479-تتمة وجه الجمع بين آية (السفهاء) والروايات فقه (وابتلوا اليتامى) واستدلال غير المشهور على صحة معاملات الصبي
السبت 23 ربيع الأول 1443هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(479)
التعارض العرضي بين الروايتين
الرابعة: ولكن قد يورد على عدم التعارض بين روايتي (هُمُ الْيَتَامَى) و(مَنْ لَا تَثِقُ بِهِ) استناداً إلى كونهما تفسيراً للآية الخامسة ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ))([1]) فهما منفيان ولا تنافي بين المنفيين، كالمثبتين، بثبوت التعارض بينهما عرضاً؛ وذلك إذا علم إجمالاً بان المراد بـ((السُّفَهاءَ)) في الآية الكريمة هو احدهما فقط وان احدى الروايتين هي المعتبرة دون الأخرى (من دون العلم بان المعتبر أي منهما) أو ان احدى الروايتين كناية عن الأخرى أو مشيرة لها، فحينئذٍ يقع التعارض بين التفسيرين، فالتعارض وليد العلم الإجمالي لو تمّ. لكن الكلام في منشأه وفي إثباته.
ولا يتوهم: ان التعارض متولد من مفهوم اللقب في الروايتين ومنطوقها بما هما مفسرتان للآية بدعوى ان مفهوم([2]) ((وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ)) بتفسير (هُمُ الْيَتَامَى) إيتاء غير اليتامى كانوا راشدين أو لا (ما دمنا فسرنا السفه باليتم لا بالسفه العرفي) ومفهوم([3]) الآية بتفسير (مَنْ لَا تَثِقُ بِهِ) هو إيتاء من تثق به يتيماً كان أو لا، فيتعارضان في (اليتيم الذي نثق به)، إذ يجاب: بان اللقب لا مفهوم له فيكون منطوق كل منهما أقوى من مفهوم الآخر فلا تعارض ويكون الحاصل عدم إيتاء اليتيم، راشداً كان أم لا، لإطلاق الرواية الأولى وعدم إيتاء من لا نثق به يتيماً كان أو لا لإطلاق الرواية الثانية، ولا يدفع إطلاقَ أي منهما مفهومُ الآخر.
وإجمال الكلام: ان الروايتين لو أريدا جميعاً فانه لا تنشأ مشكلة التعارض من جهة مفهوم اللقب.
رواية القمي رافعة للإجمال وهي المرجع
الخامسة: ولكن لو فرض إجمال المراد من ((السُّفَهاءَ)) في الآية بين تفسيري الروايتين أي إبهامها، فان رواية القمي السابقة رافعة للإجمال بمنطوقها ومفهومها، أي انها المرجع وعليها المعوّل في تفسير الآية، فيكون الحاصل: انه إن كان اليتيم أي الصبي سفيهاً مفسداً فلا يدفع إليه ماله وإلا دفع إليه ماله.
وهي مقيِّدة لـ(اليتامى) ومؤكِّدة لـ(من لا تثق به)
ولكن على فرض صحة الروايتين وتمامية التفسيرين فان رواية القمي تقيّد الرواية الأولى (هم اليتامى) بالمفسد أي السفيه العرفي فنرفع اليد عن إطلاق اليتامى الشامل للراشد منهم ببركة مفهوم الشرط في رواية القمي، كما ان رواية القمي تؤكد عموم الرواية الثانية (من لا تثق به) لانها تطابقها منطوقاً ومفهوماً، مع فارق ان مفهوم رواية القمي مفهوم شرط فهو حجة ومفهوم رواية (من لا تثق به) مفهوم لقب وليس بحجة. هذا.
استدلال أبي حنيفة بالآية على صحة تصرفات الصبي
وقد نقل المحقق النائيني في منية الطالب عن أبي حنيفة استدلاله بالآية الشريفة على صحة تصرفات الصبي بإذن الولي، خلافاً للمشهور الذين استدلوا بها على عدم الصحة حتى بإذن الولي، وقد نقل الميرزا استدلاله عن تفسير الفجر الرازي قال في التفسير: (المسألة الأولى: قال أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، وقال الشافعي: غير صحيحة، أحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لأن قوله ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)) يقتضي ان هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال: وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فثبت أن قوله (وابتلوا اليتامى) أمر للأولياء بان يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم)([4]).
توضيح ومناقشة
أقول: كلامه يتكون من مقدمتين:
الأولى: ان الابتلاء في ((وَابْتَلُوا الْيَتامى...)) إنما يكون قبل البلوغ وهذا صحيح لظاهر الآية إن لم يكن نصها في انه قبل البلوغ ((وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ...)) إذاً الابتلاء يبدأ من نقطة ما ويصل في نهايته إلى حد البلوغ، كما سبق.
الثانية: إن الابتلاء إما ان يراد به الابتلاء بالبيع والشراء وسائر المعاملات، خاصةً، وإما ان يراد به الأعم أي ابتلوهم بأنواع الابتلاء ومنها البيع والشراء والتعامل، وكلا التقديرين مثبت لصحة معاملاته الابتلائية.
اقول: لكن استدلاله بهذا القدر لا يثبت إلا صحة معاملاته الابتلائية دون غيرها فكان عليه ان يكمل: ونلتزم بصحة معاملاته الأخرى ببركة الإجماع المركب أي بعدم القول بالفصل وانه إذا صحت معاملاته الابتلائية حسب ظاهر الآية صحت سائر معاملاته إذ لا قائل بالفصل.
وحيث فهمنا ضرورة وجود هذه التتمة وان الاستدلال مبني عليها يمكن لنا ان نجيب بصحة عكس المعادلة بان نقول ان عدم القول بالفصل يفيد عكس مقصود أبي حنيفة، إذ إذا ثبت بالآية انه لا يجوز تصرفاته غير الابتلائية ببركة (فادفعوا) أي بعد الرشد دون ما قبله، ثبت عدم جواز التصرفات الابتلائية أيضاً لعدم القول بالفصل، والحاصل: ان الإجماع المركب وعدم القول بالفصل أعم من مدّعى أبي حنيفة ونقيضه، وسيأتي مزيد توضيح لهذا وإكمال له.
وقد (أجاب الشافعي بأن قال: ليس المراد بقوله (وابتلوا اليتامى) الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك ((فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)) فإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على قول الشافعي)([5]).
وسيأتي الجواب عن كلام أبي حنيفة فأنتظر.
أَخَذَ صحيح علومه من الإمام عليه السلام وبنى سقيمها على الأوهام
تنبيه: من الواضح ان أبا حنيفة حصل على ما حصل عليه من العلم عبر تتلمذه على الإمام الصادق عليه السلام بإذعانه هو إذ يقول (لولا السنتان لهلك النعمان)([6]) لان اسمه النعمان بني ثابت، فما كان له من مطلب حق وصحيح فهو فيه عيال على الإمام الصادق عليه السلام وما كان له من خلط وخطأ وخبط وخطل فهو من قياسه وقوله بالرأي وشبه ذلك، وعليه: فإذا شوهدت في كلماته لمحات علمية (سواء أصحت أم بطلت) فإنما أخذ صحيحها من الإمام وبنى سقيمها على ما لديه من الأوهام، وعلى أي فان أي مستوى علمي فرض له. فانه مدين، باعترافه، للإمام عليه السلام.
ومثل كلامه السابق يحتمل ان يكون، على فرض صحته، قد أخذه من الإمام، كما يحتمل ان يكون منه، على فرض سقمه وعدم أخذه من الإمام، لكنه توصل للقدرة على الاستدلال بهذا النحو، من تتلمذه على يدي الإمام وتعلمه منه كيفية الاستدلال فتدبر.
ونضيف: ان بعض العلماء كان يستظهر مستنداً إلى شواهد عديدة ان كثيراً من الروايات النبوية المذكورة في كتب العامة، غير الموجودة في كتبنا، والتي يطابقها الاعتبار، قد يكون رواة العامة أمثال أبي حنيفة أخذوها من الإمام الصادق عليه السلام بسنده عن رسول الله أو من سائر رواتنا عنهم عليه السلام ، لكنهم ألغوا السند ووضعوا له سنداً من رجالهم، أما إرضاءً للسلطان أو خوفاً منه أو لخبث في النفس، وأما نحن فان كثيراً من كتبنا أحرقت أو أغرقت أو دفنت فلم تصل إلينا الرواية بأسانيدها، ولذا لا يصح ان نرد رواية رويت عنهم عليه السلام لمجرد انها وجدت في كتب العامة، بل نرد علمها إلى أهلها ككل خبرٍ آخر ضعيف أو مجهول، مادام لم تعارضها سائر الأدلة المعتبرة، فتدبر جيداً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم عليه السلام: (يَا هِشَامُ، مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ: مَنْ أَظْلَمَ نُورُ تَفَكُّرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ). (تحف العقول: ص442).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) سورة النساء: الآية 5.
([4]) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي، ج9 ص187-188.
([5]) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي، ج9 ص188.
([6]) مختصر التحفة الاثني عشرة لشاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي، ص ۸.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
قال الإمام الكاظم عليه السلام: (يَا هِشَامُ، مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ: مَنْ أَظْلَمَ نُورُ تَفَكُّرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ). (تحف العقول: ص442).
([1]) سورة النساء: الآية 5.