44- تتمة البحث عن رواية (ما حك في صدرك ) سنداً والجواب عن شبهة ان (الضابط) غير (منضبط) ـ النسبة بين الاثم والمعصية ، وانه لو لم تعلم فهل يصح التمسك بـ (لا تعاونوا ) مع عدم إحراز كونها معصية ؟
الاثنين 10 صفر 1434هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول قوله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، وان الاستنباط منها موقوف على تحقيق عدة عناوين، ومنها الإثم، وذكرنا في تحقيق هذه العنوان أقوالاً مختلفة، ووصلنا إلى تعريف صاحب مجمع البيان حيث ذكر معنى نسبه إلى قوم، واستشهد على ذلك برواية النبي الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم)، وهي (الإثم ما حك في صدرك)، وكذلك بينا ان هذه الرواية وان كانت مرسلة إلا إنها تتقوى مضمونا بروايات أخرى مشابهة فتحظى بوثاقة الخبر وان لم تتوافر على وثاقة المخبر، هذا ما مضى .
تتمتان في المقام: ولتتميم البحث فإننا نضيف تتمتين مهمتين:
الأولى: في اللغة لا يبحث عن السند فالرواية نافعة
انه لو ثبت ان هذه الرواية مرسلة أولا ، ولو لم نقل ان مراسيل الثقاة حجة ثانيا، ولو لم نقل بان مضمونها متقوِّ بما يعضدها من الروايات ثالثا، فبرغم كل ذلك، فان هذه الرواية لا تسقط عن القيمة بالمرة ؛وذلك لأنها ستكون حينئذ قولا من الأقوال لبعض اللغويين غاية الأمر انه عدّ الرواية مصداقاً شاهداً لهذا المعنى، ونحن نجد من ملاحظة حال الفقهاء ومطلق العقلاء انهم في كلمات اللغويين لا يبحثون عن سلسلة السند، ولا نجد لغويا ذكر سلسلة سند فلاحظوا تاج العروس ولسان العرب ومجمع البحرين والعين وغيرها، إلا انه مع ذلك فان قول اللغوي نرجع إليه، لا من باب التعبد بقوله، ولكن للاستضاءة برأيه باعتباره انه من أهل الخبرة، وكما هو واضح فان دأب المجتهدين كافة هو الرجوع إلى أهل اللغة من باب الاستنارة بأقوالهم، لا للإتباع الأعمى والتقليد المطلق,
والخلاصة: اننا حتى لو لم نقبل بالمقدمات الثلاث المذكورة لتصحيح الرواية خبرا او مخبرا، فان الرواية ستكون ذا فائدة ؛ لأنها قول من الأقوال، فلو وجدنا بعد ذلك شواهد تؤيد ما في الرواية واطمأننا بذلك فبها وإلا فلا،
وعليه فالرواية لا تسقط عن القيمة بالمرّة، بل تبقى في دائرة الخيارات المتاحة لفهم معنى (الإثم)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ان صاحب مجمع البيان قد نقل هذا التعريف عن قوم وعضده بالرواية المذكورة فيكون وزانه وزان سائر أقوال اللغويين مما يفيد الاستنارة المبدئية، ثم بعد ذلك يتم التحقيق في المعنى.
الثانية : هل الريب وما حك في الصدر شخصي أو نوعي؟
ان الضابط الذي ذكره النبي (صلى الله عليه واله وسلم) – على فرض صحة النسبة – في الرواية وهو ( ما حك صدرك)
هذا الضابط قد يستشكل عليه بأنه ضابط غير منضبط ؛ فان (ما حك في صدري) هو غير (ما حك في صدرك)، وهما قد يكونان غير (ماحك في صدر الآخر)، فقد نجد واحدا يتحرج من الموسيقى وهي تسبب له اضطرابا في نفسه، ولكن الحال في الشخص الآخر لا يكون كذلك، وكذلك نجد ان رجلا قد يحك في صدره بيع وشراء الصبي للأمور الخطيرة، ولكن الآخر ليس كذلك، وهكذا،
وعليه فأي ضابط أُرجعنا إليه؟ ومآل هذا إلى تضعيف الرواية نظراً لورود إشكال على المضمون.
الجواب: الوارد في الرواية الضابط النوعي لا الشخصي
ونجيب عن ذلك فنقول: ان هذا الإشكال ليس بوارد وذلك للوجه الآتي مع ضميمة متمم له,
أما الوجه، فانه تارة يقال بان ما حك في صدر الشخص بما هو شخص هو الضابط، ولو كان الأمر كذلك، فان هذا الضابط ليس بمنضبط؛ لأنه يلزم كونه مختلفا باختلاف الإفراد، فان الأشخاص يختلفون من حيث الخلفيات المعرفية والفكرية والبيئية وكذلك من جهة التراكمات الثقافية وغيرها، ولكن لو كان الضابط هو ما حك في صدر النوع، فانه سيكون ضابطا منضبطا وصحيحا، كما هو الحال في الظواهر, فإننا عندما نقول :الظواهر حجة، فقصدنا من ذلك الظواهر لدى النوع لا الشخص، وإلا فقد يرى الشخص اللفظ في معناه نصا والآخر يراه ظاهرا، والآخر يراه مجملا، والحاصل ان المراد من (الظاهر) الظاهر لدى النوع وإن كان الظن الشخصي على الخلاف.
وفي مورد بحثنا، أي (ما حك في صدرك), الأمر كذلك، أي :ماحك في صدر المتشرعة ونوع المتدينين فهو إثم، وهذا هو ما يعبر عنه بارتكاز المتشرعة، وعليه بناء الفقهاء في الكثير من المسائل .
إشكال: ضمير الخطاب ظاهر في الضابط الشخصي
وهنا قد يرد ان الرواية تقول: ماحك في صدرك، والظاهر منها ان الضابط شخصي وليس بنوعي
الجواب: الشخص هو مرآة للنوع
ونقول في جواب الإشكال – وهو متتم الوجه المتقدم -:
انه وان كان ظاهر الرواية هو ان الضابط شخصي بقرينة الضمير، ولكن الشخص لم يلحظ بما هو شخص، وإنما لوحظ بما هو مرآة لنوعه، وهذا نظير دعوى الفقهاء في الفهم العرفي من الكلمة حيث انهم يلتجئون الى الفهم العرفي في تحديد سعة المفهوم وضيقه حيث ان العرف هو المرجع في المفاهيم ولكن لا يعني ذلك ان لا نعتمد على ذهن الفقيه وفهمه، بدعوى انه شخص من الأشخاص وليس الملاك الفهم الشخصي؟ بل عليه ان ينطلق إلى السوق ليستبين ويستطلع العرف هناك ثم يحدد بعدها المفهوم، إلا إننا نجد ان الفقيه لا يصنع ذلك بل ليس ذلك بمطلوب منه ؛ وذلك لأن فهمه مرآة لفهم العرف، وبهذا اللحاظ ينطلق بتفكيره وفهمه بملاك عرفي ؛ حيث انه ولد في نفس بيئة العرف وعاش فيها، فهو يفهم نفس ما يفهمه العرف ويستظهر ما يستظهرون، وبناء العقلاء على ذلك حيث انهم يرون ان ما يرتكز في الذهن السليم وما يستظهره هذا الذهن – غير المشوب بالتشكيكات الكثيرة – هو مرآة للآخرين
اذن : ماحك في صدرك وان كان الخطاب للشخص إلا انه بلحاظ المرآتية للنوع
النسبة بين الإثم والمعصية
قلنا فيما سبق ان من تعريفات الإثم هو (المعصية)، وقد ناقشنا بعض النقاش حول ذلك وهنا نضيف: لا ريب في ان كل معصية هي إثم، ولا شك من هذه الجهة ولكن الشك هو من الجهة الأخرى، فهل كل إثم هو معصية؟
وجوابه: القدر المتيقن من الإثم، المعصية
ذكرنا فيما سبق عدة أقوال بعدم المساواة بين الإثم والمعصية، منها ان الإثم هو كل مبطِّئ عن الخير، وهذا يشمل المكروه، والمكروه ليس بمعصية، ومنها ان الإثم هو فعل القبيح الذي يستتبع اللوم، وهو اعم من المكروه، بل هو اعم من ترك الأولى أحيانا، ومن هذه الأقوال أيضا إن الإثم هو ما تنفر منه النفوس، وما تنفر منه النفوس اعم من المعصية والحرام فان كثيرا من المكروهات كذلك , وهنا لو اطمأن الفقيه أو المحقق للمعنى الأعم للاثم فبها وإلا اقتصر على القدر المتيقن منه وهو المعصية، ومآل ذلك إلى أن الإثم هو المعصية، ولكن لا من باب الترادف المفهومي، بل من باب القدر المتيقن.
الثمرة الفقهية للنتيجة :
والثمرة الفقهية المتحصلة على ضوء الآية وبناءا على نظرية ان المعصية هي القدر المتيقن للإثم، فإن الثمرة تبقى كبيرة ومهمة ؛ وذلك لأننا لو رجعنا الى العرف فوجدنا صدق عنوان الإثم لديهم على موضوع وعنوان كحفظ كتب الضلال فرضاً، فإن الموضوع قد تحقق بنظر العرف، وعليه فان آية (وَلا تَعَاوَنُوا )ستشمل مسألتنا وهي حفظ كتب الضلال، وان لم نحرز صدق عنوان انه معصية – وهنا بيت القصيد- .... لماذا؟
وذلك لان كلمة المعصية تستبطن وجود أمر او نهي سابق- بدلالتها التضمنية –، ولكن الإثم ليس كذلك في حد ذاته؛ ولذا فان العرف يمكن ان يرى شيئاً من الأشياء انه إثم، إلا انه يتردد في الحكم على كونه معصية أو لا، ومن صغريات هذا الكلام لدى التحليل إن الإثم ينطبق على كل المستقلات العقلية وان لم يرد فيها نهي شارعي فهي إثم، ولكنها ليست بالمعصية الاصطلاحية، أي : ليس هناك أمر أو نهي عصاه المكلف، و المشهور يرون انه لا يمكن للشارع ان يأمر أو ينهى في موطن المستقلات العقلية، بل انه مرشد لا غير
والمتحصل: انه لو صلنا الى نتيجة ان القدر المتيقن من الإثم هو المعصية، إلا ان دائرة الإثم بلحاظ الآية تبقى أوسع من دائرة المعصية، وهذه نقطة دقيقة ولطيفة فتأمل .
المدار في المفهوم هو العرف لا التحديدات المبتدعة
ونذكر توضيحا مهما في المقام وهو ان كثيرا من الناس وأحيانا الفقهاء يقعون في مطبِّ تعريفِ مفهومِ موضوعٍ قد ورد في رواية من الروايات، ثم بعد ذلك يدورون حول هذا التعريف المبتدع منهم سعة وضيقا، وهذا خطأ منهجي؛ لان حدود التعريف قد لا تطابق المعرَّف أي ما هو في عالم الثبوت وعند الله تعالى قد أخذ موضوعاً.
إذن: ينبغي أن تدور الأحكام مدار صدق العنوان الشرعي نفسه,
فمثلا: قوله تعالى: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) نجد انهم قد عرفوا البيع: بمبادلة مال بمال، ثم بعد ذلك لو جعل المدار في البحث على (مالٍ بمال) أو على مالية الشيء, فانه خطا منهجي وعلمي؛ لان هذا التعريف لم يرد في الآية ولا في الرواية حيث ذكرت البيع فقط، وهو مفهوم عرفي يؤخذ منهم سواء انطبق على ما له مالية أو لا بأن انطبق على ما لا مالية له، فانه والحال هذه – فرضا – بيع، والأوضح من ذلك انه لو رأى العرف (مبادلة حق بحق) انه بيع فهو مشمول للآية، وهذه مسألة ابتلائية فان بعض الفقهاء يرون شمول البيع لمبادلة حق بحق كما في بيع حق الطبع والاختراع أو بيع حق الاختصاص أو ما أشبه من الحقوق القابلة للنقل صلحاً وبيعاً وغيرهما.
فلو جمد الفقهاء على التعريف وقالوا انه مبادلة حق بحق، فنجيبهم بان الأمر متروك للعرف وهو المرجع في سعة أو ضيق مصطلح البيع وانه يشمل – مفهوماً - بيع الحق بالحق أو لا،
والخلاصة: ان هناك كبرى كلية وهي ان المدار في شمول الحكم للموضوع هو صدق هذا الموضوع بنظر العرف بما هو هو على المصداق، لا صدق تلك التعريفات المخترعة،
وفيما نحن فيه فإن الآية (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ) وليس (ولا تعاونوا على المعصية) حتى ندور مدار صدق المعصية وللكلام تتمة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
الاثنين 10 صفر 1434هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |