بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(245)
فرعٌ: ضمان الحرّ وعدمه
وقد ذهب (الجواهر) و(الفقه) إلى عدم ضمان الحرّ بوضع اليد عليه وعدم ضمانه لو تلف وهو في بيده، ولا يتوهم التكرار أو التأكيد بل هما مسألتان:
الأولى: انه هل يُضمن الحرّ بمجرد وضع اليد عليه، كما تُضمن الأموال بوضع اليد عليها وإن لم تتلف، بمعنى ان ضمانها يتعلق بذمته بمجرد وضع يده.
الثانية: انه هل يضمنها إذا تلفت، أي هل يستقر الضمان عليه حينئذٍ؟، فالأُولى عن الضمان بنفسه والثانية عن تنجزه.
والأقوال في المسألة: الضمان مطلقاً وهو المختار، وعدمه مطلقاً إلا لو كان هو السبب المباشر لقتله أو جرحه والإضرار به، والتفصيل بين ما لو أهمله فتلف وما لم يهمله، وما حدث بآفة سماوية أو أرضية أو غيرهما، وما لو جعله في مظان التلف كأرض مسبعة وغيره.
(قال في الشرائع: (والحر لا يضمن بالغصب، ولو كان صغيراً). وفي الجواهر: لا عيناً ولا منفعة، بلا خلاف محقق أجده فيه على معنى كونه كغصب المال الموجب للضمان، وإن مات حتف أنفه، بل ولا إشكال ضرورة عدم كونه مالاً، حتى يتحقق فيه الضمان ـ انتهى)([1]).
وهذه هي المسألة الأولى، واما المسألة الثانية فهي (ثم انه لو أصاب الصغير غرق أو حرق أو موت في يد الغاصب من غير تسبيبه لم يضمنه، وقال الشيخ في كتاب الجراح: يضمنه الغاصب إذا كان صغيراً، فتلف بسبب كلدغ الحية والعقرب ووقوع الحائط. كذا في الشرائع، وفي القواعد لو تلف الصغير في يد الغاصب بسببٍ كلدغ الحية ووقوع الحائط ضَمِنَ على رأي. وعلق عليه في مفتاح الكرامة بقوله: قوي. كما في الخلاف والدروس. وفيه قوة كما في المختلف. وحسن كما في المقتصر، وهو خيرة المبسوط في باب الجراح والتبصرة وتعليق الإرشاد ومجمع البرهان. وقد أفتى به جمع، كما في جامع المقاصد، وكأنه مال إليه فيه.
والمخالف الشيخ في غصب المبسوط، والمحقق في ظاهر الشرائع أو صريحها، والشهيد في ظاهر إطلاق اللمعة، وفي الإيضاح أنه أقوى. وقد يظهر ذلك في موضع من التذكرة، وكأنه مال إليه في المسالك والكفاية، وفي الأول انه الأشهر، وفي الثاني انه المشهور، ولا ترجيح في النافع وكشف الرموز والتحرير والإرشاد والتذكرة في موضع منها، وغاية المراد والتنقيح والمهذب البارع والروضة، والأول أقوى ـ انتهى)([2]).
الأدلة على ضمان من اختطف حراً
والمهم التدبر في الأدلة والمناقشات.
1- ((عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ))
الدليل الأول: قوله صلى الله عليه واله وسلم ((عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ))([3]) وقد أخذ الخاطف أو الغاصب أو السارق الصبيَّ الحرَّ أو المجنون أو الكبير فعليه ضمانه بمجرد وضع يده عليه ويستقر عليه بتلفه مطلقاً نظراً لإطلاق الحديث، ولكن قد يورد عليه بوجهين:
الإشكال السندي على الرواية والجواب عنه
الأول: ان الحديث مرسل عنه صلى الله عليه واله وسلم.
وقد يجاب بانه مشهور لدى الفريقين الخاصة والعامة، والشهرة لدى الخاصة جابرة للسند فيما نرى فكيف بالشهرة بين الفريقين؟ بعبارة أخرى: انه قد يقول حتى من لا يرى الشهرة جابرة، بجبر الشهرة بين الفريقين نظراً لأنه من المحال عادة أن يتفق الخاصة والعامة على حديث عن رسول الله بنص محدد موحّد من دون صدوره منه صلى الله عليه واله وسلم فتدبر.
وعلى أي فان القاعدة (والحديث) مما بنى عليها العقلاء وجرت عليها السيرة العقلائية.
لا يقال: انها دليل لبّي فلا يشمل صورة الشك؟.
إذ يقال: أولاً: إذا جبرت السيرة والروايةَ كان المرجع إطلاق الرواية.
ثانياً: انه لا شك لدى العقلاء في ضمان الغاصب للصبي إذا تلف عنده، مطلقاً أو في الجملة، بل ولا شك لديهم في ضمانه بمعنى انه بعهدته ومسؤول عنه، بمجرد وضع يده عليه وأخذه من دون رضا وليه.
الإشكالات الدلالية الثلاثة
الثاني: ما أشكل به مجمع البرهان من: (الظاهر انه لا خلاف في ان الحر لا يضمن بوضع اليد والغصب، لأنه ليس بمال فلا يدخل تحت يد المتصرف، فان إثبات اليد والتصرف إنما يقال في الأموال)([4]) والفقه من: (لأنه يقال ظاهر حتى تؤدى في ذيل الحديث الأول انه في المال ونحوه، فلا يشمل مثل إرجاع الحر أو إعطاء ديته فانه لا يصدق عليه الأداء)([5])
ونضيف: ومن ان (ما) لا تشمل العاقل، فان (مَا) لما لا يعقل و(من) لمن يعقل فلا تشمل (مَا أَخَذَتْ) الحر الذي أخذه كبيراً كان أم صغيراً، وعلى ذلك أجاب صلى الله عليه واله وسلم المشركين عندما أقبحوا على القرآن الكريم بانه حكم بان عيسى المسيح في النار لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ)([6]) وان المسيح كان يُعبد وان الآية تفيد بانه عليه السلام في النار؟ فأجاب صلى الله عليه واله وسلم انه تعالى لم يقل (إنكم ومن تعبدون) بل قال (وَما تَعْبُدُونَ) و(ما) لا تشمل العاقل؟([7])
فهذه إشكالات ثلاث أولها مستند إلى عدم شمول (الْيَدِ) في الرواية لغير الأموال وثانيها إلى عدم انطباق (تُؤَدِّيَ) والثالث إلى عدم صدق (مَا).
الأجوبة: صدق (اليد) و(ما أخذت) و(تؤدي) عليه
وقد يجاب بوجهين:
عن الأول بان (اليد) و(الأخذ) (مَا أَخَذَتْ) يصدقان عرفاً على الصبي الذي أخذه كما يصدقان على المال الذي أخذه فلا وجه لتخصيصه بالأموال.
وعن الثاني بان (تُؤَدِّيَ) أعم من أداء المال وأداء الصبي، ألا ترى انه لو أخذ الصبي كأمانةٍ من أبيه ليوصله إلى أمه مثلاً، انه يقول: أديت الأمانة أو أديت ما أخذت؟
وعن الثالث: بان ذلك وإن صح لكنه يخرج عنه بالقرينة والقرينة هي مناسبات الحكم والموضوع بل مناسبة بعض الموضوع وهو (أَخَذَت) لبعضه الآخر وهو (ما) فان ظاهر (مَا أَخَذَتْ) الأعم من طفل أخذه أو كتاب أخذه، أي ان ظاهر (مَا أَخَذَتْ) الأعم من العاقل وغيره، فتأمل.
وقد يستدل للتعميم بعموم (تُؤَدِّيَ) الصادق في الصورتين كما سبق، فيكون حاكماً على (ما) فتوسعها، لكنه لو سلم فليس أرجح من العكس، ولو تردد فالإجمال يمنع التمسك لأنه فرع إحراز العموم.
أما المحقق الرشتي فقد جعل خصوص (تُؤَدِّيَ) قرينة على تخصيص (ما) والظاهر انه غفلة عن ان (ما) خاصة بما لا يعقل. (قال المحقق الرشتي: حتى تؤدي قرينة على تخصيص الموصول ولا يمكن جعل عمومه([8]) قرينة على التوسع والمسامحة في معنى اليد الأول، وجه القرينة: عدم صدق الأداء على دفع دية الحر، لأن دفع القيمة أو المثل في الماليات دفع بالعين المغصوبة عرفاً ضرورة قيام العوض في الماليات مقام المعوض في جل الفوائد المقصودة عند العقلاء لو لم يكن في كلها، بخلاف الدية فانها ليست عوضاً لنفسٍ لا حقيقة ولا حكماً، وإنما هي حكم شرعي شبه الجريمة)([9]).
فان الإشكال وقع أولاً في التزامه بخصوص (تؤدي) وعدم شموله لأداء الطفل الحرّ، كما سبق، وثانياً في ان (ما) خاص بغير ذوي العقول فكيف التزم بعمومه ووسّع ببركته (اليد) الذي سلّم بانه ظاهر في اليد على الأموال، إلا على الوجه الذي ذكرناه فتأمل. هذا.
ولعله تأتي تتمة ومناقشة في قوله (لأن دفع القيمة أو المثل في الماليات دفع بالعين المغصوبة عرفاً ضرورة قيام العوض في الماليات مقام المعوض في جل الفوائد المقصودة عند العقلاء لو لم يكن في كلها، بخلاف الدية فانها ليست عوضاً لنفسٍ لا حقيقة ولا حكماً).
2- قوله عليه السلام ((إِنَّمَا أَرَادَ الْإِصْلَاحَ))
الدليل الثاني: (المفهوم من رواية السكوني، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عليه السلام: ((أَنَّ رَجُلًا شَرَدَ لَهُ بَعِيرَانِ فَأَخَذَهُمَا رَجُلٌ فَقَرَنَهُمَا فِي حَبْلٍ فَاخْتَنَقَ أَحَدُهُمَا وَمَاتَ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام فَلَمْ يُضَمِّنْهُ وَقَالَ إِنَّمَا أَرَادَ الْإِصْلَاحَ))([10])
وذلك استناداً إلى كون (إِنَّمَا أَرَادَ الْإِصْلَاحَ) كبرى كلية وكون مفهومها كبرى كلية أيضاً؛ فان المفهوم منها اما الضد أو النقيض أي ان المفهوم اما انه إن أراد الإفساد ضمن، وهو الضد، أو ان لم يرد الإصلاح ضمن، وهو النقيض، والظاهر من المفهوم المتبادر هو النقيض لا الضد على انه لو أريد لما أضر إلا بالاستدلال على ما لم يكن إصلاحاً ولا إفساداً. فتدبر
لا يقال: المفهوم الضد كقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)([11]) إذ المفهوم (على تقدير الإذعان به) ان جاءكم عادل، وهو الضد، لا ان لم يجئ فاسق بنبأ فلا تتبينوا إذ انه لغو إذ لا يعقل النهي عن التبين ولو إرشاداً مع عدم مجيء خبر أصلاً؟
إذ يجاب: ذلك لخصوصية المقام، وهو لغوية إرادة النقيض، عكس ما نحن فيه، ومع إمكانهما فالظاهر ان المفهوم هو النقيض أو الأعم منهما([12]). فتدبر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي جعفر صلى الله عليه واله وسلم قال: ((مَنْ عَلَّمَ بَابَ هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً وَمَنْ عَلَّمَ بَابَ ضَلَالٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ أُولَئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً)) (الكافي: ج1 ص35).
--------------------------------------------------------------
([1]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص63.
([2]) المصدر نفسه: ص65.
([3]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء عليه السلام ـ قم: ج1 ص224.
([4]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص63.
([5]) المصدر نفسه: ص64.
([6]) سورة الأنبياء: آية 98.
([7]) Sقَالُوا فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَR إِذَا كَانَ مَعْبُودُهُمْ مَعَهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ عَبَدُوا الْمَسِيحَ أَفَتَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيَّ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَالْمُتَعَارَفُ فِي لُغَتِهَا أَنَّ مَا لِمَا لَا يَعْقِلُ وَمَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَالَّذِي يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعاً فَإِنْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) يُرِيدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي عَبَدُوهَا وَهِيَ لَا تَعْقِلُ وَالْمَسِيحُ عليه السلام لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهَا فَإِنَّهُ يَعْقِلُ وَلَوْ كَانَ قَالَ إِنَّكُمْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ لَدَخَلَ الْمَسِيحُ فِي الْجُمْلَةِ فَقَالَ الْقَوْمُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، دار الذخائر ـ قم: ج2 ص186).
([8]) الموصول وهو (ما).
([9]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الغصب، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت: ج78 ص64.
([10]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج10 ص315.
([11]) سورة الحجرات: آية 6.
([12]) فان لم يرد الإصلاح أو أراد الإفساد، فهو خاص.