232- تتمة الثمرة الثانية : القران الكريم في إعجاز فريد جمع بين القضايا الحقيقية والخارجية عبر معادلة الظهر والبطن ومعادلة شأن النزول ـ بحث مصداقي في قضية خارجية : ملا صدرا فيلسوف او عارف او صوفي؟
الاربعاء 16 ربيع الثاني 1434هــ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول ثمرات القضية الحقيقية والخارجية، والتمييز بينهما وعن ملخص نتائج البحوث السابقة مع الإضافة, وقد ذكرنا ان الثمرة الثانية هي ان القضايا الحقيقية تقال في مقام التشريع الكلي وأما القضايا الخارجية فتقال في مقام التشخيص, بتعبير اخر: مقام التشريع الكلي، ثبوتاً والتعليم إثباتاً، هو مقام القضايا الحقيقية واما في مرحلة ومقام الفتوى من جهة ومقام التشخيص والحكم من جهة ثانية فان القضايا الخارجية هي التي تُنشأ أو تقال.
لفتة كلامية قرآنية: من وجوه إعجاز القرآن الكريم:
وقبل ان نرتب على ذلك أثرا عمليا خارجيا نشير إلى لفتة كلامية قرآنية مهمة تعد من ثمرات هذا المبحث، وهذه اللفته هي ان هذه القضية بالذات يمكن ان تعد وجها من وجوه اعجاز القرآن الكريم؛ فإن القران الكريم لا نظير له في جمعه بين القضايا الحقيقية وبين القضايا الخارجية بوجهين لا نظير لهما:
الجمع بين القضايا الحقيقية والخارجية عبر:
أ- شأن النزول
الوجه الاول:هو ما يعبر عنه بشأن النزول وبذلك تحل العديد من الإشكالات التي تُوُهِّم ورودها على الشيعة في التهمة الموجه اليهم بقولهم بتحريف القرآن كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علي, كما في الكافي الشريف, فقد توهم من ذلك القول بالتحريف فان إحدى الوجوه التي ألتزم بها السيد الوالد رحمة الله عليه أن (في علي) ونظائرها هي من باب التنزيل وان جبرائيل كان ينزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بالقرآن وبشرحه، فكان هذا شرحا من مصاديق الحديث القدسي، للقرآن، وليس من متن القرآن، فعلى هذا فان شأن النزول هو وجه للجمع بين القضايا الحقيقية والخارجية, توضيحه: ان الآية قد تكون قضية حقيقية, وقد تكون قضية خارجية من الدائرة الاوسع على حسب الاقسام الاربعة الماضية التي اشرنا اليها, ويكون شأن النزول عبارة عن التشخيص المصداقي والقضية الخارجية هذا اولا وبذلك يجمع بين كلا النوعين من القضايا وفوائدهما.
ب- الباطن
الوجه الثاني: الباطن والبطون يتضح ايضا بما ذكرنا وجه من وجوه فلسفة الباطن والظاهر، فان من الوجوه هو هذا الوجه: ان الظاهر قد يشير إلى القضية الحقيقية, اما الباطن فيشير إلى القضية الخارجية.
والقرآن الكريم في هذين البعدين اي الجمع بين القضايا الحقيقية والخارجية من حيث شأن النزول من جهة ومن حيث البطن من جهة ثانية ومن حيث الظاهر القرآني من جهة ثالثة، لا نظير له، ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثله بهذه الدقة وهذه السعة وتلك الوجوه من الحكمة، وتفصيل هذا البحث يترك لتحقيقكم ويمكن ان تراجعوا الروايات الواردة في بطون القرآن وفي شأن النزول في مقدمة تفسير البرهان، وهي مقدمة قيمة جدا وفي مقدمة تفسير الصافي وفي غيرهما أيضاً وهي مقدمة مهمة جدا.
ضرورة الكتب المتكفلة بالقضايا الخارجية، كالمتكلفة بالحقيقية
ولنعد إلى ما كنا فيه فنقول: الفرق الثاني يظهر في ان القضية الحقيقية، انما تقال في مقام التعليم اثباتا والتشريع ثبوتا,اما القضية الخارجية فتقال في مقام الفتوى من جهة، وفي مقام الحكم من جهة ثانية وعلى ضوء ذلك نستثمر هذا البحث[1]في نتيجة خارجية عملية مغفول عنها إلى حد ما وهي ان الكتب التي تصنف في الحوزات العلمية ينبغي أن تتضمن كلا النوعين من القضايا، لكننا في الواقع الخارجي نجد الكتب الدراسية والبحثية عادة تتطرق للقضايا الحقيقية فقط فان المكاسب ليس إلا عبارة عن قضايا حقيقية وكذا اللمعة والشرائع والتبصرة وغيرها فالطالب اذن يدرس سلسلة من القضايا الحقيقية، الا ان الجانب الاخر، الذي اثبتنا اهميته وضرورته وحيويته بما لا مزيد عليه في سياق الحديث، مغفول عنه؛ فلا نجد كتباً عن القضايا الخارجية لا في (الكلام) و(العقائد) وهو مورد البحث ولا في غيره الا القليل، وهذا هو الذي سبّب فتح باب انحراف الكثيرين, ولنضرب مثالاً كلاميا لأن كلامنا في الاجتهاد في أصول الدين فننتخب مثالا من اصول الدين ومما يتعلق بالاجتهاد في اصول الدين، ومثالنا من دائرة القضايا الخارجية فيما يتعلق بالتشخيص المصداقي للاجتهاد في اصول الدين:
الفلسفة كمثال لتطبيق البحث على القضايا الخارجية
ان الكثير منكم ممن دَرَس الفلسفة او جانبا منها ولعل البعض درَّسها أيضاً، ومن لم يكن دارسا أو مدرسا فانه قد سمع عنها، فان الفلسفة ومباحثها تارة نبحثها بنحو القضية الحقيقية وهذا له مجاله لكن المبحث الثاني المغفول عنه هو بحث الفلسفة بنحو القضية الخارجية، مثلا كتاب الاسفار كنموذج ومؤلف كتاب الاسفار كنموذج أخر حيث أن دراسة أمثال هذا الكتاب مما يرتبط بالاجتهاد في اصول الدين سلبا أو ايجابا كقضية خارجية، هذا الكتاب من هذه الجهة لم يبحث، أي ما الذي يريد ان يقوله صاحب الأسفار؟ وما هو مشربه؟ فهل صاحب الأسفار فيلسوف مشائي ام اشراقي ام هو قسم ثالث عبّر عنه بالحكمة المتعالية ؟ ثم هل هو فيلسوف أم هو عارف أم هو صوفي أم هو غير ذلك؟ ذلك ان الاسفار من الكتب المهمة سواءا لمن أعتقد به أو لمن أنكره، فانه على كلا التقديرين يحتاج إلى دراسة بنحو القضية الخارجية، فمن يرفضه عليه أن يعلم لِمَ يرفضه ومن يقبله لم يقبله؟ والمسألة ترتبط بصميم العقيدة لأنه يبدأ من وحدة الوجود بل والموجود وينتهي إلى انكار المعاد الجسماني[2], وهذا يحتاج إلى بحث خارجي حقيقي، والان نعود إلى السؤال فما هو مشرب صاحب الاسفار ومسلكه من الاقسام التي ذكرناها؟
صاحب الاسفار من اكبر مشايخ الصوفية
والجواب:ان صاحب الاسفار لا هو فيلسوف مشائي ولا هو اشراقي ولا هو عارف بالمعنى الدارج، بل هو صوفي بل هو من مشايخ الصوفية بل هو من أعظم مشايخهم على الإطلاق، وهذا ما تفيده عباراته هو في مواطن مختلفة من الاسفار بشكل أو أخر, فمن يقرأ كتابه يرى نفسه أمام شيخ من أعظم مشايخ الصوفية وسنقرأ أحدى عبارته فقط والتي تظهر بوضوح مدى اعتقاده بمشايخ الصوفية، وترويجه لهم، والتي تظهر انه يؤمن بمسلكهم.
بعض عبارات الأسفار التي تكشف عن مسلكه الصوفي
في المجلد السابع الصفحة 153 [3] في الفصل 15 في اثبات ان جميع الموجودات عاشقة لله سبحانه مشتاقة إلى لقائه والوصول إلى محل كرامته,وبعد صفحات من أول الفصل، يتحدث عن الهيولى الجسمانية ثم ينتقد الشيخ الرئيس أبا علي ابن سينا بما حاصله انه لم يفهم، ويقول (الشيخ الرئيس أنكر في طبيعيات الشفاء كونها[4] مشتاقة إلى الصور كما هو المنقول عن المتقدمين غاية الانكار) وبعد ذلك يقوا ان ابن سينا تناقض[5] في كلامه ثم يقول(وانت تعلم ان اثبات العشق في شيء بدون الحياة والشعور فيه كان مجرد التسمية) وخلاصة كلامه ان كل الاشياء عاشقة فهذا الجدار عاشق وماء البحر عاشق وكل شيء وكل جماد فهو عاشق,وهذه هي المقدمة الاولى، والمقدمة الثانية وكل عاشق لابد فيه حياة وشعور، والنتيجة ان كل شيء لابد من ان يكون فيه حياة وشعور، اي يريد ان يستنتج ان كل الجمادات لها حياة وهي شاعرة ايضا، وهنا يستشكل عليه الطباطبائي في تعليقته ويناقشه في مدعاه ثم يقول (فقوله: "ان إثبات العشق في شيء بدون الحياة والشعور فيه، كان مجرد تسمية" لا يخلو من نظر), ثم يكمل صاحب الاسفار (وانت تعلم ان اثبات العشق في شيء بدون الحياة والشعور فيه كان مجرد التسمية) ففي واقع الامر: اذا قلت ان العاشق لا حياة فيه ولا شعور فأطلاق العشق عليه مجرد اسم، وهذا غير صحيح (ونحن قد بينا في السفر الاول في مباحث العلة والمعلول عشق الهيولى إلى الصورة بوجه قياسي حكمي لا مزيد عليه وقد مر اثبات الحياة والشعور في جميع الموجودات) وهنا يستشكل السيد الطباطبائي أيضاً في تعليقته ويقول لم يمر إثبات ذلك والذي مر منك شيء اخر لا يفي باثبات المطلوب، فيناقشه فلسفيا هناك وهنا فتأمل (وهو العمدة في هذا الباب، ولم يتيسر للشيخ الرئيس تحقيقه ولا لأحد ممن تأخر عنه إلى يومنا هذا) اذن يقول ان هذه المسألة الدقيقة العميقة الهامة جدا، لا الشيخ الرئيس فهمها وحققها ولا غيره وهنا فلندقق: (الا لأهل الكشف من الصوفية[6]) فهؤلاء هم اعظم من اطلع على هذه الحقيقة العظمى ولم يطلع عليها غيرهم (فأنه لاح لهم بضرب من الوجدان) أي العلم الحضوري وهو أعلى من براهين العقل وغيره عندهم (وتتبع انوار الكتاب والسنة) اي لم يوجد غير أهل الكشف من الصوفية من استطاع ههنا ان يتتبع انوار الكتاب والسنة، بل هم فقط لهم الوجدان الصافي كمرآة للحقائق ليعرفوا (أن جميع الاشياء حي ناطق ذاكر لله مسبح ساجد له)[7]
وهناك العديد من أمثال هذه العبارة التي تدل ان مسلك الرجل هو إكبار الصوفية وتعظيمهم وان أهل الكشف منهم وصلوا إلى الحقائق التي لم يصل لها شخص، بضرب من تتبع انوار الكتاب والسنة والوجدان!
وقال (واما ما نقل عن هؤلاء الاعلام من الصوفية... لكن لحسن ظننا بهذه الاكابر...)! الاسفار ج6 ص182 -183 الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي – الفصل 5 في الاشارة إلى بطلان مذهب الاعتزال ومذهب ينسب إلى أهل التصوف.
بل انه يعتبر الفلسفة سُلَّماً للسلوك العرفاني، وان المقصود هو ذاك وهو المعتمد:
قال في بحث العلة والمعلول (فما وضعناه أولاً: ان في الوجود علة ومعلولاً بحسب النظر الجليل، قد آل الأمر، بحسب السلوك العرفاني، إلى كون العلة منهما أمراً حقيقياً، والمعلول جهة من جهاته، الاسفار ج2 ص301 وهذا القول ينطق بوحدة الوجود بل الموجود إذ عليه فان كافة الخلائق ليسوا في الحقيقة معلولات لله تعالى بل هي جهة من جهاته تعالى أي ان له تعالى جهات ومخلوقاته جهة من جهاته! رغم ان النظر الجليل – أي العلمي الفلسفي – يفيد ان في الوجود علة ومعلولاً حقيقة!
وقد سعى ملا صدرا أشد السعي للدفاع عن أصحاب (الذوق والشهود) – وهم الصوفية – بان يبرهن مكاشفاتهم! فقال مثلاً (وسنشبع القول في تحقيق هذا المقام عند بيان كيفية علمه بالأشياء، على طريقة أصحاب المكاشفة الذوقية، ونحن قد جعلنا مكاشفاتهم الذوقية مطابقة للقوانين البرهانية) الاسفار ج6 ص263 طبعة دار إحياء التراث العربي – فصل 12 في ذكر صريح الحق ومخ القول.. فالقوانين البرهانية ما هي إلا طريق لإثبات المكاشفات الذوقية!!
بل انه اعتبر مرتبة مكاشفة اكابر العرفاء فوق مرتبة البراهين العقلية!
فلقد قال مثلاً: (وإلا فمرتبة مكاشفاتهم – أي أكابر العرفاء – فوق مرتبة البراهين في إفادة اليقين..)! الاسفار ج2 ص315 – ط دار إحياء التراث العربي.
بل اعتبر أهل الكشف والشهود هم خلاصة عباد الله المعبود! قال (وما ذكرناه مما أطبق عليه أهل الكشف والشهود الذين هم خلاصة عباد الله المعبود) الاسفار ج1 ص118.
بل انه صرح وقال (ليس من عادة طالب الحقيقة الاعتناء بكلام من لا كشف له ولا بصيرة في إدراك الحقائق كجمهور المتكلمين)! مفاتيح الغيب ص99.
والحديث عن مرام صدر المتألهين وتقييم أسفاره طويل والشواهد كثيرة جداً، ونترك تفصيل البحث في هذه القضية الخارجية لوقت آخر[8]
الثمرة ان الاضطلاع بالقضية الحقيقية لا يغني عن القضية الخارجية
اذن في مباحث الاجتهاد والتقليد تارة نبحث بنحو القضية الحقيقية وان هذا الكلام من حيث هو هو صحيح أو لا؟ وتارة نبحث بنحو القضية الخارجية وأن هذا الشخص من هو، وما الذي يريد ان يقول وان هذا الكتاب إلى م يرمي، فذاك واجب وهذا واجب آخر ولا يغني الاضطلاع بالقضية الحقيقية عن التحقيق في القضية الخارجية, وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
________________________________________
[1]- والبحث في النتائج النهائية لتلك المباحث، والاستثمارات هي بين نظرية وعملية.
[2] - أي ان ملا صدرا وبعض الفلاسفة أنكروا عودة هذه البدن وتعلق الروح به مجدداً – رغم اتفاق الملِّيين عليه وكونه صريح القرآن الكريم وادعوا تعلق الروح بجسم مثالي غير مادي مخترع أي بصورة تعليمية نظير القوالب المثالية والصور المرآتية! فراجع البحار ج7 ص47 وراجع لوامع الحقائق ص39 -40 وميزان المطالب ص357-372 و(جزوه اعتقادات – سال جهارم ص 172 -182).
[3]- بحسب هذه الطبعة التي عليها تعليقات السيد الطباطبائي ,الطبعة العلمية بقم
[4]- الهيولى
[5] - وان عبّر عنه بـ(ثم انه قد اعترف بذلك في رسالته..) لكنه رأى أيضاً اعترافه ناقصاً.
[6] وهنا محل الاستدلال على مذهبة ومشربه.
[7] - الاسفار الأربعة – الجزء الثاني من السفر الثالث – المطبعة العلمية بقم ج7 ص152 -153.
[8] - يمكن مراجعة العديد من المصادر التي قامت بدراسة (الاسفار) وصاحبها، وغيره من الفلاسفة، ومن المصادر النافعة (بحوث هامة في المناهج التوحيدية) للسيد محمود الهاشمي نسب والشيخ شعيب الحدادي.
الاربعاء 16 ربيع الثاني 1434هــ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |