67- تتمة مناقشة الاصفهاني والاستدلال بروايات على التفكيك بين مقام الاحتجاج ومقام الكاشفية، وبجواب الامام العسكري (عليه السلام) للفيلسوف
الاربعاء 8 جمادى الأولى 1437هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التعارض: (التعادل والترجيح وغيرهما)
(67)
روايات تبتني على التفكيك بين معنييي الحجة
كما ان بعض الروايات الأخرى صريحة في نفي الإطلاق الذي هو ظاهر ما أدعاه المحقق الاصفهاني من (إذ الحجة لا بد من أن تكون مناسبة لمورد المحاجّة والمخاصمة: فاذا ادعى المولى إرادة خلاف الظاهر مع الاعتراف بعدم نصب قرينةٍ لحكمةٍ أو لغفلةٍ كانت الحجة عليه ظهور كلامه)([1]).
فمنها ما ورد (في بعض مكاتبات أبي الحسن (عليه السلام): "وَلَا تَقُلْ لِمَا بَلَغَكَ عَنَّا أَوْ نُسِبَ إِلَيْنَا هَذَا بَاطِلٌ وَإِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ خِلَافَهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لِمَ قُلْنَا وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَصِفَةٍ.. ([2])" وعن أحد الصادقين (عليه السلام) قال: "لَا تُكَذِّبُوا بِحَدِيثٍ أَتَاكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ مِنَ الْحَقِّ فَتُكَذِّبُوا اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ" )([3]).
ليس كلام الإمام (عليه السلام) عن مقام الاحتجاج
وذلك لوضوح ان كلام الإمام (عليه السلام) ليس عن الحجية بمعنى الاحتجاج أي عن مقام الاحتجاج وليس ردعه عن المحاجّة والمخاصمة لصريح قوله (وإن كنت تعرف خلافه) فان ما يعرف المكلف خلافه، والمعرفة نص في العلم أو الاطمئنان على أقل الفروض، لا يجوز الاحتجاج به ولا هو منجّز أو معذر وأنه لا يصح الاحتجاج بظاهره ولا بمحتملات خلافه وتأويله: أما ظاهره فلفرض انه يعرف خلافه([4]) واما محتملات خلافه فلانها لا دليل عليها ولا يصح التمسك بالمجاز والتأويل من غير قرينة ودليل.
بل كلامه (عليه السلام) عن مقام الكاشفية
بل كلامه (عليه السلام) عن الحجية بمعنى الكاشفية أي عن مقام الكاشفية وانه حيث احتمل في الكلام المنسوب للإمام (عليه السلام) وجه حكمة في قوله كالتقية وشبهها " فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لِمَ قُلْنَا" فلعلنا قلناه تقيةً ولعلنا قلناه والمقامُ مقامُ تدرجيةِ نزولِ الأحكام فلم نذكر المخصص أو المقيد أو قرينة المجاز لذلك، وحيث احتمل ان له وجهاً مجازياً أو تأويلياً "وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَصِفَةٍ" لذا لا يجوز رد كلام الإمام (عليه السلام) في مقام الكاشفية، والمراد إنكار صدوره مطلقاً بحيث تسقط حتى كاشفيته الاحتمالية تبعاً لذلك وإبطال مضمونه واستناده إليه لأن ظاهره باطل إذ ما دام يمكن حمله على احدى المحامل الصحيحة، إمكاناً وإن لم يكن عليها دليل إثباتاً، فيكون محتمل الصدور ومحتمل الكاشفية بما له من المعنى المجازي عن الواقع أي محتملاً صحة مضمونه، فلا يصح تكذيبه.
وبعبارة أخرى: مفاد كلام الإمام (عليه السلام) "فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لِمَ قُلْنَا وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَصِفَة" ان الظاهر ليس كاشفاً قطعياً، مع وجود ذينك المحتملين عقلائياً، عن المراد الجدي لتطرحه سنداً وتقول هو باطل حيث لا مناص حينئذٍ من ذلك، بل هو كاشف ظني وحيث انه ظني وقد عرفت خلافه فلا يصح الاحتجاج به واتباعه لكن لا يصح في الوقت نفسه وصفه بالبطلان من حيث صحة المضمون([5]) لاحتمال كاشفيته لا بما له من الظهور بل بما له من العلة الخفية عليك التي لأجلها صدر الحديث أو بما له من الوجه الذي إليه يتجه وبه يوجه الكلام عن المراد الجدي للإمام (عليه السلام) فكيف تقول انه باطل؟
والحاصل: ان الإمام (عليه السلام) يقول حيث احتمل عدم نصبي القريني على وجه مرادي أو على علة قولي الواصل لكم عبر احدٍ مّا أو الذي تعرفون خلافه، فليس ظهور كلامي حجة لكم عليَّ ليقال انه حيث عرفنا خلافه فهو باطل خلافاً للاصفهاني الذي رأى – في إطلاق كلامه - في مثل ذلك ان ظهور كلام الإمام حجة عليه، لكن مقصود الإمام (عليه السلام) هو انه ليس ظهور كلامي حجةً عليَّ في مقام الكاشفية، كما أسلفنا، لا في مقام الاحتجاج كما مضى؛ فالإشكال على الاصفهاني مبنائي وان قصْرَه النظر على الاحتجاج يستلزم إسقاط ما روي عن الإمام (عليه السلام) مادام ذلك هو الجهة الوحيدة الملاحظة لصحة اعتبار السند إذ لو كانت الجهة الوحيدة وما امكن التمسك بها لكان اعتبار السند لغواً. فتأمل([6])
الاستشهاد بكلام المحقق القزويني
ويؤكد ما استظهرناه ما قاله المحقق السيد مهدي القزويني: (فان هذه الأحاديث الشريفة وغيرها مما جاء في أدلة التراجيح تدلّ على أنَّ المراد منها أنَّ الإنسان إذا سمع حديثاً عن آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان مخالفاً لرأيه وهواه، أو لما روي عنهم في معناه أو لم يدرك له معنى محصّلاً إمّا لإشكاله([7]) أو لقصور الفهم عنه أو لعدم موافقته للعقل([8]) أو الحسّ فلا يسارع إلى تكذيبه وردّه بل إن رأى له وجهاً صحيحاً أو تأويلاً قريباً وله شاهد بموجب القواعد اللغوية أو الأصولية أو من أخبارهم أو من الكتاب أو السنّة، حمله عليه، وإلاّ سكت عنه من غير قبول ولا ردّ لإمكان وروده على أمر لا يحتمله عقله أو سبب لم يظهر له وجهه من تقيّة أو غيرها)([9]).
مصبّ الروايات الرادعة عن التكذيب هو خبر غير الثقة أو المتهم
كما يؤكد ما سبق من حملنا روايات (عن أحد الصادقين (عليه السلام) قال: "لا تكذّبوا بحديث أتاكم به مرجئي ولا قدري ولا حروري ينسبه إلينا فإنّكم لا تدرون لعلّه شيء من الحق فتكذّبوا الله فوق عرشه"([10])، وفي آخر قال: قال الصادق (عليه السلام): "لا تكذبوا بحديث أتى به مرجئي ولا قدري ولا خارجي ينسبه إلينا فإنّكم لا تدرون لعلّه شيء من الحق فتكذبوا بالله"([11]))([12]) على ان المراد المرجئي والقدري غير الثقة أو الثقة المهتم في روايته هذه بقولنا (لوضوح ان الكلام عن الخبر غير الجامع للشرائط وإلا لوجب التصديق به بل هو عن خبر المرجيّ والقدري والحروري اما غير الثقة أو الثقة المتهم ولعل هذا هو الأظهر، وخبره لا يجوز الاحتجاج به)([13]) يؤكده([14]) ان تعليل الإمام (عليه السلام) صريح أو كالصريح في عدم كون كلامه عن المرجئي الثقة إذ لو كان عن الثقة منهم لوجب ان يقول (لا تكذبوا بحديث أتاكم به مرجئي... لأنه ثقة وكلام الثقة حجة) ولا يصح ان يعلل كلام الثقة الحجة شرعاً بـ("فإنّكم لا تدرون لعلّه شيء من الحق فتكذّبوا الله فوق عرشه" إذ الحجة لا يعلل عدم صحة تكذيبه بـ(لأنه محتمل المطابقة) بل لا بد من ان يعلل بـ لأنه حجة أو لأنه معتبر.
الوجه في اقتناع الفيلسوف الكندي بجواب الإمام العسكري (عليه السلام)
كما انه يدل على ما ذكرناه نظيره الآخر وهو جواب الإمام العسكري (عليه السلام) على شبهات تناقض القرآن التي انشغل بها الكندي الفيلسوف([15]) فان جوابه (عليه السلام) مبتنى التفكيك بين المقامين لوضوح ان التناقض يندفع باحتمال إرادة المعنى المجازي احتمالاً عقلائياً اما الحجية بمعنى صحة الاحتجاج فيه فلا تندفع باحتماله([16]) وحيث كان الفيلسوف في صدد إثبات التناقض الثبوتي بزعمه بين آيات القرآن الكريم أقنعه هذا الجواب، عكس ما لو كان في مقام مجرد الاحتجاج والجدال فانه لم يكن يكفيه حينئذٍ هذا الجواب بل كان لا بد من تتميمه بان القرآن صرح بان فيه آيات متشابهات وبان المحكمات هي المرجع (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)([17]).
وعليه: فلا يصح البناء في مقام الكاشفية على العدم إلا بعد إعمال أصالة عدم القرينة على الخلاف، وحيث ان صريح النص، حسب الروايات السابقة، ردع عنها فلا مجال لها؛ للنص الخاص ولا تجري لذلك، فتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
=========================
الاربعاء 8 جمادى الأولى 1437هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |