061-خمس وجوه لرد إشكال ان رفع الحرج النوعي خلاف الامتنان-إشكال الشيخ في الشبهة غير المحصورة وإشكال اليزدي عليه
الاثنين 20 جمادى الآخرة 1443هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(61)
حكمة عدم جعل الحكم للكل، توهم عدم حرجية الحكم عليه([1])
رابعاً: الحل أيضاً بان وجه الحكمة في عدم جعل الحكم على الجميع، رغم ان الحرج مما يقع فيه المعظم لا الكل، هو انه لو أوجبه على الكل ولكن رفعه عمن يقع في حرج منه، فان كثيراً ممن يقع في حرج منه قد يلتزم بالحكم إما لأنه يشك في مفهوم الحرج وسعته وحدوده فيرى نفسه ملزماً بالعام الفوقاني بعد شكه في سعة وضيق المخصص أو الحاكم المنفصل، أو لأنه يشك في مصداقه وانه ممن يقع في حرج منه فيستصحب العدم أو يلتزم به لأنه محتاط أو شكاك، لذا يرفع الله الحكم عن الجميع رحمةً بهم: أما أولئك الذين يقعون في حرج، فواضح، وأما غيرهم ممن لا يقع في حرج، فللجهات الماضية، والخلاصة: انه لو أوجب مطلقاً ورفعه عمّن يقع في حرج منه، أوقع كثيراً ممن الحكم عليه حرجي، في حرج الالتزام بالتكليف، لتوهمه انه ليس الحكم عليه حرجياً. فتأمل.
في الإرشاد امتنانان، وفي المولوية امتنان واحد
خامساً: ان رفع الحكم عمّن لا يقع في حرج لا يستلزم هو تفويت المصلحة من غير تداركها بالتسهيل كما قال (قدس سره)، وذلك لأن الذي يفوّت المصلحة هو عدم إرشاد الشارع إليها مع جهل المكلف بها، لا عدم إيجاب الحكم عليه، فان له مع إرشاده إليها ان لا يوجب على المكلف وذلك جمعاً بين امتنانين: الامتنان عليه بإرشاده للمصلحة في هذا الفعل أو المفسدة في ذاك، والامتنان عليه بعدم إيجابه مولوياً عليه كي لا يستحق العقاب بالترك، بينما في الإيجاب امتنان واحد فقط.
بعبارة أخرى: يكفي في الامتنان أحد الأمرين: الأمر الإرشادي، أو الأمر المولوي، والأخير فيه امتنان الإلزام بما فيه مصلحة ملزمة ولكن فيه زيادة عسر على المكلف بعقوبته عند الترك إذ يزيد على خسارته المصلحة الدنيوية بالترك انه يعاقب عقوبة أخروية فوق ذلك، أما الأول (الأمر الإرشادي) ففيه امتنان الإرشاد، والعاقل عادة ينبعث عنه ولو فرطّ به خسر مصلحته الملزمة ولكن من غير ان يتضمن الأول مفسدة عقوبته إذ تكفي عقوبته الدنيوية بخسران المصلحة الملزمة فَلِم يزيد المولى عليه عقوبة أخرى؟
لا يقال: فلم أوجب الله الواجبات، بل كان الأفضل على هذا ان يرشد إليها فقط؟.
إذ يقال: الوجه فيه ان مصلحتها بالغة جداً لذا زاد على الإرشاد، المولوية، كي لا يتركها المكلف حتماً، أما ما عدا ذلك فانه يكفي فيه الإرشاد إذ ليس الداعي بتلك الشدة ولا المصلحة بتلك القوة والحدة.
ألا ترى ان الطبيب، لو كان مولى أيضاً ككونه أباً، يكفي إرشاده للمريض إلى المضر بحاله والنافع مع التأكيد بلزوم التداوي بما وصفه، وانه، رحمةً به، لا يوجبه عليه مولوياً كي لا يقع في محذور عقوبته بالمخالفة؟
والحاصل: ان في الأمر الإرشادي جمعاً بين الحقين. فتأمل وتدبر.
البحث في غير المحصورة عن الشبهة الموضوعية أو الحكمية
إذا عرفت ذلك فنقول:
البحث يقع تارة في الشبهة الموضوعية غير المحصورة وأخرى في الشبهة الحكمية غير المحصورة، وقد استدل الشيخ بعدم إيجاب الاحتياط في الأخيرة إستلزام إيجابه العسر والحرج([2])، فأشكل عليه اليزدي بنفس ما أشكل به الشيخ على القائلين بلزوم الاحتياط في الصورة الأولى مستندين إلى استلزام إيجاب الاحتياط العسر والحرج، فردّ الشيخ استدلالهم بان الشبهة غير المحصورة ليست واقعة واحدة وليست عنواناً وارداً في لسان الشارع ليشمله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([3])([4]) أو ما دل على دوران الأحكام الكلية مدار السهولة على الأغلب بل هو عنوان مخترع للفقهاء ومرجعه إلى عناوين كثيرة كل عنوان منها يجب ان يلاحظ حاله مستقلاً وانه موجب للعسر على المكلف أو لا فإن أَوْجَبَ (أي الاحتياط في الشبهة الموضوعية غير المحصورة) العسر في عنوانٍ (كالغصب، لو تردد المغصوب بين متاع ألف تاجر وهذا المكلف يريد الشراء من أحدهم) رَفَعَهُ لا حرج، ومادام لا يوجبه في عنوان آخر كجلد الميتة، لو تردد بين ألف ملبس ومتجر للقماش) فانه لا يرتفع لزوم الاحتياط باجتنابها جميعاً؛ لأن الفرض انه ليس حرجياً في خصوص هذا العنوان، إذاً لا يصح الاستدلال على رفع وجوب الاحتياط الكلي في أطراف الشبهة الموضوعية غير المحصورة، بلزوم العسر والحرج منه.
اليزدي: الشيخ فرّق بين الشبهتين من غير فارق
فأشكل المحقق اليزدي عليه بان عين ما ذكره (قدس سره)، يجري في إيجاب الاحتياط في الشبهة الحكمية غير المحصورة، كما هو مورد كلام الشيخ هنا حيث استدل([5]) (قدس سره) على رفع وجوب الاحتياط فيها بان إيجاب الاحتياط في الشبهات الكلية الحكمية يستلزم الحرج والحرج، فأورد اليزدي عليه بان الشبهة الكلية الحكمية غير المحصورة ليست واقعة واحدة (كما ان الشبهة الموضوعية غير المحصورة ليست واقعة واحدة) كي يشملها (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فوِزان هذا وِزان ذاك تماماً، فكيف جرّت الباء هنا (وَرَفَعَ لا حرج وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية غير المحصورة) ولم تجرّ هناك (لم ترفع لا حرج وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية غير المحصورة) مع ان الجامع في البابين واحد وهو ان (لا حرج) حكم شرعي لا يرفع إلا ما وضعه الشارع وهو عناوين أحكامه واحدةً، واحدةً، دون ما لم يجعله الشارع وهو عنوان (الشبهة الموضوعية / أو الحكمية غير المحصورة؟).
كلام الشيخ (قدس سره)
قال الشيخ في الشبهة الموضوعية غير المحصورة: (وأمّا ما ورد: من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب، فلا ينفع فيما نحن فيه؛ لأنّ الشبهة الغير المحصورة ليست واقعةً واحدةً حُكم فيها بحكمٍ حتى يدّعى أن الحكم بالاحتياط في أغلب مواردها عسرٌ على أغلب الناس، فيرتفع حكم الاحتياط فيها مطلقاً، بل هي عنوانٌ لموضوعاتٍ متعدّدة لأحكام متعدّدة، والمقتضي للاحتياط في كل موضوع هو نفس الدليل الخاص التحريمي الموجود في ذلك الموضوع، والمفروض أنّ ثبوت التحريم لذلك الموضوع مسلّم، ولا يرد منه حرج على الأغلب([6])، وأنّ الاجتناب في صورة اشتباهه أيضاً في غاية اليسر؛ فأي مدخلٍ للأخبار الواردة في أنّ الحكم الشرعي يتبع الأغلب في اليسر والعسر؟.
وكأنّ المستدلّ بذلك، جَعَلَ الشبهة الغير المحصورة واقعةً واحدةً مقتضى الدليل فيها وجوب الاحتياط لولا العسر، لكن لـمّا تعسر الاحتياط في أغلب الموارد على أغلب الناس حكم بعدم وجوب الاحتياط كلّيةً.
وفيه: أنّ دليل الاحتياط في كل فردٍ من الشبهة ليس إلّا دليل حرمة ذلك الموضوع.
نعم، لو لزم الحرج من جريان حكم العنوان المحرّم الواقعي في خصوص مشتبهاته الغير المحصورة على أغلب المكلّفين في أغلب الأوقات - كأن يدّعى: أنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس الواقعي مع اشتباهه في أمورٍ غير محصورة، يوجب الحرج الغالبي - أمكن التزام ارتفاع وجوب الاحتياط في خصوص النجاسة المشتبهة.
لكن لا يتوهّم من ذلك: اطّراد الحكم بارتفاع التحريم في الخمر المشتبه بين مائعاتٍ غير محصورة، والمرأة المحرّمة المشتبهة في ناحيةٍ مخصوصة، إلى غير ذلك من المحرّمات)([7]).
كلام اليزدي (قدس سره) وإشكاله على الشيخ (قدس سره)
وأشكل عليه اليزدي بـ(وثانياً: يرد على التمسك بالحرج في رفع الاحتياط هنا ما أورده المصنف في التمسك بالحرج في رفع الاحتياط في الشبهة غير المحصورة، فإنّه بعد إيراده أوّلاً بأنّ الآيات والأخبار ناظرة إلى الحرج الشخصي لا النوعي قال:
وأما ما ورد من دوران الأحكام مدار السهولة على الأغلب فلا ينفع فيما نحن فيه)([8]) و:(فيقال فيما نحن فيه أيضاً: إنّ الاحتياط الكلي ليس واقعة واحدة و عنواناً واحداً بالنسبة إلى تكليف واحد حتى يرتفع بدليل رفع العسر والحرج، بل لا بدّ من ملاحظة كل باب من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة إلى غير ذلك مستقلاً، فكل باب يكون الاحتياط فيه حرجاً يحكم برفعه، وكل باب لا يلزم من الاحتياط فيه حرج يحكم بلزوم الاحتياط، فيثبت من ذلك القول بتبعيض الاحتياط، ولا يمكن استنتاج حجية الظن المطلق مطلقاً)([9]).
ولكن إشكال اليزدي (قدس سره) على الشيخ (قدس سره) يمكن الجواب عنه بأكثر من وجه فأنتظر.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ، فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ(( (الكافي: ج1 ص52).
------------
([1]) على من الحكم عليه حرجي.
([3]) الكافي (فروع) : ج 3 ص 13 ح 7 ، وسائل الشيعة : ج 1 ص 212 ب 9 ح 543.
([6]) أقول: الأولى ان يقول: وقد ورد ذلك الحكم مورد الحرج.
([7]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص258-260.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
------------
([1]) على من الحكم عليه حرجي.