بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(120)
الفصول: العلم الإجمالي الصغير ينتج حجية الظن بالطريق
تتمة: مضى: (وهذا علم إجمالي صغير ينحل به العلم الإجمالي الكبير السابق. وسيأتي)([1]).
قال السيد الحكيم (قدس سره) في إيضاحه: ("قوله: فلا ريب أن الوظيفة" يمكن أن يكون المراد انه بعد ما علم إجمالاً بنصب الطريق ينحل العلم الإجمالي بالأحكام الفرعية بهذا العلم الإجمالي ويجب العمل على مقتضى هذا العلم الإجمالي الثاني، فإذا لم يمكن الاحتياط ينتقل إلى الظن فيه، ولا وجه للرجوع إلى الظن بالواقع لأن الواقع من حيث هو ليس مورداً للاحتياط حتى يعمل فيه بالظن عند تعذره كما سيأتي بيانه وبيان ما فيه في كلام المصنف (قدس سره))([2]).
وبعبارة أخرى: ليس هذا الوجه كالوجه الثاني (الآتي في الكفاية والذي نقلناه آنفاً مفصلاً) مبنياً على ان احتمال التكليف منجِّز، بل هو مبني على ان العلم الإجمالي منجِّز، وانه، في المقام قد انحل العلم الإجمالي الأول الكبير (بالأحكام الفرعية) والذي كان لولا انحلاله هو المنجز لكل الأحكام الفرعية المحتملة، أما بعد انحلاله فلا منجز لها سواء الظن أم غيره، فليست حينئذٍ آخذة بخناق المكلف، عكس العلم الإجمالي الثاني الصغير (بنصب الطريق) فانه المنجز الملزم بالاحتياط عبر اتّباع الطرق كلها فإذا لم يمكن اتّباعها كلها للزوم العسر والحرج أو الأكثر منهما وهو (اختلال النظام) كان الظن من بينها([3]) هو الحجة المنجز، وذلك بعد فرض البناء على عدم لزوم الاحتياط الجزئي أيضاً، أو فرض مصدقته في المظنونات كما سبق.
الشيخ: لو نصب الشارع طرقاً لما أمكن خفاؤها
وقال الشيخ (قدس سره): (وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى مسألة صلواته الخمس)([4]) وقد مضت مناقشتان، ونضيف:
ج- لا توفر للدواعي، وهناك موانع
ويرد على قوله: (لتوفّر الدّواعي بين المسلمين على ضبطها) ثم نفيه لاحتمال اختفائها كلاً أو بعضاً، الأمورُ التالية:
1- كان اعتمادهم على الذاكرة، ولم يكن دأبهم الكتابة
1- انهم كانوا يعتمدون على الحافظة المجردة (الذاكرة) دون الكتابة، لأن المسلمين زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا القليل منهم، لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة، ثم لم تكن ثقافة العارفين بها، الكتابةَ، ولذا ندرت المكتوبات عن أحوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأقواله مع انهم لو كانوا يكتبون أقواله وأحواله وسيرته لبلغت مئات المجلدات، ويكفي أَن نذكر ما نقله بعض الفقهاء من أنَّ بعض الأخبار تشير إلى أَنَّه (صلى الله عليه وآله) كان يخطب طوال عشر سنين كل يوم بعد كل صلاة خطبةً قصيرة أو طويلة وقد تكون لدقيقة أو تكون لساعة، بين وعظٍ وأمرٍ وزجرٍ وحثٍّ وحضٍّ وإعلامٍ وإخبارٍ وشبه ذلك، ولو كتب المسلمون أو بعضهم أو حتى أحدهم كل ذلك - وكان أصحاب الصفّة الملاصقة للمسجد أربعمائة شخص وكان الصحابة بالألوف - لبلغت مجلدات ضخمة بالعشرات أو المئات ويكفي أَنَّه (صلى الله عليه وآله) خطب قرابة خمسمائة خطبة أيام الـجُمع فأين هي؟.. ومع قطع النظر عن ذلك نقول: ان قوله (صلى الله عليه وآله) وسيرته وفعله وتقريره كلها خبرٌ وحِكمة أو إنشاء وتشريع من أعلى مقام في الكون كله فكم منها سُجِّل وكُتِب؟.. مما يكشف عن الأمر الماضي أو معه الآتي.
ويؤكّد عدمَ تعودهم على الكتابة مطلقاً التأكيدُ الشديد من الصادقَين (عليهما السلام) والإمام الرضا (عليه السلام) وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين على الكتابة كـ((اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا))([5]) و((احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا))([6]) و((اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ))([7]) مما يدل على أنَّ الثقافة لم تكن ثقافةَ الكتابة لذا احتاجت إلى الدفع الشديد والحضّ الأكيد.
وقد أُتلف ما كُتب
2- ان ما كُتب أُتلف أكثره شبه المستغرق، لأن عُمَر منع كتابة الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وروايته واستمر ذلك المنع سنين طويلة، وكان عمر يعاقب بشدة من يروي الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ويكفي ان نعلم انه كان يعاقب حتى أقرب المقربين إليه، على روايتهم الحديث عنه (صلى الله عليه وآله).
(وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زُرْعَةَ الرُّعَيْنِيُّ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن عبد اللَّهِ، عَنِ السَّائب بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عمر بن الخطَّاب يقول لِأَبِي هُرَيْرَةَ: لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولألحقنك بِأَرْضِ دَوْسٍ، وَقَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثَ عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة).
وأخرج الذهبي في التذكرة 1 ص 7 عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: أكنت تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
وأخرج أبو عمر عن أبي هريرة: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة (جامع بيان العلم 2 ص 121).
م - وفي لفظ الزهري: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي أما والله إذا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري. وفي لفظ ابن وهب: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي)([8]).
وحاصل النقطة الأولى: عدم توفر الدواعي على الكتابة ؛ لاعتمادهم على الحافظة وعدم وجود ثقافة الكتابة فيهم، وحاصل النقطة الثانية وجود المانع عن وصول ما كتب منها إلينا وهو إتلافها.
فتلخص: ان تاريخنا إما غير مكتوب، أو المكتوب منه متلف غير محفوظ، وما وصل إلينا لعله لا يبلغ الواحد بالمائة وربما حتى لا يبلغ الواحد بالألف.
والنقض بعدم وصول روايات عن أمور مهمة جداً
3- وينقض عليه (قدس سره): بتوفر الدواعي لدى المسلمين على كتابة أشياء كثيرة عنه (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) خاصة الأمور المهمة جداً منها مما كان من دائرة أصول الدين أو أصول الفقه أو غيرهما، ومع ذلك لم يصلنا منها شيء، فإما انها لم تكتب أو كتبت وتلفت، ولنشر إلى بعضها على سبيل المثال:
ضوابط التفسير والتأويل
أولاً: ضوابط التفسير.
ثانياً: ضوابط التأويل.
فانها وإن وردت فيها روايات، لكن من اطلع على البحثين يرى ان ما بأيدينا لا يفي إلا بجزء منها فقط.
الترتّب
ثالثاً: القاعدة في باب الترتّب، فان بعض الأعلام، كالشيخ (قدس سره) ارتأى استحالته، وبعضاً آخر، كتلميذه المجدد الشيرازي ارتأى إمكانه ووقوعه، ومع انه محل الابتلاء شرعاً وعرفاً بكثرة كاثرةٍ لبداهة كثرة الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم (فإمّا هو مولوي على الإمكان أو إرشادي على الاستحالة) إلا انه لم يرد فيه، فيما وصل إلينا، دليلٌ نقلي ظاهر الدلالة.
اجتماع الأمر والنهي
رابعاً: اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد من جهة واحدة أو من جهتين.
أكثر ضوابط التزاحم
خامساً: وهذا مهم جداً ومورد الابتلاء بشدة، كلاحقه وبعض سوابقه، مرجِّحات وضوابط باب التزاحم، فان المذكور في الروايات فيما وصل إلينا قليلٌ جداً ولذا اختلف الفقهاء في مسائل كثيرة، ومسائل باب التزاحم تبلغ عشرات الألوف سواء في الأحوال الشخصية أم أحوال الأسرة أم في فقه المجتمع أم فقه الدولة والحكومة، ويكفي أن نلاحظ الخلاف الكبير بين العلماء في ترجيح حق الله تعالى على حق الناس أو العكس، مما تجد تفصيله وسائر أنواع التزاحمات المسكوت عنها في الروايات (أو التي لم تصل إلينا) في بحوثنا السابقة عن التزاحم وفي بيان الفقه للسيد العم (دام ظله).
مرجحات باب التعارض
سادساً: مرجِّحات باب التعارض، حيث لم تصلنا إلا روايات معدودة إما مخدوشة سنداً (كمرفوعة زرارة) أو دلالةً (كمقبولة ابن حنظلة) ولو لدى بعض الأعلام، خاصة مع تعارض ترتيبها مع ترتيب المرفوعة، مما ألجأ المحقق الخراساني إلى القول بعدم الترتيب بين المرجحات إذ وجد ترتيب المرفوعة على عكس ترتيب المقبولة في الجملة، فاستظهر أَنَّ الترتيب غير مراد بل المراد: أصلُ أنَّ هذا مرجّح وذاك مرجّح.
والحاصل: مع ان الروايات المتعارضة كثيرةٌ جداً، وانها بالمئات ولربما كانت بالألوف في زمنهم (عليهم السلام) قبل تهذيبها، ومع شدة الابتلاء بهذا الباب، إلا انه لم تصلنا إلا روايات معدودة في كيفية الجمع بين المتعارضات وضوابط الجمع أو الطرح، وهي بين غير تامة الدلالة وغير تامة السند (ولو عند العديد من الأصحاب) مع ان مقتضى القاعدة وتوفر الدواعي على الضبط، وصول عشرات الروايات إلينا، وبحدّ التواتر أو على الأقل وصول عدة روايات صحيحة السند صريحة الدلالة.. ولم تصل إما للعامل الأول الماضي أو للعامل الثاني.
وبوجه آخر: لم يكونوا (عليهم السلام) مأمورين بإيصال ذلك كله ونظائره بالطريق الغيبي ولا بالأكثر من الحد الطبيعي المتعارف من السعي للإيصال.
وطبيعة البشر واحدة في عدم كتابة أكثر السِيَر
4- كما يوضح لنا عدمُ توفر الدواعي، ان طبيعة البشر في كل الأزمنة تقريباً واحدةٌ.. واننا الآن نشاهد أنَّ ما كتبه التلامذة والأصحاب والمقلدون عن الشيخ الانصاري مثلاً، لا يبلغ حتى مجلدين، مع انه كان المرجع الأعلى للشيعة وكان الفقيه الأصولي المبرز وكان الحكيم والزاهد ومدير شؤون الشيعة في مقابل الامبراطورية العثمانية التي كانت تحكم العراق، ومقابل الشاه الإيراني.. ومع ان الألوف سمعوا منه الكثير الكثير الكثير ومع ذلك لم يكتب منهم إلا القليل القليل القليل.. وكذلك حال سائر مراجعنا قبله وحتى هذا الزمن رغم سهولة الكتابة وتوفر الأدوات والأجهزة وكثرة الكتّاب.. بل وكذلك حال الأمم كافة بالنسبة لأنبيائها ثم لأوصيائهم ثم لعلمائها.. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: ((قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ مَشَايِخَنَا رَوَوْا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَكَانَتِ التَّقِيَّةُ شَدِيدَةً، فَكَتَمُوا كُتُبَهُمْ، وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا صَارَتِ الْكُتُبُ إِلَيْنَا، فَقَالَ: حَدِّثُوا بِهَا فَإِنَّهَا حَقٌّ)). (الكافي: ج1 ص53)
---------------
([1]) الدرس (119).
([2]) السيد محسن الحكيم، حقائق الأصول، مكتبة بصيرتي: ج2 ص174-175.
([4]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي: ج1 ص439.
([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص53.
([8]) تاريخ ابن كثير: 8 ص 107.
---------------
([1]) الدرس (119).