131-مناقشة للشيخ: الفرق بين التواتر الإجمالي والمعنوي، وبحث مبنوي عن شروط التواتر
السبت 18 ربيع الاول 1444هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(131)
اشتراط إمكان المخبَر به، في التواتر
وقال في الإشارات والتنبيهات: (وكذلك القضايا التواترية وهي التي تسكن إليها النفس سكوناً تاماً يزول معه الشكّ لكثرة الشهادات مع إمكانه بحيث يزول الريبة عن وقوع تلك الشهادات على سبيل الإتفاق والتواطؤ)([1]).
أقول: يشترط في التواتر إمكان ما أُخبر به وتواتر عليه الخبر، ولذا لا يصح الإخبار عن الممتنعات، ولنضرب لذلك مثالين مبتلى بأحدهما قديماً والآخر حديثاً:
إخبار العامة برؤية الله تعالى
الأول: ما لو أخبر الألوف بل الملايين فرضاً من أهل العامة أنهم رأوا الله تعالى في يقظة أو منام أو أخبر الألوف أنهم سمعوا من الرسول ((صلى الله علیه واله وسلام)) أن الله يُرى، فإنه لا يمكن تصديقهم بل يحمل إما على الخطأ في الرؤية أو السماع أو الكذب أو إرادة المتكلم المجاز أو التورية على فرض صدور الكلام منه، إذ المتواتر يحتمل فيه ذلك كله أما صريح حكم العقل فلا مجال لتكذيبه أو تخطئته أو تأويله.
أخبار علماء الفيزياء بإمكان التناقض
الثاني: ما ادعاه بعض علماء الفيزياء، بل حتى ما لو أجمعوا عليه، من أنهم وجدوا بالتجربة إمكان اجتماع الضدين أو النقيضين أو إمكان وجود المعلول بلا علّة، ومثلوا للأول بما يحمل خصائص الموجة والجسيم أو ازدواجية الموجة الجسيم إذ ان المادة تبدو في لحظة وكأنها موجة وفي لحظة تتصرف كأنها جُسيم، وذلك بحسب ميكانيكا الكم وذلك بحسب الفيزياء الكمومية، ومثلوا للثاني بالإنفجار الكبير وغيره، فإن ذلك يحمل قطعاً على خطئهم في فهم التجربة أو في تشخيص ما رأوا أو على خلطهم حدسهم بالحس.
والسرّ في ذلك هو: ان كافة العلوم هي بناء فوقي يبتني على (البديهيات) كبناء تحتي فلو شُكِّك في البديهيات وأخواتها انهارت العلوم كلها ولصح أن نقول له إن كلامك صحيح ولا صحيح، مادام التناقض ممكناً وأن المعلول لهو بلا علّة ومعها في الوقت نفسه وهكذا.
أقول: واللازم أن نضيف: ضرورة تعميم (الإمكان) إلى الأعم من الإمكان الذاتي والوقوعي وما هو ممكن في دائرة دين أو مذهب ما، وبعبارة أخرى: الممتنع ذاتاً أو وقوعاً أو الممتنع في إطار دين أو مذهب فإن الأخبار المتواترة المخالفة له قد لا تفيد اليقين بل ليست بحجة (بمعنى الكاشفية، ولزوم الإتباع، إذا لم تفد اليقين)، فمثلاً لو وصل خبر متواتر فرضاً عن الرسول ((صلى الله علیه واله وسلام)) بوجوب إطاعة الحاكم الجائر في جهة جوره، أي فيما ظلم فيه، بمؤازرته عليه حتى لو لم تكن جهة أهم، كاختلال النظام، فإنه لا يقبل أبداً لمخالفته ضروري الدين من عدله وحكمته ولطفه تعالى وقوله تعالى: ))وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))([2]) وفي آيتين أخريين ((الْفاسِقُونَ)) و((الْكافِرُون)) وغير ذلك. فتأمل([3]).
وكذلك تفسير ((وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى))([4]) بعصيان الأمر المولوي فإنه خلاف ضروري المذهب لذا يؤول لأجل ذلك الظاهر ويطرح الخبر ويوجّه المتواتر.. ولهذا البحث الكبروي تتمة بما ينقِّح أكثر وجه إشكالنا على الشيخ، فانتظر ولنعد الآن إلى الإشكالات المباشرة عليه.
الشيخ: لا إحراز في الإجماع للقدر المشترك، وكلٌّ يحتمل خطؤه
قال: (لكن مجرّدُ قول كل من العلماء بحجية طريق خاص - حيث ما أدى إليه نظره - لا يوجب العلم الإجمالي بأن بعض هذه الطرق منصوبة، لجواز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره.
واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك، إلا إذا كان اختلافهم راجعاً إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتفاقهم على قدر مشترك، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة، فإنها لا توجب تواتر القدر المشترك، إلا إذا علم من أخبارهم كون الإختلاف راجعا إلى التعيين، وقد حقق ذلك في باب التواتر الإجمالي والإجماع المركب)([5]).
إشكال: تحقق قدر مشترك ليس شرطاً لصحة المتواتر
أقول: قد يورد عليه، إضافة إلى ما سبق، أنه استدلال باللازم الأعم على الأخص وبإبطال أمر بإبطال أحد وجوه صحته رغم وجود وجه آخر.
بيانه: أن التواتر إما لفظي أو مضموني ويعبر عنه بالمعنوي أيضاً، أو إجمالي، والثاني هو الذي يشترط فيه القدر المشترك، أما الثالث فلا، بل هو على الضد منه، وذلك بناء على أنه([6]) تكثّر الأخبار بحيث يعلم أن أحدها صحيح، لا القدر المشترك.
بعبارة أخرى: لو أخبر جمع كثير بأخبار كثيرة لها جامع وقدر مشترك فهذا هو الإشتراك المعنوي وأما لو أخبروا بأخبار لا يوجد لها قدر مشترك بل كانت متباينة، وكان كل منها بنحو البشرط لا عن الآخر، ولكن علمنا إجمالاً أن أحدها صحيح، فإنه لا يوجد ههنا قدر مشترك لفرض التباين والبشرط لائية، بل إنما هو العلم بصحة أحدها إجمالاً، وأما الطريق إلى كشف ذلك الصحيح إجمالاً، أو الأصل عند وجود هذا العلم الإجمالي وأنه الإحتياط أو البراءة أو التخيير مثلاً، فأمر آخر.
مناقشة مع الشيخ
فقول الشيخ: (لجواز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره) غير تام لأنه أعم إذ قد نجوّز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره ولكن مع ذلك نعلم صحة أحدها إجمالاً فكل واحد منها لو نظر إليه وحده احتمل كونه خاطئاً لكن لو نظر للمجموع عُلِم أن أحدها صحيح مطابق للواقع، وقوله: (واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك) يجاب بأنه: فليكن، لكنه لا ينفي صحة أحد الأخبار على سبيل البدل من باب اللطف.
ومزيد التوضيح بما ينطبق على المقام أو غيره:
الإجماع حجة، بأحد وجهين
إنّ حجية الإجماع من باب الحدس تبتني على فكرة القدر المشترك، وأما حجيته من باب اللطف فتبتني على صحة أحد الأقوال على سبيل البدل، فنفي الأول لا يستلزم النفي المطلق مع إمكان الثاني:
الإجماع الحدسي مبني على القدر المشترك
أما الأول: فلأنه لا يحصل حدس من إجماع العلماء، بقول الإمام إلا لو كان لإجماعهم قدر مشترك؛ إذ نحدس حينئذٍ من اتفاقهم عليه أنه قول الإمام وإلا كيف ينعقد إجماعهم عليه وهم المتعبدون بأن لا يأخذوا إلا منه ((عليه السلام)) (مع فرض كونه حكماً تشريعياً لا طريق للعقل أو العقلاء إليه).
الإجماع اللطفي مبني على صحة أحدها إجمالاً
وأما الثاني: فلأن مفاد قاعدة اللطف أن الله تعالى ثم المعصومين ((عليهم السلام)) بمقتضى اللطف والحكمة والرحمة والعدالة، لا يسمح بأن تجتمع الأمة على خطأ، وذلك يعني ضرورة كون أحد الأقوال صحيحاً، وهو ما ذكرناه من صحة أحدها على سبيل البدل.
الإمضاء أعم من النصب، فالظن بالواقع حجة
دفعُ وهمٍ: الإجماع على نصب الطريق، وإن كان كل واحد من المجمعين يراه طريقاً خاصاً، قد يستدل به لصالح الفصول بأنه مُجدٍ من باب العلم الإجمالي واللطف فأحدهم صحيح، فصح بذلك القول بنصب الطريق؟.
لكنّ ذلك غير تام، إذ ان تأييد الإمام ((عليه السلام)) لطريق أو أكثر، بالمعنى الإسم مصدري([7])، أعم من الإمضاء ومن نصب الطريق، إذ لعله أمضى الطريق فقط ولم ينصبه، فقولهم بحجية الطرق من باب النصب وتأييد الإمام للحجية لا يلزم منه قول الإمام بالحجية من هذا الباب بل لعله كان من باب الإمضاء.
والحاصل: إن اللطف يتحقق إذا لم يكونوا عملاً على ضلال سواءً أكان الوجه النصب أم الإمضاء، فاللطف أعم من النصب.
ولا يلزم من هذا قول الفصول؛ إذ الفصول لا ينفعه إلا حجية الطريق المنصوب خاصة، كي يبني عليه أنه إذا ظن بالواقع، ولم يظن بالطريق، فليس بحجة، أما على القول بالإمضاء فمادام المعصوم ((عليه السلام)) قد أمضى الطرق العقلائية فإن الظن بالواقع يكون حجة أيضاً إلى جوار الظن بالطريق، كما بنى عليه الشيخ، إذ بناء العقلاء على حجية الطرق إنما هو لمحض الطريقية لا للمصلحة السلوكية فمادام كذلك فالظن بالواقع كالظن بالطريق حجة لديهم، والإمام شأنه الإمضاء على هذا المبنى فقط لا الجعل. وعليه: فكلاهما([8]) حجة. فتدبر جيداً.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((مَنْ كَسَاهُ الْعِلْمُ ثَوْبَهُ، اخْتَفَى عَنِ النَّاسِ عَيْبُهُ)) (تحف العقول: ص215).
------------------------------
([1]) الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات والتنبيهات، نشر البلاغة ـ قم: ج1 ص 218.
([2]) سورة المائدة: الآية 45.
([3]) للمناقشة في المبنى والمثال، ولعله يأتي.
([4]) سورة طه: الآية 121.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص442.
([6]) الثالث، وهو الإجمالي.
([7]) للتأييد.
([8]) الظن بالطريق والظن بالواقع.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(131)
وقال في الإشارات والتنبيهات: (وكذلك القضايا التواترية وهي التي تسكن إليها النفس سكوناً تاماً يزول معه الشكّ لكثرة الشهادات مع إمكانه بحيث يزول الريبة عن وقوع تلك الشهادات على سبيل الإتفاق والتواطؤ)([1]).
أقول: يشترط في التواتر إمكان ما أُخبر به وتواتر عليه الخبر، ولذا لا يصح الإخبار عن الممتنعات، ولنضرب لذلك مثالين مبتلى بأحدهما قديماً والآخر حديثاً:
إخبار العامة برؤية الله تعالى
الأول: ما لو أخبر الألوف بل الملايين فرضاً من أهل العامة أنهم رأوا الله تعالى في يقظة أو منام أو أخبر الألوف أنهم سمعوا من الرسول ((صلى الله علیه واله وسلام)) أن الله يُرى، فإنه لا يمكن تصديقهم بل يحمل إما على الخطأ في الرؤية أو السماع أو الكذب أو إرادة المتكلم المجاز أو التورية على فرض صدور الكلام منه، إذ المتواتر يحتمل فيه ذلك كله أما صريح حكم العقل فلا مجال لتكذيبه أو تخطئته أو تأويله.
أخبار علماء الفيزياء بإمكان التناقض
الثاني: ما ادعاه بعض علماء الفيزياء، بل حتى ما لو أجمعوا عليه، من أنهم وجدوا بالتجربة إمكان اجتماع الضدين أو النقيضين أو إمكان وجود المعلول بلا علّة، ومثلوا للأول بما يحمل خصائص الموجة والجسيم أو ازدواجية الموجة الجسيم إذ ان المادة تبدو في لحظة وكأنها موجة وفي لحظة تتصرف كأنها جُسيم، وذلك بحسب ميكانيكا الكم وذلك بحسب الفيزياء الكمومية، ومثلوا للثاني بالإنفجار الكبير وغيره، فإن ذلك يحمل قطعاً على خطئهم في فهم التجربة أو في تشخيص ما رأوا أو على خلطهم حدسهم بالحس.
والسرّ في ذلك هو: ان كافة العلوم هي بناء فوقي يبتني على (البديهيات) كبناء تحتي فلو شُكِّك في البديهيات وأخواتها انهارت العلوم كلها ولصح أن نقول له إن كلامك صحيح ولا صحيح، مادام التناقض ممكناً وأن المعلول لهو بلا علّة ومعها في الوقت نفسه وهكذا.
أقول: واللازم أن نضيف: ضرورة تعميم (الإمكان) إلى الأعم من الإمكان الذاتي والوقوعي وما هو ممكن في دائرة دين أو مذهب ما، وبعبارة أخرى: الممتنع ذاتاً أو وقوعاً أو الممتنع في إطار دين أو مذهب فإن الأخبار المتواترة المخالفة له قد لا تفيد اليقين بل ليست بحجة (بمعنى الكاشفية، ولزوم الإتباع، إذا لم تفد اليقين)، فمثلاً لو وصل خبر متواتر فرضاً عن الرسول ((صلى الله علیه واله وسلام)) بوجوب إطاعة الحاكم الجائر في جهة جوره، أي فيما ظلم فيه، بمؤازرته عليه حتى لو لم تكن جهة أهم، كاختلال النظام، فإنه لا يقبل أبداً لمخالفته ضروري الدين من عدله وحكمته ولطفه تعالى وقوله تعالى: ))وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))([2]) وفي آيتين أخريين ((الْفاسِقُونَ)) و((الْكافِرُون)) وغير ذلك. فتأمل([3]).
وكذلك تفسير ((وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى))([4]) بعصيان الأمر المولوي فإنه خلاف ضروري المذهب لذا يؤول لأجل ذلك الظاهر ويطرح الخبر ويوجّه المتواتر.. ولهذا البحث الكبروي تتمة بما ينقِّح أكثر وجه إشكالنا على الشيخ، فانتظر ولنعد الآن إلى الإشكالات المباشرة عليه.
الشيخ: لا إحراز في الإجماع للقدر المشترك، وكلٌّ يحتمل خطؤه
قال: (لكن مجرّدُ قول كل من العلماء بحجية طريق خاص - حيث ما أدى إليه نظره - لا يوجب العلم الإجمالي بأن بعض هذه الطرق منصوبة، لجواز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره.
واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك، إلا إذا كان اختلافهم راجعاً إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتفاقهم على قدر مشترك، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة، فإنها لا توجب تواتر القدر المشترك، إلا إذا علم من أخبارهم كون الإختلاف راجعا إلى التعيين، وقد حقق ذلك في باب التواتر الإجمالي والإجماع المركب)([5]).
إشكال: تحقق قدر مشترك ليس شرطاً لصحة المتواتر
أقول: قد يورد عليه، إضافة إلى ما سبق، أنه استدلال باللازم الأعم على الأخص وبإبطال أمر بإبطال أحد وجوه صحته رغم وجود وجه آخر.
بيانه: أن التواتر إما لفظي أو مضموني ويعبر عنه بالمعنوي أيضاً، أو إجمالي، والثاني هو الذي يشترط فيه القدر المشترك، أما الثالث فلا، بل هو على الضد منه، وذلك بناء على أنه([6]) تكثّر الأخبار بحيث يعلم أن أحدها صحيح، لا القدر المشترك.
بعبارة أخرى: لو أخبر جمع كثير بأخبار كثيرة لها جامع وقدر مشترك فهذا هو الإشتراك المعنوي وأما لو أخبروا بأخبار لا يوجد لها قدر مشترك بل كانت متباينة، وكان كل منها بنحو البشرط لا عن الآخر، ولكن علمنا إجمالاً أن أحدها صحيح، فإنه لا يوجد ههنا قدر مشترك لفرض التباين والبشرط لائية، بل إنما هو العلم بصحة أحدها إجمالاً، وأما الطريق إلى كشف ذلك الصحيح إجمالاً، أو الأصل عند وجود هذا العلم الإجمالي وأنه الإحتياط أو البراءة أو التخيير مثلاً، فأمر آخر.
مناقشة مع الشيخ
فقول الشيخ: (لجواز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره) غير تام لأنه أعم إذ قد نجوّز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره ولكن مع ذلك نعلم صحة أحدها إجمالاً فكل واحد منها لو نظر إليه وحده احتمل كونه خاطئاً لكن لو نظر للمجموع عُلِم أن أحدها صحيح مطابق للواقع، وقوله: (واختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك) يجاب بأنه: فليكن، لكنه لا ينفي صحة أحد الأخبار على سبيل البدل من باب اللطف.
ومزيد التوضيح بما ينطبق على المقام أو غيره:
الإجماع حجة، بأحد وجهين
إنّ حجية الإجماع من باب الحدس تبتني على فكرة القدر المشترك، وأما حجيته من باب اللطف فتبتني على صحة أحد الأقوال على سبيل البدل، فنفي الأول لا يستلزم النفي المطلق مع إمكان الثاني:
الإجماع الحدسي مبني على القدر المشترك
أما الأول: فلأنه لا يحصل حدس من إجماع العلماء، بقول الإمام إلا لو كان لإجماعهم قدر مشترك؛ إذ نحدس حينئذٍ من اتفاقهم عليه أنه قول الإمام وإلا كيف ينعقد إجماعهم عليه وهم المتعبدون بأن لا يأخذوا إلا منه ((عليه السلام)) (مع فرض كونه حكماً تشريعياً لا طريق للعقل أو العقلاء إليه).
الإجماع اللطفي مبني على صحة أحدها إجمالاً
وأما الثاني: فلأن مفاد قاعدة اللطف أن الله تعالى ثم المعصومين ((عليهم السلام)) بمقتضى اللطف والحكمة والرحمة والعدالة، لا يسمح بأن تجتمع الأمة على خطأ، وذلك يعني ضرورة كون أحد الأقوال صحيحاً، وهو ما ذكرناه من صحة أحدها على سبيل البدل.
الإمضاء أعم من النصب، فالظن بالواقع حجة
دفعُ وهمٍ: الإجماع على نصب الطريق، وإن كان كل واحد من المجمعين يراه طريقاً خاصاً، قد يستدل به لصالح الفصول بأنه مُجدٍ من باب العلم الإجمالي واللطف فأحدهم صحيح، فصح بذلك القول بنصب الطريق؟.
لكنّ ذلك غير تام، إذ ان تأييد الإمام ((عليه السلام)) لطريق أو أكثر، بالمعنى الإسم مصدري([7])، أعم من الإمضاء ومن نصب الطريق، إذ لعله أمضى الطريق فقط ولم ينصبه، فقولهم بحجية الطرق من باب النصب وتأييد الإمام للحجية لا يلزم منه قول الإمام بالحجية من هذا الباب بل لعله كان من باب الإمضاء.
والحاصل: إن اللطف يتحقق إذا لم يكونوا عملاً على ضلال سواءً أكان الوجه النصب أم الإمضاء، فاللطف أعم من النصب.
ولا يلزم من هذا قول الفصول؛ إذ الفصول لا ينفعه إلا حجية الطريق المنصوب خاصة، كي يبني عليه أنه إذا ظن بالواقع، ولم يظن بالطريق، فليس بحجة، أما على القول بالإمضاء فمادام المعصوم ((عليه السلام)) قد أمضى الطرق العقلائية فإن الظن بالواقع يكون حجة أيضاً إلى جوار الظن بالطريق، كما بنى عليه الشيخ، إذ بناء العقلاء على حجية الطرق إنما هو لمحض الطريقية لا للمصلحة السلوكية فمادام كذلك فالظن بالواقع كالظن بالطريق حجة لديهم، والإمام شأنه الإمضاء على هذا المبنى فقط لا الجعل. وعليه: فكلاهما([8]) حجة. فتدبر جيداً.
قال أمير المؤمنين ((عليه السلام)): ((مَنْ كَسَاهُ الْعِلْمُ ثَوْبَهُ، اخْتَفَى عَنِ النَّاسِ عَيْبُهُ)) (تحف العقول: ص215).
([2]) سورة المائدة: الآية 45.
([3]) للمناقشة في المبنى والمثال، ولعله يأتي.
([4]) سورة طه: الآية 121.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص442.
([6]) الثالث، وهو الإجمالي.
([7]) للتأييد.
([8]) الظن بالطريق والظن بالواقع.