بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(71)
وملخص الإستدلال على حجية الظن، سواء على الإنسداد أم على الإنفتاح([1])، في ضمن مطالب:
العسر والحرج من مصاديق الإضطرار
المطلب الأول: إنّ العسر والحرج، وهما محل البحث في إستلزام الإحتياط الكلي للعسر والحرج، وكذا الضرر، تندرج كلها في دائرة الإضطرار بمعناه العرفي، وإن لم تندرج فيه بمعناه الدقّي الفلسفي، فإن العرفي من الموضوعات هو مصب الأحكام، فتجري عليها([2]) أحكامه([3])، على أن الإستدلال لا يتوقف على هذه المقدمة، لكون العسر والحرج من حدود التكليف وقيوده كما أن الإضطرار، القسيم لهما على فرض التنزّل، من حدوده وقيوده.
الإضطرار اللاحق كالسابق يرفع العلم الإجمالي بالتكليف
المطلب الثاني: إنّ الإضطرار إلى أحد طرفي العلم الإجمالي إما سابق على حدوث العلم الإجمالي أو مقارن أو لاحق، وعلى كل التقادير فإنه مانع عن إنعقاد العلم الإجمالي بالتكليف، وذلك بناء على مبنى الآخوند من كون عدم الإضطرار من قيود التكليف كما هو المنصور أيضاً، إذ لا يعقل أن يُكلَّف المضطر الحقيقي وأما المضطر العرفي فليس مكلفاً أيضاً حسب المستفاد من الآيات والروايات كـ(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)([4]) و((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: ... وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ...))([5]) (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([6]) (يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)([7]) وغيرها مما يفصّل في محله.
الفرق بين الإضطرار وتلف المتعلَّق
المطلب الثالث: إنه بذلك يظهر الفرق بين الإضطرار وبين تلف المتعلَّق أو خروجه عن محل الإبتلاء فإنه يختلف الحال بين ما لو تلف أحد طرفي العلم الإجمالي أو خرج عن محل الإبتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي أو بعده، عكس الإضطرار إذ لا يختلف الحال فيه بين حدوثه قبل العلم الإجمالي أو بعده.
أما التلف ونظائره فلأنه ليس قيد التكليف بل هو قيد المكلف به لوضوح أن وجود المتعلَّق وعدمه ليس شرطاً للتكليف، ألا ترى أن الميتة والمنخنقة والموقوذة محرمة على الإنسان ولو فرض أنه لا توجد ميتة على وجه الأرض؟ والزواج بالـمَحرَم محرّم وإن لم توجد للمكلف الآن محارم وذلك لأن موضوع الحرمة هو الـمَحرَم كالأخت والبنت والأم.. إلخ، وهو كلي طبيعي ولا يشترط في ثبوت الحكم للكلي الطبيعي وجود مصداق له في الخارج.
وعلى أي فإن مما لا شك فيه أن وجود المتعلق ليس شرطاً للتكليف، بل قد يستحيل كما في الواجبات إذ كيف يكون وجود هذا الفرد من صلاة الظهر شرطاً للتكليف به؟ فإنه محال لأنه يكون من طلب الحاصل بل الواجب الطبيعيّ فإذا وجب فعلى المكلف أن يوجِد الفرد.
وعليه: فإذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجاً عن محل الإبتلاء من قبل ثم علمتَ بوقوع قطرة دم فيه أو في الإناء الذي بحوزتِك مثلاً، فلا يوجد حينئذٍ علم إجمالي بالتكليف بالإجتناب وإن كنت عالماً إجمالاً بسقوط قطرة دم في أحدهما، فإنه إذا كانت قد سقطت في الإناء البعيد فأنت لست مكلفاً به وإن كانت سقطت في القريب فأنت مكلف به وحيث لا تعلم بسقوطها في أيهما لذا لا تعلم بحدوث التكليف.
وأما لو كان كلا الإنائين في محل الإبتلاء فسقطت قطرة دم في أحدهما فإنه يجب الإجتناب عنهما للعلم الإجمالي بسقوطها في أحدهما وعدم جريان الأصول النافية في أي منهما، إذ جريان أصالة العدم، عدم الوقوع أو عدم تعلق التكليف بوجوب الإجتناب، في كليهما يعارضه العلم الإجمالي، وجريانه في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح. ثم بعد ذلك إذا خرج أحد الإنائين عن محل الإبتلاء لم يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز في هذا الطرف، والإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.
وذلك عكس الإضطرار فلأنه من قيود التكليف فإنه حتى لو حدث لاحقاً فإن العلم الإجمالي لا يكون منعقداً أصلاً (وليس أنه ليس منجزاً فقط) وذلك لأنه مادام من قيود التكليف فإن التكليف من حين إنشائه قاصر عن الشمول للحالة الإضطرارية، فهو من قبيل ضيِّق فم الركيّة، وكما أن العقل والإختيار من قيود التكليف ولا فرق في عدم تعلق التكليف بالمجنون بين كون جنونه سابقاً على البلوغ والتكليف وبين لحوقه بهما فإنه إذا كان عاقلاً ثم جنّ تبين أنه لم يكن مكلفاً من البدء بأي تكليف في حالة جنونه اللاحقة.
كلام المحقق النائيني (قدس سره)
وبذلك ظهر وجه الجواب عما ذكره المحقق النائيني بقوله: (ـ والإضطرار إلى بعض الأطراف لا يزيد حكمه عن تلف بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي([8]) فكما أن تلف البعض لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الباقي ، كذلك الإضطرار إلى البعض. ومجرد أن الإضطرار إلى متعلق التكليف يكون من قيود التكليف وحدوده دون تلف المتعلق لا يصلح فارقا في نظر العقل الحاكم بالإستقلال في باب الإمتثال والخروج عن عهدة التكليف في موارد العلم الإجمالي. وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال)([9]).
المناقشة
والغريب أن كلامه (قدس سره) مصادرة بل هو مستبطن للجواب عن كلامه فلاحظ آخره: (في نظر العقل الحاكم بالإستقلال في باب الإمتثال والخروج عن عهدة التكليف في موارد العلم الإجمالي) إذ مع تسليم أن الإضطرار من قيود التكليف فلا يوجد تكليف أصلاً مع الإضطرار فكيف يقال: (في باب الإمتثال والخروج عن عهدة التكليف) مع أنه لا تكليف أصلاً على الفرض؟
توضيح البحث بالمثال
وليتضح البحث لا بد من التمثيل بمثالين أحدهما في التدريجيات والآخر في العرضيات:
أما التدريجيات: فكما لو نذر أن يصوم يوماً محدداً ثم شك أنه نذر صوم يوم الجمعة أو السبت، وكان أو صار مضطراً إلى الإفطار يوم الجمعة فإنه لا يجب عليه صوم يوم السبت؛ إذ أن نذره لو كان على صوم يوم الجمعة فإنه لا ينعقد لفرض الإضطرار إليه (إذ الكلام الآن عن الإضطرار إلى أحد الطرفين معيناً) ولو كان على يوم السبت انعقد، لكنه حيث لم يعلم أنه نذر أيهما فلم يعلم بحدوث التكليف أصلاً لتردده بين الحادث وعدمه (لفرض تقيّد التكليف ثبوتاً بعدم الإضطرار) فلا يوجد اشتغال يقيني.
عكس ما لو لم يضطر إلى الإفطار فإنه يجب عليه صوم كلا اليومين لأنه قد نذر حتماً، والنذر منعقد سواء أتعلق بالجمعة أم السبت فذمته مشتغلة قطعاً ولا يخرج عن عهدته قطعاً إلا بصومهما.
وأما غيرهما: فكما لو علم بسقوط قطرة دم في أحد الإنائين وكان أو صار مضطراً إلى شرب أحدهما المعيّن، فإنه وإن علم إجمالاً بسقوط قطرة الدم في أحدهما، وهو أمر تكويني لا كلام فيه، لكنّ الكلام في (حدوث التكليف) وهو أمر تشريعي فإنه، مع الإضطرار لهذا الطرف معيّناً، لا يعلم بحدوث التكليف أصلاً إذ أن ما سقطت فيه قطرة الدم إن كان هو المضطر إليه فإنه ليس مكلفاً بالإجتناب عنه جزماً، وأما الإناء الآخر فإنه بحسب الفرض ليس مكلفاً باجتنابه لفرض أن الإناء الأول هو الذي سقطت فيه قطرة الدم، وإن كان ما سقطت فيه قطرة الدم هو الثاني غير المضطر إليه فإنه لو علمنا به وجب تجنبه لكنه لا علم به، وأما العلم الإجمالي فإنه لا يؤثر إذ يمكن جريان الأصل النافي في هذا الطرف (أ) وحده دون معارضته بجريان الأصل النافي في الطرف الآخر (ب) كي يقال بمنافاتهما معاً للعلم الإجمالي، لفرض أن الطرف الآخر (ب) غير محتاج لجريان الأصل النافي فيه لأنه مضطر إليه فلا تكليف فيه قطعاً من غير توقف على جريان الأصل النافي فيه فيجري الأصل النافي في (أ) دون معارض. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الباقر (عليه السلام): ((إِنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ مِنْكُمْ لَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَعَلِّمُوهُ إِخْوَانَكُمْ كَمَا عَلَّمَكُمُوهُ الْعُلَمَاءُ))
(الكافي: ج1 ص35).
------------------------------------
([1]) لكن بوجهين، كما سيأتي.
([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص463.
([9]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص257.
([1]) لكن بوجهين، كما سيأتي.