بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(115)
إمكان قصد الوجه والجزم في الأقل لدى الدوران
خامساً: إنّ تَنافي الاحتياط مع قصد الوجه والجزم - على فرض اعتبارهما في العبادة والمعاملة([1]) - إن صحَّ فإنما يصحُّ فيما لو دار الأمر بين المتباينين، كما لو تردد بين وجوب القصر عليه أو التمام، أو ترددت المعاملة الصحيحة بين هذه أوتلك فأجراهما، دون ما لو دار الأمر بين الأقل والأكثر فإنَّ الأقل هو القدر المتيقَّن فيمكن فيه الجزمُ وقصد الوجه، مثاله: المعاملة بالعربية والماضوية مع تقدم الأيجاب على القبول.. الخ فإنَّه المسلّم من صحتها ؛ لذا أمكن الإنشاء جازماً، عكس إجرائه بالفارسية أو بالمضارع، وكذلك الصلاة بتسبيحة واحدة فانها واجبة جزماً فيصح فيها الوجهُ كما يتحقق فيها الجزم، عكس التسبيحتين الأخيرتين.
وأما ان الجزم لا يضر فقده بالعبادة فلصحتها بالإتيان بها باحتمال الأمر أو برجاء المطلوبية بل مصحّحية هذا للعبادية أقوى من الجزم؛ إذ الانبعاث عن احتمال أمر المولى أقوى في العبادية وفي الخضوع والخشوع من الانبعاث عن أمره القطعي.
وحاصل هذا الوجه الخامس مع الرابع السابق: ان الاحتياط الكلي لا يتنافى مع الشرطين إلا في أقل الموارد وهي ما كان الأمر دائراً بين المتباينين وكان في العبادات لا المعاملات.
إشارة للتحقيق في تفكيك الإنشاء عن الـمُنشَأ
تبقى الإشارة إلى ان التفكيك بين الإنشاء والمنشَأ غيرُ معقول بناء على عينية الـمُنشَأ للإنشاء والإيجاب للوجوب كعينية الكسر للانكسار والخلق للمخلوق، لكنّ المبنى غير صحيح، كما سبق وقد فصّلناه في بحث آخر، سابقاً ونشير هنا إشارة: فان الكسر عِلّة الإنكسار وليس هو هو والإيجاد عِلّة الوجود والإنشاء علّة المنشأ، يدلنا على ذلك بعد بداهته ووجدانيته انه يقال: كسرته فانكسر ولا يُعكس فيقال : انكسر فكسرته! كما لا يُساوى فيقال: كسرته فكسرته أو انكسر فانكسر، فصحة الوجه الأول وحده من الوجوه الأربعة، دليلُ العِلّية كما هي دليل نفي العينية.
وعليه: يمكن تفكيك الإنشاء عن الـمُنشَأ، لكنه لُبّاً يعود إلى إنشائه بهذا النحو فليس تفكيكاً، فما جعله ينجعل([2]) كما جعله، ففي الوصية التمليكية مثلاً، الوصية الآن والموصى به بعد الموت، ولم يفكك بين الإنشاء والمنشَأ لأنه أنشأ الملكية بعد الموت لا انه أنشأ الملكية الآن فوُجِدت بعد الموت فتدبر، وتفصيله والأخذ والرد يطلب مما مضى.
الكفاية: الحكومة لا الكشف
وقال المحقق الخراساني: (فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدّمات إلّا على نحو الحكومة دون الكشف، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلاً، سبباً ومورداً ومرتبةً)([3])
المناقشة: القسمة غير حاصرة، وثالثها التبعيض في الاحتياط
وقد يناقش - إضافة إلى ما سبق مما طرحناه من تصوّر مبنيين آخرين هما (الحاكمية) و(الاقتضاء الذاتي أو العِلّي) - : ان هنالك مبنىً آخر معروفاً قسيماً لمبنى الحكومة والكشف وهو مبنى التبعيض في الاحتياط، فكان اللازم ان يطرحه (قدس سره) وإن لم يذعن به كما طرح الكشف وإن رفضه.
توضيحه: ان المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد قد يقال فيها : بأنَّ الاحتياط الكلي إما متعذر وإمّا مستلزم لاختلال النظام والهرج والمرج أو العسر والحرج وإما هو خلاف الإجماع، فعلى الثلاثة الأُوَل الحكومة وعلى الأخير الكشف (وسبق اننا قلنا ان الثالث ينتج الكشف أيضاً، فراجع) وحينئذٍ تبرز أمامنا ثلاثة خيارات:
الأول: ان نقول: بأنَّ العقل يحكم حينئذٍ بحجية الظن.
الثاني: ان نقول: ان العقل يكشف حينئذٍ جعلَ الشارع للظن حجة.
الثالث: ان لا يقال بأيٍّ منهما بل يقال، كما ذهب إليه جمع من الأعلام قبل الكفاية وبعده : بأنَّ الاحتياط الكلي إذا تعذر أو رفضه الشارع، فان الاحتياط الجزئي هو المتعين أي التبعيض في الاحتياط أي الاحتياط في بعض الموارد التي لا يلزم من العمل بالاحتياط فيها اختلالُ نظام ولا غيره (وقد يكون ذلك([4]) في 30% أو أكثر أو أقل) ولا يُنتِج ذلك حجّيةَ الظن، بل لزوم الاحتياط فقط (وهو أصل عملي) فيقيد (الاحتياط في دائرة ما هو مظنون الوجوب) لا غير، أي ان القدر المتيقن من إبراء الذمة وإسقاط التكليف يكون هو العمل بما في دائرة المظنونات، فلم يُنتِج سدُّ باب الاحتياط الكلي إلا وجوبَ الاحتياط الجزئي الذي يتعين في دائرة المظنونات لأنها القدر المتيقن لا الذي يوجب كون الظن حجة، ولذا لو لم تفِ المظنونات بحلّ العلم الإجمالي وجب ان يعمل بالمشكوكات أيضاً (بل وبعض الموهومات لو لم تفِ المشكوكات أيضاً) مع بداهة عدم حجيتها أصلاً، وليس الكلام في اختيار هذا المبنى إذ لنا عليه ردّ، بل في وجوده وتقريره بحسب من تبنّاه.
وعليه: فان لمثل المحقق الرازي صاحب هداية المسترشدين ان يلتزم لا بالحكومة لِيُعترض عليه بأنَّ النتيجة على الحكومة مطلقةٌ من حيث الأسباب (وإن أجبنا عنه بما أجبنا)، بل بوجوب التبعيض في الاحتياط ويلتزم بأنَّ القدر المتيقن من التبعيض هو العمل بظنون الكتاب والسنَّة، دون الشهرة وأمثالها بل والأحلام وأمثالها، فلا يرد عليه إشكالُ الكفاية وحصره الظاهر من عبارته الآنفة.
نعم، لم يلتزم الرازي ظاهراً بذلك، بل التزم بحجية ظنون الكتاب والسنَّة وإن علَّلها بأنَّها القدر المتيقن، فجوابنا هذا إنما هو بنحو القضية الحقيقية أي ان لمثله ان يلتزم بهذا وإن لم يلتزم هو به فتدبر، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ(( (نهج البلاغة: الكتاب 31).
----------------------
([1]) اللف والنشر مشوش، ولكن: كلاهما مشترط في العبادة، على رأيٍ غير منصور فيهما، والأخير مشترط في المعاملة دون الأول كما هو واضح.
([3]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم: ص322.
----------------------
([1]) اللف والنشر مشوش، ولكن: كلاهما مشترط في العبادة، على رأيٍ غير منصور فيهما، والأخير مشترط في المعاملة دون الأول كما هو واضح.