110- تتمة : (الانصراف) قد يكون موضوعياً لا محمولياً ب ـ سيرة المتشرعة من غير نكير على اقرار (الاقوال والاعمال) لغاية احقاق الحق، وانكارها اذا كانت لإبطاله ، لكن القدر المتيقن هو لطريقيتها لا لذاتها ، او لخبث السريرة، فتصلح قرينة مقامية تمنع انعقاد الاطلاق وفيه : انها لا بشرط ، لا بشرط لا ، والمثبتان لا يقيد احدهما الاخر ج ـ ادلة الرشوة ليست من الوضوح بحيث تصلح رادعة عن سيرة الناس في الاقوال والاعمال
الاثنين 16 رجب 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول موضوع الرشوة في المسألة السابعة والثامنة من تسلسل بحثنا وهي: هل إن الأقوال كمدح القاضي والأفعال كحضور المجلس لتكثير السواد عنده كي يحكم له بالحق أو بالباطل هي رشوة أو لا ؟
ذكرنا أن صاحب الجواهر رأى أنها رشوة ومحرمة، وزاد على ذلك أنها محرمة حتى لو لم تكن رشوة، وأما السيد الخوئي فقد ذهب إلى خلاف ذلك فرأى أنها ليست برشوة وغير محرمة، وأما السيد والوالد فقد فصل في المسألة فقال إن الأقوال والأفعال هي رشوة موضوعا إلا أنها ليست بمحرمة حكما،
وكذلك ذكرنا أن الأعلام الثلاثة لم يستدلوا على مدعياتهم، ولذا كان لابد أن نذكر ما يمكن ان يستدل وينتصر به لأقوالهم، ثم نناقشه حتى نصل إلى الرأي المنصور، ووصلنا في بحثنا الى كلام السيد الوالد في التفصيل، وقلنا انه يمكن ان ينتصر إلى ما ذهب إليه من قول بعدة وجوه، وكان منها الانصراف، لكن: ليس الانصراف الذي منشأه كثرة الوجود حتى يأتي الإشكال على ذلك صغرى وكبرى، كما إن منشأه ليس مناسبات الحكم والموضوع، فان هذا المنشأ للإنصراف وان كان صحيحا كبرى إلا انه غير منطبق صغرى[1],
بل: ان منشأ الانصراف هو كثرة استعمال لفظ الرشوة في غير الأقوال والأفعال وندرته فيهما مما يصلح أن يكون مانعا ومخلا بانعقاد الإطلاق من خلال إخلاله بالمقدمة الأولى من مقدمات الحكمة وهي انه لا يحرز – والحال هذه – أن المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وهذا بعض التوضيح والإضافة لما مضى.
إشكال: (الإنصراف) يفيد: مجازية إطلاق الرشوة على الأقوال والأفعال، لا عدم الشمول الحكمي
ولكن هذا الوجه من الانصراف وان كان تاما ظاهرا، إلا انه قد يشكل عليه بانه غير مجد لتصحيح التفصيل الذي ذهب إليه السيد الوالد ؛ وذلك إن مؤدى هذا الوجه هو عدم الصدق الموضوعي، وليس عدم الشمول الحكمي رغم الصدق الموضوعي،
هذا ما قد يستشكل به على الانصراف المدعى، فانه لو ثبت – كما هو الظاهر - كثرة الاستعمال كثرة بالغة جدا في غير الأقوال والأفعال، وثبت كذلك ندرة الاستعمال فيهما، فان ذلك قد يكون قرينة على أن الاستعمال فيهما, أي الأقوال والأفعال مجازي من دون وجود ما يدل على الوضع الحقيقي لهما ؛و الاستعمال اعم من الحقيقة.
وبعبارة أخرى: إن الاستعمال في الرشوة في الأقوال والأعمال لا يثبت انه حقيقة فيهما، خاصة مع ندرته بل قد يكون الاستعمال لعلاقة مصححة فيكون مجازيا ؛ والأدلة لإثبات كون لفظ رشوة فيهما حقيقيا غير جارية، بيان ذلك:
الأدلة الدالة على كون المعنى حقيقياً هي أربعة :
أما التبادر فانه غير ثابت في المقام، فان الظاهر انه لا يتبادر من الرشوة: الأقوال والأفعال، ولذا كنا قد احتجنا الى تعمل وتأمل لهكذا استعمال، أي استعمال الرشوة فيهما، ويؤيده اختلاف الفقهاء فيهما، وعليه فلا يعلم على الأقل وجود التبادر في المورد.
وأما العلامة الثانية فهي صحة الحمل، وهذه كذلك لا يعلم ثبوتها إذ لم يحرزان لفظ الرشوة يحمل عليهما بدون عناية،
وأما العلامة الثالثة وهي عدم صحة السلب فكذلك، فان الأقوال والأفعال يصح ان يقال ليست برشوة، أو لا يعلم حالها على الاقل.
وأما العلامة الرابعة وهي الاطراد فكذلك لا يعلم ثبوته في المقام أيضا[2] فتأمل, نعم لو أحرزت علامة واحدة من هذه العلامات الأربع فان الانتصار للتفصيل بهذا الوجه سيكون تاما[3], هذا هو الوجه الثاني من وجوه الانصراف وهو كثرة الاستعمال وما يرد عليه من إشكال
الدليل الثاني على القول بالتفصيل : السيرة على الإنكار والاقرار، قرينة حافة مخلة بالإطلاق
ذكرنا أن تفصيل السيد الوالد يمكن أن يستدل له بالانصراف، هذا أولا، وأما ثانيا فانه يمكن أن يستدل عليه بالسيرة بكلا شقيها، أي شق الإنكار وشق عدم الإنكار.
بيان ذلك :
قد يستدل بان السيرة هي بمنزلة القرينة المقامية الحافة بأدلة تحريم الرشوة فتمنع انعقاد الإطلاق فيها فتكون الأقوال والأفعال رشوة ولكنها نظراً للسيرة الحافة، غير محرمة لقصور الدليل – لو تم هذا الوجه –، فانه توجد في المقام سيرتان :
أما السيرة الأولى من المتدينين فهي على عدم إنكار الأقوال كمدح القاضي إذا كانت بالحق وللحق، او الأعمال كحضور الجنازة توصلا إلى الحكم بالحق، فانهم لا ينكرون على من فعل ذلك
إذن: السيرة في هذا الشق هي على عدم الإنكار بل هي على الإقرار لهكذا عمل،
وأما الشق الأخر والسيرة الأخرى فهي على الإنكار لو ان هذا الشخص توصل بالفعل او القول الى إبطال حقٍ - او إحقاق باطل – أي انه مدح القاضي كي يحكم له بالباطل، فان المتدينين ينكرون ذلك منه، وهذه السيرة ثابتة وواضحة ولا شك فيها.
وجه الاستدلال بالسيرة:
ويظهر وجه الاستدلال بالسيرة هنا من خلال التدبر وذلك:
إن الشق الثاني من السيرة يظهر بالتدبر فيه: ان الإنكار منهم أي المتدينين إما لسوء نية الشخص وخبث سريرته، وإما انه لما يتوصل بالرشوة إليه من غاية باطلة، ولا يعلم جريان وثبوت السيرة على الإنكار على الفعل بما هو هو ؛ وذلك إن السيرة هي عمل والفعل لا وجه له، إذ المشاهد هو أن المتدنيين ينكرون على من يستخدم الأقوال والأفعال لإبطال الحق ولكن وجه ذلك اما هو الموضوعية في نفس الفعل؛ فان الرشوة لها الموضوعية في التحريم[4], او سبب إنكارهم هو ما يتوصل إليه بها على نحو الطريقية، او بحسب خبث سريرته وسوء نيته
وبعبارة أخرى: ههنا ثلاثة أشياء متسلسلة:
الأول:هو خبث النية.
والثاني :هو الفعل او القول الصادر من الشخص.
والثالث :هو الغاية المتوخاة من ذلك.
وهنا نقول: ان القدر المتيقن من إنكار المتدنيين هو الأمر الأول والثالث، وأما الثاني فلا يعلم كون الإنكار لأجله، بل قد يستظهر أن الإنكار ليس بسببه ؛ وذلك ان المقدمة بما هي هي لا لون لها وإنما تتلون بلون ذيها من حرمة او غيرها، والمدعى في المقام هو إثبات الحرمة للفعل –من قول او فعل - في حد ذاته، لا بلحاظ مقدميته وطريقيته،
ولو كان الأمر كما بيناه فنقول:
إن السيرة قرينة مقامية تصلح للإخلال بالإطلاق المدّعى في أدلة تحريم الرشوة؛ لأنها لا تدل على حرمة القول والفعل من حيث هو هو بل لا تدل على أكثر من الحرمة فيما لو كان مقدمة موصلة من حيث إيصالها[5], فلا يعلم - والحال هذه - انعقاد الإطلاق في الأدلة لشمول الأقوال والأفعال،
وبتعبير آخر: ان المقدمة الأولى من مقدمات الحكمة قد اختلت وهي ان المولى في مقام البيان من هذه الجهة
المناقشة: السيرة أخصٌ مثبت فلا يقيد الدليل الأعم
ويوجد حول هذا الوجه نقاش قد اشرنا اليه في مبحث آخر ولو تم هذا النقاش لما ثبتت قرينية السيرة ومانعيتها من انعقاد الإطلاق
بيان ذلك:
إن غاية ما تثبته السيرة بهذا البيان[6] هو حرمة الأفعال والأقوال بلحاظ مقدميتها وترشح الحرمة عليها من ذيها[7], لكنها لا تنفي الأكثر من ذلك، والمخل بالإطلاق هو وجود قرينة قولية او مقامية نافية للأكثر والزائد، فهل السيرة الثانية – الشق الثاني - تنفي الموضوعية للأفعال والأقوال من حيث كونها رشوة محرمة؟
والجواب : لا فان غاية ما تثبته السيرة هي جهة الطريقية والمقدمية، فبلحاظ ما أراد الشخص به إحقاق الحق فهو جائز وحلال، و بلحاظ ما أريد به إحقاق الباطل فهو حرام، والسيرة ساكتة عن الأكثر فهي لا بشرط، والصالح للتقييد هو ما لو كانت بشرط لا.
وبتعبير آخر : سلف فيما مضى أن بينا إن العام والخاص وكذلك المطلق والمقيد المثبتين لا يقيد احدهما الآخر، فغاية الأمر ان السيرة تدل على حرمة الأفعال والأقوال في صورة خاصة لا مطلقا، وأما الأدلة فإنها تدل على الحرمة بقول مطلق, ومعه فلا تقيد السيرة الخاصة الأدلة العامة، فلا يمكن ان ننتصر بذلك للتفصيل (كونها رشوة ولكنها محللة).
الوجه الثالث[8]: أدلة حرمة الرشوة لا تصلح للردع عن السيرة المستحكمة
الوجه الثالث للانتصار للقول بالتفصيل هو:
إن سيرة العقلاء وسيرة المتينين جرت على استخدام الأقوال والأفعال للتوصل الى إحقاق الحق او إبطال الباطل، هذا من جهة، ولكن من جهة أخرى فان سيرة الكثير من العقلاء والمتدينين (لا بما هم عقلاء ومتدينين) جرت على استخدام الأقوال والأعمال للتأثير على القاضي كي يبطل الحق او يحق الباطل، وهذه سيرة عملية جارية لا شك فيها على ارض الواقع وقوية، وهنا نقول إن الروايات التي دلت على حرمة الرشوة ليس الردع فيها بدرجة من الوضوح والشدة كي تكون صالحة للوقوف بوجه هذه السيرة المستحكمة من قبل العقلاء والمتدينين لردعهم عن الأقوال والأفعال، بما هي هي، وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - وهذا يظهر بالتأمل
[2] - وهذه هي العلامات الأربعة لتميز المعنى الحقيقي من المجازي
[3] - وكما هو واضح: لو كان دخول الأقوال والأفعال في عنوان الرشوة موضوعا وبالصدق الحقيقي وكونها حقيقة فيهما فسيأتي تفصيل السيد الوالد ويكون وجيها، ولكن مع احتمال المجازية فلا يتم الوجه
[4] - كما هو ثابت بالآيات والروايات والإجماع
[5] - والحال ان الأقوال والأفعال لاستنقاذ حق ستصطبغ كمقدمة بذيها
[6] - بشقيها وان كان الشق الثاني هو بيت القصيد في الحديث
[7] - إما عقلا او ونقلا على الخلاف
[8] - وهذا وجه دقيق ولطيف وهو أقوى من الوجه الثاني ولعله أقوى من الأول كذلك
الاثنين 16 رجب 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |