بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(116)
الكفاية: نفي نصب الشارع طريقاً حين الانسداد
وقال في الكفاية: (لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقاً منصوباً شرعاً، ضرورة إنّه معها لا يجب عقلاً على الشارع أن ينصب طريقاً، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة إنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا غير قابل له)([1]).
إيضاحات ومناقشات
أقول: هنا مطالب بين إيضاح وبين مناقشة:
الأول: ان كون الظن طريقاً منصوباً شرعاً لدى الانسداد هو ما اختاره المحققون أصحاب هداية المسترشدين والفصول ورسالة في نفي حجية المظنة (قدس سرهم)، وكلامه (قدس سره) ردّ عليهم.
الثاني: ان قوله: (لا يجب عقلاً...) مسامحةٌ ولا بد ان يكون مقصوده (لا يمكن) إذ الخيارات ثلاثة وهي: (انه مع مقدمات الانسداد لا يجب / أو لا يجوز / أو لا يمكن عقلاً للشارع ان ينصب طريقاً) وعدم الإمكان هو مختاره الذي سيبرهنه بعد أسطر والذي بنى عليه فيما سبق وما سيأتي، وإجمال وجه عدم الإمكان بين ما ذكره وما ذكره غيره من الأعلام، كما سبق، هو: ان المستقلات العقلية، ومنها المقام إذ يستقل العقل، على مبنى الحكومة وهو مبناه (قدس سره) بحجية الظن، حيث يحكم العقل فيها بحسن العدل أو وجوبه مثلاً وبقبح الظلم أو حرمته، وبحجية الظن ولزوم اتّباعه لدى الانسداد، لذلك فانه لا يمكن للشرع، أو لأي ثانٍ فرض، ان يحكم فيها وإلا للزم طلب الحاصل أو اجتماع المثلين أو التسلسل (كما في أمر الإطاعة) أو اللغوية حيث ان الحكم لأجل إيجاد الداعي فان أوجده حُكْمُ العقل فيكون الحكم الثاني لغواً، وإن لم يوجده لم يوجده الثاني أيضاً إلى غير ذلك مما سبق وسبق ردّه.
إشكال مبنوي: حكم العقل لاحقٌ على حكم الشرع وليس سابقاً
الثالث: ان دعوى استحالة حكم الشرع في موارد المستقلات العقلية، لامتناع (أو للغوية) الحكم الثاني (الشرعي) بعد حكم العقل، مبنيٌ على مقدمة مطوية غير بيّنة ولا مبيّنة أي انه مبني على أمر غير ثابت إن لم نقل بثبوت عدمه، ويكفي عدم ثبوته لتكون دعوى الاستحالة مصادرةً حتى لو فرض صحة دعوى الاستحالة بذاتها، مع قطع النظر عن بنائها على أمر غير ثابت.
فالمستقلات العقلية هي أحكام شرعية سابقة
توضيحه: انهم، فيما يبدو، قد افترضوا ان العقل يحكم أولاً في المستقلات العقلية، كأوامر الإطاعة بتفريعاتها ومنها المقام، ثم يبحثون عن إمكان حكم الشرع ثانياً بعد حكم العقل أولاً فيستدلون على عدم إمكانه باللغوية أو طلب الحاصل.. الخ.
ولكن المستظهر هو ان حكم الشرع سابق، وان الكلام يجب على (أن) يقع على العكس تماماً وهو انه هل يمكن للعقل ان يحكم في المستقلات العقلية (أي المسماة بالعقلية بحسب مصطلحهم) بعد ان حكم بها الشرع أولاً أو لا؟ فإن ثبت ما ندعيه فهو وإلا كفى عدم ثبوت مدعاهم.
دليلنا: ان المشرِّع هو الله تعالى، وان أحكامه سابقة على خلقه الحجة الباطنة وهي العقل، وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ أو غيره، وهو سابق على خلقنا ومنحنا العقول، بل ان القرآن الكريم النازل على قلب الرسول الكريم بما تضمّن من مستقلات عقلية كالنهي عن الظلم والأمر بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)([2]) و(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)([3]) سابقٌ على وجودنا نحن بل هو سابق على بعثته ولذا نزل دفعةً واحدةً على قلبه المبارك (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ)([4]) عند البعثة ثم نزل نجوماً طوال ثلاث وعشرين سنة من حياته الشريفة، فكلما وُلِد مسلم ثم بلغ فإنْ حَكَمَ عقلُه بوجوب العدل أو حرمة الظلم أو بحجية الظن لدى الانسداد، فانه قد سبقه إلى ذلك حكم الشارع في اللوح المحفوظ أو غيره فيجب ان يبحث عن ان العقل مرشد إلى ما حكم به الشارع أو حاكم أيضاً، لا العكس وان الشرع مرشد إلى ما حكم به العقل أو حاكم أيضاً؟
بعبارة أخرى: المشرِّع هو الله تعالى، وأحكامه سابقة على ولادة المسلمين ثم بلوغهم وعقلهم وعلى حكم عقلهم بما يحكم به.
بل حتى لو كان المشرِّع هو النبي (صلى الله عليه وآله) (في دائرة سنَّة النبي (صلى الله عليه وآله)) فانّ أحكامه متقدمة علينا جميعاً، غاية الأمر كونها معاصرة للمعاصرين له([5])، على انه (صلى الله عليه وآله) متقدم رتبة عليهم.
بوجه آخر: التشريعات كافة كالتكوينيات، مما أحاط بها علمه تعالى من قبل فكلما ولد شخص وعَقَل كان قد سبقه علم الله وحكمه بحسن العدل ووجوبه وحسن اتّباع الظن لدى الانسداد (على الفرض) ووجوبه.
لا يقال: المراد بحكم العقل، هو حكم النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه الخلق الأول الصادر منه تعالى وهو العقل المقصود بـ((إِنَّ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَقْلُ))([6]) كما في الحديث.
إذ يقال: أولاً: مبنىً بانه لا يعلم كونه (صلى الله عليه وآله) هو المقصود بهذا الحديث، بل المحتملات فيه متعددة: إذ قد يراد به العقل المجرد (على فرض القول به([7]) أو المراد عقل كل شخصٍ أو المراد ذلك العقل الذي له ألوف الوجوه والتي يتصل بكلِّ وجهٍ منها إنسان فيعقل، على ما تفيده بعض الروايات([8])، أو غير ذلك.
ثانياً: سلّمنا، لكن مراد الأصوليين في هذا البحث (بحث استقلال العقل بالحكم في المستقلات العقلية) ليس النبي (صلى الله عليه وآله) وإن قلنا بانه العقل المقصود برواية ((إِنَّ أَوَّلَ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَقْلُ))، على انه لو أريد فان له جهتين: جهة الوحي إليه وجهة كونه عقلاً وعاقلاً، وأنّى لنا ان نحيط خُبراً بحاله لنحكم عليه بان حكم عقله (صلى الله عليه وآله) سابق على حكم الوحي إليه؟، فلعله بالعكس؟، أو قد يكونان مقترنين في زمن واحد (ويكون المعلول معلولاً لهما معاً حسب قاعدة الكسر والانكسار الماضية).
وبوجه آخر: ورد في الحديث: ((إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ))([9]) ومراد الأصوليين هو هذا العقل الباطن فينا فانه حجة الله الباطنة فينا مقابل حجته الظاهرة علينا وهي الرسل والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، ولا مجال لتوهم انه (صلى الله عليه وآله) هو العقل الباطن فينا! فيقع البحث هل ان الحجة الظاهرة (الرسول (صلى الله عليه وآله)) هو الذي حكم أولاً في المستقلات العقلية أو عقولنا الباطنة فينا؟ ومن الواضح ان عقولنا الباطنة فينا متأخرةٌ عن وجوده وحكمه.
الرابع: ان المحقق الخراساني أشكل على نفسه بـ(ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من حكم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة إنّها إنّما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا غير قابل له) وتوضيحه بما يعمّق البحث: ان قاعدة الملازمة إنما تجري في سلسلة علل الأحكام ولا تجري في سلسلة معاليله، والمقام من سلسلة المعاليل لأنه من كيفيات الإطاعة وأنواعها (حصول الإطاعة بإتباع الظن بالأحكام الشرعية) وسيأتي توضيحه في البحث القادم بإذن الله تعالى مع تتمة المناقشات والله الهادي. صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : ((مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ كَفَي مَا لَمْ يَعْلَمْ))
(التوحيد للصدوق: ص416).
------------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ص321.
([4]) سورة الشعراء: الآية 193-194.
([5]) أي لبعضهم، إذ تسبق بعضهم وتتأخر عن بعض.
([6]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج4 ص368.
وقال العلامة المجلسي قدس سره:
* (بسط كلام لتوضيح مرام) * اعلم أن فهم أخبار أبواب العقل يتوقف على بيان ماهية العقل، واختلاف الآراء والمصطلحات فيه. فنقول: إن العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة، واصطلح إطلاقه على أمور:
الأول: هو قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما، والتمكن من معرفة أسباب الأمور وذوات الأسباب، وما يؤدي إليها وما يمنع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنفع، واجتناب الشرور والمضار، وبها تقوي النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية، والوساوس الشيطانية وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى؟ يحتملهما، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيرية بعض الأمور مع عدم إتيانهم بها، و بشرية بعض الأمور مع كونهم مولعين بها يدل على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشر. والذي ظهر لنا من تتبع الاخبار المنتمية إلى الأئمة الأبرار سلام الله عليهم هو أن الله خلق في كل شخص من أشخاص المكلفين قوة واستعداد إدراك الأمور من المضار والمنافع وغيرها، على اختلاف كثير بينهم فيها، وأقل درجاتها مناط التكليف، وبها يتميز عن المجانين، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف، فكلما كانت هذه القوة أكمل كانت التكاليف أشق وأكثر، وتكمل هذه القوة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل، فكلما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة وعمل بها تقوي تلك القوة. ثم العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال، وكلما ازدادت قوة تكثر آثارها وتحث صاحبها بحسب قوتها على العمل بها فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وسائر أركان الايمان علم تصوري يسمونه تصديقا، وفي بعضهم تصديق ظني، وفي بعضهم تصديق اضطراري، فلذا لا يعملون بما يدعون، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كل حين. وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الايمان والكفر إن شاء الله تعالى.
الثالث: القوة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش، وهو ممدوح في الاخبار ومغايرته لما قد مر بنوع من الاعتبار، وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع، ومنهم من أثبت لذلك قوة أخرى وهو غير معلوم.الرابع: مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها عن ذلك، و أثبتوا لها مراتب أربعة: سموها بالعقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، و العقل المستفاد، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب، وتفصيلها مذكور في محالها، ويرجع إلى ما ذكرنا أولا فإن الظاهر أنها قوة واحدة تختلف أسماؤها بحسب متعلقاتها وما تستعمل فيه.
الخامس: النفس الناطقة الانسانية التي بها يتميز عن سائر البهائم.
السادس: ما ذهب إليه الفلاسفة، وأثبتوه بزعمهم: من جوهر مجرد قديم لا تعلق له بالمادة ذاتا ولا فعلا، والقول به كما ذكروه مستلزم لانكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره مما لا يسع المقام ذكره، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولا حادثة، وهي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لانكار كثير من الأصول المقررة الاسلامية، مع أنه لا يظهر من الاخبار وجود مجرد سوى الله تعالى.
وقال بعض محققيهم: إن نسبة العقل العاشر الذي يسمونه بالعقل الفعال إلي النفس كنسبة النفس إلى البدن فكما أن النفس صورة للبدن، والبدن مادتها، فكذلك العقل صورة للنفس، والنفس مادته، وهو مشرق عليها، وعلومها مقتبسة منه، ويكمل هذا الارتباط إلى حد تطالع العلوم فيه، وتتصل به، وليس لهم على هذه الأمور دليل إلا مموهات شبهات، أو خيالات غريبة زينوها بلطائف عبارات.
فإذا عرفت ما مهدنا، فاعلم: أن الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأولين، الذين مالهما إلى واحد، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر. وبعض الأخبار يحتمل بعض المعاني الأخرى، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة المستلزم لحصول السعادات.
فأما أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا، أو ما يشملها جميعا، وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير، كما ورد في اللغة، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتصاف النفس بها، و يكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والاقبال والادبار وغيرها استعارة تمثيلية، لبيانأن مدار التكاليف والكمالات والترقيات على العقل، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلا لان يدرك به العلوم، ويكون الامر بالاقبال والادبار أمرا تكوينيا، يجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة، والسعادة والشقاوة معا وآلة للاستعمال في تعرف حقائق الأمور، والتفكر في دقائق الحيل أيضا.
وفي بعض الأخبار بك آمر، وبك أنهى، وبك أعاقب، وبك أثيب. وهو منطبق على هذا المعنى لان أقل درجاته مناط صحة أصل التكليف، وكل درجة من درجاته مناط صحة بعض التكاليف، وفي بعض الأخبار " إياك " مكان بك في كل المواضع، وفي بعضها في بعضها، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به فكأنه هو المكلف حقيقة. وما في بعض الأخبار من أنه أول خلق من الروحانيين، فيحتمل أن يكون المراد أول مقدر من الصفات المتعلقة بالروح، أو أول غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها، أو يكون أوليته باعتبار أولية ما يتعلق به من النفوس، وأما إذا احتملت على المعنى الخامس فيحتمل أن يكون أيضا على التمثيل كما مر. وكونها مخلوقة ظاهر، وكونها أول مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الأجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة، فيحتمل أن يكون خلق الأرواح مقدما على خلق جميع المخلوقات غيرها لكن " خبر أول ما خلق الله العقل " ما وجدته في الأخبار المعتبرة، وإنما هو مأخوذ من أخبار العامة، و ظاهر أكثر أخبارنا أن أول المخلوقات الماء أو الهواء كما سيأتي في كتاب السماء والعالم نعم ورد في أخبارنا: أن العقل أول خلق من الروحانيين، وهو لا ينافي تقدم خلق بعض الأجسام على خلقه، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناءا على ما ذهب إليه جماعة من تجرد النفس إقبالها إلى عالم المجردات، وبإدبارها تعلقها بالبدن والماديات، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية، والدرجات الرفيعة، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات، وتوجهها إلى تحصيل الأمور الدنية الدنيوية، وتشبهها بالبهائم والحيوانات، فعلى ما ذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أن لها هذه الاستعدادات المختلفة، وهذه الشؤون المتباعدة وان لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيا، وأن يكون كناية عن جعلها مدركة للكليات، وكذا الامر بالاقبال والادباريمكن أن يكون حقيقيا لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها، وأن يكون أمرا تكوينيا لتكون قابلة للامرين أي الصعود إلى الكمال والقرب والوصال، والهبوط إلى النقص وما يوجب الوبال، أو لتكون في درجة متوسطة من التجرد لتعلقها بالماديات، لكن تجرد النفس لم يثبت لنا من الاخبار، بل الظاهر منها ما ديتها كما سنبين فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما المعنى السادس، فلو قال أحد بجوهر مجرد لا يقول بقدمه ولا يتوقف تأثير الواجب في الممكنات عليه، ولا بتأثيره في خلق الأشياء، ويسميه العقل ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقا على ما سماه عقلا، فيمكنه أن يقول: إن إقباله عبارة عن توجهه إلى المبدأ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لاشراقه عليها واستكمالها به.
فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحق الحقيق بالبيان، وبأن لا يبالي بما يشمئز عنه من نواقص الأذهان.
فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمة (عليهم السلام) في أخبارنا المتواترة على وجه آخر فإنهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم، إما على جميع المخلوقات، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة، و أيضا أثبتوا لها التوسط في الايجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الاخبار كونهم (عليهم السلام) علة غائية لجميع المخلوقات، وأنه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح، وقد ثبت في الاخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسطهم تفيض على سائر الخلق حتى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم (عليهم السلام) الوسائل بين الخلق وبين الحق في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق، فكلما يكون التوسل بهم والاذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر، ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الامر ملبسا مشتبها، فاخطأوا في ذلك، وأثبتوا عقولا وتكلموا في
ذلك فضولا، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبي (صلى الله عليه وآله) الذي انشعبت منه أنوار الأئمة (عليهم السلام) واستنطاقه على الحقيقة أو بجعله محلا للمعارف الغير المتناهية، والمراد بالامر بالاقبال ترقيه على مراتب الكمال، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال، وبإدباره إما إنزاله إلى البدن، أو الامر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال فإنه يلزمه التنزل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويومى إليه قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالاقبال الاقبال إلى الخلق، وبالادبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الادبار على الاقبال. وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى: ولا أكملك، يمكن أن يكون المراد ولا أكمل محبتك والارتباط بك، وكونك واسطة بينه وبيني إلا فيمن أحبه، أو يكون الخطاب مع روحهم و نورهم (عليهم السلام) والمراد بالاكمال إكماله في أبدانهم الشريفة أي هذا النور بعد تشعبه بأي بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحب الخلق إلى الله تعالى وقوله: إياكآمر. التخصيص إما لكونهم صلوات الله عليهم مكلفين بما لم يكلف به غيرهم، ويتأتي منهم من حق عبادته تعالى ما لا يتأتي من غيرهم، أو لاشتراط صحة أعمال العباد بولايتهم والاقرار بفضلهم بنحو ما مر من التجوز، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): أول ما خلق الله نوري، وبين ما روى: أول ما خلق الله العقل، وما روي: أول ما خلق الله النور، إن صحت أسانيدها. وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والاطناب، ولو وفينا حقه لكنا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.
وأما الخبر الأخير فهو من غوامض الاخبار، والظاهر أن الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والاسرار، ويحتمل أن يكون كناية عن تعلقه بكل مكلف، وأن لذلك التعلق وقتا خاصا، وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلق العقل من الأغشية الظلمانية، والكدورات الهيولانية، كستر مسدول على وجه العقل، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة. وقوله: خلقة ملك. لعله بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيته، ويحتمل أن يكون " خلقه " مضافا إلى الضمير مبتداءا و " ملك " خبره، أي خلقته خلقة ملك أو هو ملك حقيقة والله يعلم).
([9]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص16.
------------------------
([1]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ص321.