بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول قاعدة الإلزام,والاستدلال عليها بالروايات ؛ وذلك لتثبيت صحة مضامين تلك الروايات بالقرائن العامة، ووصلنا إلى قرينة مخالفة العامة، وذكرنا إن أدلة قاعدة الإلزام من حيث النتيجة والثمرة موافقة للعامة، وانها من حيث اصل التشريع هي مخالفة لحكمحكامهم وقضاتهم وسلاطينهم، وقد تكون مخالفة لفتاوى فقهاؤهم، هذا ما مضى.
التقية في الصدور أو في الصادر:
وبحثنا الان هو بحث دقيق يتعلق بكلا البعدين والشقين – العملي والتشريعي –،
اما الشق الاول – العملي –: فقد قلنا ان نتيجةقاعدة الالزام هي مسايرة العامة والموافقة لهم وذكرنا الرواية التي تدل عليها قد تكون من باب التقية، ومادامت القاعدة بهذا الشق موافقة لهم فستكون هذه الموافقة مضعفة وموهنة لقاعدة الالزام ؛لان هذه الموافقة ستولد اشكالا من ناحية الصدور والجهة، وعليه ستكون الروية غير صادرة لبيان الحكم الواقعي،
وبتعبير اخر: هي ليست بحجة من هذه الجهة.
جواب الاشكال:
ونجيب عن الاشكال بنكتة ظريفة ودقيقة وهي:
ان الموافقة للعامة قد تكون مضعفة ومسقطة للحديث,وقد تكون مقوية للرواية ومثبتة لها, وهذا الكلام غريب للوهلة الاولى الا اننا سنبين انه على مقتضى القاعدة.
مع لحاظ تطبيق ذلك على صغرى المقام وهي (ان قاعدة الالزام مطابقة للتقية، من حيث النتيجة والعمل، كما سبق).
ذلك ان التقية تارة تكون في الدال و وتارة تكون في المدلول، والتقية في الدال هي التي تسقط الحديث عن الاعتباروالحجية جهورياً؛لان الامام (عليه السلام) ليس بصدد بيان الحكم الواقعي بل ولا حتى الظاهري، بل كلامه مجرد صورة ولفظ نظير الأمر الامتحاني، واما التقية في المدلول فليست كذلك، بل هي تثبت الحكم الواقعي الاولي اولا,ثم الحكم الواقعي الثانوي ثانيا،
وبتعبير اخر: تارة التقية تكون صفة للقول والحديث، وتارة تكون صفة لمتعلق ذلك, فلو كانت التقية في القول فهي مضعفة وموهنة، واما لوكانت في المتعلق فهي مثبتة ومقوية،
وبتعبير اخر لزيادة البيان:
تارة يكون الصادر تقية، وتارة اخرىيكون الصدور تقية، والفرق كبير بينهما، وروايات الالزام هي من القسم الأول والتقية فيها من جهةالحكم والمدلول الصادر
ونمثل لذلك بمثال:
فلو قال الامام ع لزرارة مثلا – او من في مجلسه من اصحابه – (افطر عند الغروب)، فهنا احتمالان:
الاحتمال الاول: ان قول الامام (عليه السلام) وارد مورد التقية، أي قول على تقية؛وذلك لان في المجلس شخصا يحذره الامام (عليه السلام)، وفي هذا المورد فانه لايجوز لزرارة ان يفطر عند الغروب اعتمادا على قول الامام (عليه السلام)؛ لان التقية هي في الصدور، والامام (عليه السلام) مجبور على قول ما قال من حكم.
الاحتمال الثاني: وتارة اخرى، يكون الصادر تقية، أي يكون الحكم من الامام (عليه السلام) لأجل التقية، أي: ان الامام (عليه السلام)لاحظ حال زرارة وانه سيتعرض للخطر كأن يسجن مثلا لو صام ثم انتظر المغرب ليفطر من صيامه، فيقول له الامام (عليه السلام): (افطر عند الغروب)، وهنا زرارة ملزم بالعمل بذلك وبالإفطار عند الغروب.
والخلاصة: ان التقية تارة تكون صفة للصدور والقول، وتارة اخرىصفة للمتعلق والحكم الصادر والفرق بينهما كبير.
ومثال اخر:
لو ان الولي،كالمولى، قال لشخص وكيل له: (بع داري), فلو كان المورد مورد اكراه، فهنا احتمالان:
1- تارة الولي هو المكره في نفس هذا القول (بع داري)؛وذلك لوجود احدهم مهدد له ان لم يبع، الا ان الوكيل لو لم يبع، سوف لا يعلم المهدِّد المكره ولا يترتب عملياً على عدم البيع شيء؛ولذا فليس عليه بل ليس له أن يبيع.
2- وتارة اخرى، يقول الولي للوكيل:(بع داري)، ولو لم يبع لقتل، وهنا التقية في المتعلق ويجب على الوكيل البيع،
وفي مورد بحثنا:
فان مفاد قاعدة الالزام هو موافق للعامة من حيث الثمرة العملية، وهذه التقية هي في المتعلَّق والصادر، ونحن مكلفون بها، ولو لم نعمل لخالفنا التقية والحكم الواقعي، ولذا فان التقية هنا مؤكدة لصدور مثل (الزموهم بما الزموا به انفسهم) قد وردت تقية للحفاظ علينا نحن الشيعة الامامية،
ولذا فان في هكذا مورد يوجد امران:
اولا: حكم واقعي اولي
ثانيا: حكم واقعي ثانوي من جهة التقية
وكون الحكم (المتعلَّق والصادر) موافقاً للعامة، يؤكد كلتا الجمعتين، ولا ينفي الجمعة الثانية. فتأمل
*علامة اخرى للتفريق بين الموردين:
ونذكر علامة اخرى للتفريق بين الموردين، وهو ان التقية في المورد الاول – أي في الصدور- ترتفع بنفس القول وبعد ذهاب ذلك المخالف المنافق فلا تقية.
واما التقية في الصورة الثانية – أي في الصدور – فإنها لا ترتفع بصدور الكلام من الإمام (عليه السلام) بل إنما ترتفع بنفس العمل بالنسبة للمكلف خارجا.
تتمة إيضاحية
بقي في روايتنا المزبورة - "هل نأخذ في احكام المخالفين. ...."-بحثان:
الأول بحث سندي والآخر بحث دلالي:
اما البحث الدلالي، فقد اشرنا الى بعضه سابقا، ونكمل الان بعض الكلام فيه – وتحقيقه سياتي -: مع تسليم هذه الرواية ظاهرة في المقاصة النوعية، فماهي النسبة بينها وبين قاعدة الإلزام؟
والجواب:
انه توجد ثلاثة احتمالات:
1- ان النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه.
2- النسبة هي العموم والخصوص المطلق والالزام اعم مطلقا
3- المساواة .
فان كانت النسبة من وجه، فلايستدل بهذه الرواية على قاعدة الالزام، وان كانت النسبة العموم والخصوص المطلق فان ذلك يثبت قاعدة الالزام في بعض الموارد.
نكتة دقيقة:
وهنا لفتة دقيقة، وهي ان النسبة لو كانت بين القاعدتين هي التساوي – والبعض يستظهر ذلك –، فهل يمكن اثبات مضمون روايات الالزام بروايات التقاص النوعي اولا ؟
الجواب:
ان الجواب عن هذا السؤال يعتمد على بحث مهم ولطيف في حد ذاته – وهو كبرى لبحثنا – وهو:
انه لو كان هناك عنوانان متباينان مفهوما متساويان مصداقا، فهل يصلح احدهما دليلا على الاخر؟وهل يسري المحمول الثابت للعنوان الى مصاديقه؟ فلو قلنا بالسراية فالاحتجاج تام والا فلا، والتحقيق ان ذلك يتوقف على التفريق بين الحمل الذاتي الأول والحمل الشائع الصناعي، وان ما أريد إثباته هل هو كون ذاك العنوان الآخر ملاكا للحكم، كالعنوان الأول، فلا، أو مجرد واسطة في الإثبات، فنعم، ولعلنا نفصل ذلك لاحقاً إنشاء الله تعالى.
واما البحث السندي: طريق الشيخ إلى ابن فضال
وهو انه يوجد اشكالان يمكن ان يوردا على الرواية من الناحية السندية ؛ فان الشيخ الطوسي (قدس سره)يروي الرواية عن علي بن الحسن بن فضال، وهو لا اشكال فيه فانه ثقة دون كلام كما سبق إذ قد وثقه النجاشي أبلغ التوثيق وكذا الطوسي وغيرهما ولكن طريقه اليه فيه ابن عبدون – احمد بن عبد الواحد -، والاشكال الاخر ان في الطريق علي بن محمد بن الزبير وكلاهما لم يوثقا.
جواب الاشكالين:
الجواب الاول:
اما ابن عبدون فالبعضقد وثقه كصاحب المعجم وغيره وذلك لأنه من مشايخ النجاشي، واما ابن الزبير فقد وثقه جماعة منهم الشيخ البهائي وصاحب المدارك قال في منتهى المقال (عدّ الشيخ البهائي والسيد محمد في المدارك، روايته في الصحيح) وكذلكهو من شيوخ الاجازة، والمشكلة التي فيه ان الشيخ النجاشي ذكر عنه: (كان علوا في الوقت) واختلف الاعلام في معناها، وما المراد منها؟ فالبعض رأى انها تدل على غاية الجلالة والتوثيق، واما البعض الاخر فقد رأى انها اجنبية عن ذلك .
أقول: بل لو ثبت رمي النجاشي له بالغلو، فانه لا يعتد به، لان للنجاشي مسلكاً مبنائياً في الغلو، غير تام، فتضعيفه لا حجية له، وسنفصل ذلك لاحقاً بإذن الله، وقد أشار إلى ذلك أو فصّله عدد من علماء الرجال وغيرهم.
الجواب الثاني:
الجواب الثاني ان للشيخ الطوسي طريقا اخر صحيحاً كما ينقل ذلك صاحب جامع الرواة (المحقق الاردبيلي) حيث يقول:
ان للشيخ اليه – أي الى ابن فضال – طريقا صحيحا في التهذيب، وعلى ذلك فالرواية معتبرة وبمراجعة التهذيب وجدنا السند التالي (ما اخبرني به جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى عن أحمد بن محمد بن سعيد عن (علي بن الحسين)، وأحمد بن عبدون عن علي بن محمد بن الزبير عن (علي بن الحسن) عن عبد الرحمن بن أبي نجران... الخ وقال الكاظمي في مشتركاته (باب علي بن الحسن... ويعرف انه ابن علي بن فضال الموثق، برواية أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقده عنه) ورواية علي بن محمد بن الزبير القرشي عنه.
وللكلام تتمة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين