب التزاحم بوجه آخر وهو:
قال: (ألف: البدل العرضي التحقيق أنّه خارج عن باب التزاحم رأساً، فانّ المحقق النائيني رحمه الله مثّل لذلك بما إذا وقع التزاحم بين الإتيان بالواجب التعييني وأحد أفراد الواجب التخييري[2]، كما إذا دار الأمر بين أداء الدين وبين الإطعام الذي يكون أحد خصال الكفارة، فيجب صرف المال في أداء الدين لعدم البدل له، وينتقل من الإطعام إلى بدله وهو الصوم.
وكذا الحال إذا دار الأمر بين الإنفاق على من تجب نفقته كالزوجة، وبين الإطعام المذكور، فيجب الإنفاق وينتقل من الإطعام إلى بدله، وهو الصوم.
نقول: أمّا التقديم المذكور فلا إشكال فيه، إلا أنّه ليس من باب التزاحم في شيء، لما ذكرناه سابقاً، من أنّ ملاك التزاحم إنما هو كون المكلف غير قادر على امتثال كلا التكليفين، بحيث امتثال أحدهما موجباً لعجزه عن امتثال الآخر، كما إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين، والمقام ليس كذلك، إذ التكليف في الواجب التخييري لم يتعلّق بخصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني، بل التكليف قد تعلّق بالجامع بين الأفراد، والمكلّف قادر على امتثال التكليف بالجامع في ضمن الفرد الذي لا يكون مزاحماً للواجب التعييني، فهو قادر على امتثال كلا التكليفين: التكليف بالواجب التعييني، والتكليف بالواجب التخييري.
وكذا المقام بعينه فيما إذا كان التخيير عقلياً، كما إذا كان أحد الواجبين موسّعاً والآخر مضيّقاً، فانّه وإن وجب تقديم المضيّق على الموسّع، ولو كان الموسّع في أعلى مرتبة من الأهميّة بالنسبة إلى المضيّق، كالصلاة بالنسبة إلى جواب السلام مثلاً، إلا أنّه ليس من التقديم في باب التزاحم، لما ذكرناه من أنّ الطلب متعلّق بالجامع والمكلّف قادر على الجمع بين الامتثالين بامتثال الواجب الموسّع في ضمن الفرد غير المزاحم)[3].
مناقشة استدلاله بوجوه ثلاثة
ولكن يرد عليه: أولاً: ان التكليف إذا تعلق بالجامع بين الأفراد كان متعلقاً بها حقيقة فان الجامع لا وجود له إلا بها (وإن لم تكن خصوصياتها الفردية مطلوبة) فالأفراد مطلوبة قد تعلق التكليف بها وإن كان بواسطة تعلقه بالجامع.
والحاصل: ان الجامع انحلالي والطبيعة توجد بوجود أفرادها – ولعله يأتي له مزيد إيضاح.
ثانياً: ان منشأ المغالطة هو الخلط بين بشرط لا ولا بشرط فان قوله: (إذ التكليف في الواجب التخييري لم يتعلّق بخصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني، بل التكليف قد تعلّق بالجامع بين الأفراد) إن أريد بـ(خصوص الفرد المزاحم...) كونه بنحو (بشرط لا) فانه لا شك في ان الواجب التخييري لم يتعلق به كذلك ولم يدّعِهِ أحد، لفرض انه تخييري ولو كان بشرط لا لكان تعيينياً هذا خلف، وإن أريد به كونه بنحو (لا بشرط) فلا شك في انه متعلق التكليف فان معنى الواجب التخييري هو ذلك (اي ان يقوم بهذا لا بشرط عن ان يقوم بذاك) لكن مع ضميمة انه يجوز تركه إلى قسيمه (على أحد الأقوال في تحقيق معنى الواجب التخييري).
ثالثاً: ليس مورد الكلام التزاحم بين الجامع والمضيق ليقال بانه قادر عليهما وليس بعاجز عن أحدهما؛ لأن الجامع مقدور عليه بمقدورية بعض أفراده، فتكون النتيجة انه لا تزاحم بينهما، بل الكلام إنما هو عن التزاحم بين المضيق وبين هذا الفرد من الجامع المزاحم له، ولا شك انه غير قادر على امتثال كليهما معاً بمعنى ان امتثال أحدهما موجب للعجز عن الآخر.
وبعبارة أخرى: ان استدلاله هو عليه لا له، إذ هو خروج عن مصب البحث إلى موضع آخر؛ فان الكلام هو عن تزاحم الفردين (المضيق والفرد من الموسع المضاد له) ولذا عبّر الميرزا النائيني بـ(ترجيح ما لا بدل له) وهو المضيق (على ما له البدل عرضاً) وهو فرد الموسع المضاد للمضيق، وليس هو الجامع فان الجامع لا بدل له بل أفراده لها البدل، وليس الكلام عن تزاحم الجامع والمضيق فان هذا الأخير لم يكن مورد البحث بل ولم يدّعه أحد. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((الْإِيمَانُ فِي عَشَرَةٍ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ وَالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ فَأَيَّهَا فَقَدَ صَاحِبُهُ بَطَلَ نِظَامُهُ)) كنز الفوائد: ج2 ص11.
[1] الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي، ج1 ص321-322.
[3] السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، مصباح الأصول، مكتبة الداوري – قم، ج1 ق2 ص67-68.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
[1] الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي، ج1 ص321-322.