13- مناقشات اخرى للتوهم : لاتلازم بين قصد الضال الهداية ، والقصور ، والاسماء موضوعة للمسميات الثبوتية ، والصدق العرفي والجواب عن شبهة ان ظاهر الافعال القصدية ، بوجوه ثلاثة
الاحد 13 ذي القعدة 1433هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال البحث في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وانها يمكن ان تدل على حرمة حفظ كتب الضلال ومطلق الاضلال عن سبيل الله وكذا مطلق حرمة مسببات الفساد.
وقد وصلنا في بحثنا الى رأي بعض المعاصرين, حيث ذهب الى ان من يكتب كتب الضلال ولم يكن قاصدا للإضلال, بل كان قاصدا الهداية فهو قاصر وليس مشمولاً بالآية المذكورة.
مزيد توضيح للبحث السابق :
وبعبارة أخرى: ان ادعاء الملازمة بين عدم قصد الاضلال والقصور، غير تام؛ إذ لا تلازم بين المقدم والتالي في القضية الشرطية :
(كلما كتب شخص كتاب ضلال غير قاصد للإضلال، فانه قاصر)؛ إذ كثيرا ما يكون هذا الشخص مقصرا في المقدمات فيكون مشمولا بالآية حكما ، , وذلك لأن المقصر قد ثبت عقلا بانه كالعامد في استحقاق العقاب، وعليه فان هذا الشخص الكاتب لكتاب ضلالٍ وان لم يكن قاصدا الاضلال بل قصد الهداية حسب زعمه – لأنه يرى ان ما كتبه هو هداية وفي سبيل الله معتقداً بذلك, إلا انه لو كان مقصرا في المقدمات فإنه يستحق العقاب لما سلف من ان ما بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإن نفاه خطاباً.
الجواب الثاني :دخول (المقصر) في الاية موضوعا :
وهنا نترقى عن الجواب الاول إذ نقول: ان هذا الشخص الذي كتب كتب الضلال وان كان مقصرا إلا انه ليس بخارج موضوعا عن الآية , بل هو داخل فيها وتحت افقها؛ وذلك لان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية.
انطباق القاعدة على ثلاث مفردات في الآية الشريفة :
والقاعدة المذكورة تنطبق على ثلاث مفردات موجودة في الآية الشريفة وهي : (لَهْوَ الْحَدِيثِ) و(الاضلال) و(سَبِيلِ اللَّهِ).
اما المفردة الاولى وهي ( لهو الحديث ) : فإنها اسم لمسمى ثبوتي سواء أعلم المشتري انه لهو للحديث أم لم يعلم , وسواء أقصد شراء اللهو أم لم يقصد، فإنه لو اشترى لهو الحديث – ككتب اللهو الباطل وكأشرطة الغناء – فإنه يصدق عليه انه اشترى لهو الحديث.
واما المفردة الثانية (الاضلال): وهي موضوعة كذلك للإضلال الثبوتي , فان الدعوة الى التثليث في العقائد هي اضلال- ثبوتا – عن سبيل الله , وان توهم الداعي انه من الهادين الى سبيل الله , فان التوهم لا يغير الواقع .
واما المفردة الثالثة ( سبيل الله ) : فان ما يدعيه المسيحي اثباتا سبيلاً لله، ليس بسبيل الله ثبوتا وجهله المركب أي قطعه بالخلاف لا يغير الواقع ايضا.
توضيح اكثر ( عالم الاثبات وعالم الثبوت ) :
ولتوضيح ذلك اكثر نقول: ان لدينا عالمان: عالم الاثبات وعالم الثبوت. ولا بد من ان يكون هناك تطابق بين العالمين ؛ فان عالم الاثبات هو كالمرآة لعالم الثبوت , فالألفاظ في عالم الاثبات توضح وتبين وتشير إلى ما هو موجود في نفس الامر وتحكي حقيقته, من غير مدخلية للقصد او عدمه وللعلم او عدمه في ذلك,
وبتعبير ادق : ان الاسماء موضوعة للماهيات بما هي هي، مع قطع النظر عن علم المستعمل لها او جهله وعن قصده وعدم ذلك , انما العلم والقصد يؤثران في الارادة الجدية لا الاستعمالية , وكذا لا يؤثران في الوضع الذي هو محل كلامنا , بعبارة أخرى: ان العلم والقصد ليسا جزء الموضوع له, بل ولا المستعمل فيه.
الجواب الثالث : الصدق العرفي
واما الجواب الثالث فهو: ان العرف يرون أن من كتب كتابا يدعو فيه للإرهاب والقتل او الى التثليث ونفي وجود الله ولو كان عن حسن نية وكان معتقداً بذلك, يرون أنه يصدق عليه عرفا - وبلا شك منهم - وبالحمل الشايع الصناعي ان ذلك الشخص من الذين يضلون عن سبيل الله سواء أكان قاصرا ام مقصرا, فان حاله مهما كان , فان ذلك لا ينفي صحة الحمل, بعبارة أخرى: يصح الحمل وتصح النسبة حتى لو ان شخصا واقعا لم يكن مقصرا في المقدمات وكان بينه وبين الله يرى ان ما يكتبه هو سبيل الله تعالى, إلا ان ذلك لا ينفين ما دام واقع ما كتبه ضلالاً وإنحرافاً، حمل الاضلال عليه .
الجواب الثاني والاشكال عليه :
لقد قلنا في الجواب الثاني ان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية ,
ولكن قد يرد اشكال على ذلك وهو: انه وان صح ان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية , إلا ان الافعال مستثناة من ذلك وذلك لوجود قاعدة ثانية وهي : ( ان ظاهر الافعال هو القصدية) فإنه عندما نقول : ضرب زيد عمروا , فان ظاهر (ضرب) هو كونه عن قصد – إلا مع القرينة - , وكذلك في كتب زيد كتابا فان ظاهر ذلك هو قصد الكتابة من قبل زيد , أي : ان ظاهر نسبة فعل الى فاعل كونه قاصدا , وهذا هو استثناء من الكبرى الكلية السابقة – وان كان الاستثناء منقطعا – حيث قلنا ان الاسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية , إلا انه خرج عنها تخصصا الافعال بهيئاتها ؛فان هيئة الفعل تدل على القصد , ولو كان الامر كذلك , فان (ليضل) حيث انه فعل مضارع, فظاهره القصدية, أي: ان الاضلال قد حصل بقصد منهن ولو حصل منه ذلك لكان جزاؤه العذاب والعقاب والاضلال منه محرم , وإلا - أي مع عدم القصد - فانه ليس مشمولاً لموضوع الآية.
جواب الاشكال والشبهة :
ولنا ثلاثة أجوبة في المقام على هذا الاشكال :
الجواب الاول: ان ظاهر الافعال هو القصدية إلا انه يصح للقائل ان ينسب للفاعل فعله الصادر منه بلحاظ علمه بحاله
وبتعبير اخر : ان الامر يدور مدار لحاظ القائل والمسند أي أن النسبة هي بلحاظ على القائل لا بلحاظ إلتفات الفاعل والحامل للصفة على ذاك الشخص الاخر الفاعل، ولا يدور مدار من قام بالفعل.
توضيح ذلك: انه في مثل عبارة (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ), نتساءل: من الذي يتكلم بهذا الخطاب ؟
والجواب: ان المتكلم هو المسِند فلو صدر مني هذا الكلام فرضاً فانه بلحاظ علمي بواقعه يصح ان اقول ان هذا الشخص يضل عن سبيل الله بغير علم.
ان قلت: يحتمل في المدعي لذلك كونه بنفسه مصاباً بجهل مركب والفاعل هو الذي قد اصاب كبد الواقع؟
قلنا : انه وبرغم هذا الاحتمال إلا اننا نرى في كل الاستعمالات العرفية ان الامر في صحة الحمل يدور مدار القائل لا الفاعل , فكيف والحال ان القائل هو الله تعالى , ولا يحتمل فيه الجهل المركب - والعياذ بالله – , فان هذه القضية هي صادقة في الله تعالى ثبوتا واثباتا فالله تعالى اطلق (ليضل) بلحاظ علمه المحيط فان ذاك الشخص يصدق على عمله انه اضلال وان لم يقصد هو ذلك .
الجواب الثاني :
ان المادة في بعض الاحيان تكون قرينة قطعية على صرف الظاهر عن ظهوره في كون الفعل مقصوداً للفاعل حسب قاعدة قصدية الافعال , كما هو الحال في محل البحث في مثل (ضل واضل), فان خصوص هذه المادة تصرف الهيئة عن اصلها العام , فان مادة (ضل) ظاهرة في اللاقصدية حيث يقال: ضل فلان طريق المسجد أو طريق المدرسة أو المنزل، وكما هو واضح فانه لم يقصد ان يضل، فمادة ضل هي بخلاف مادة (ضرب) في ضرب زيد عمراً مثلاً.
اذن : خصوص المادة – مادة ض ل ل - دليل على ان (ليضل) ليس قصديا
اضافة : وهنا اضافة هامة وهي: ان ما بيناه هو فيما اذا كان الفعل المصاغ من مادة ضل لازما ومجردا, ولكن ان ادخناه في باب الافعال – والتعدي – فهو محتمل للوجهين , فانه يحتمل في اضل فلان فلانا كونه قاصداً لإضلاله ويحتمل كونه غير قاصد لذلك.
ويشهد لذلك العرف فلو ان شخصا منحرفا اضل ابنا لشخص اخر فانه يصح ان نقول ( اضل فلان ابني عن سواء السبيل) سواء أكان المضل قاصدا للإضلال ام لا.
ومن هنا فإننا نطلق على مبلغي المسيحية إنهم مضلون مطلقا، ولا نستثني من دعاتهم ومن إطلاق (المضل) عليه من كان معتقداً حقاً بصحة التثليث وأشباهه.
والمتحصل : ان بعض المواد هي لا بشرط من حيث القصد واللا قصد , فهي اعم من ذلك .
الجواب الثالث : تحليل معنى القصدية في الافعال
وهو جواب دقيق وفيه نقول : انه مع قبولنا بالمبنى القائل ان الأصل في الأفعال هو القصدية , هذا من جهة , ومع عدم تمسكنا بخصوصية من جهة اخرى , إلا اننا نتساءل ونقول : ما هو المراد من عبارة ظاهر الافعال القصدية ؟
وجوابه: ان المراد هو قصد ذات الفعل لا قصد صفة الفعل, وفرق واسع بين القصدين , وهذه نقطة دقيقة في المقام فإننا عندما نقول قتل فلان فلانا فانه إطلاق صحيح وصادق ولو كان ذلك الشخص قصد ذات الفعل ولكنه لم يقصد صفة القتل كما لو ضربه بآلة غير قاتلة فقتله اتفاقاً, او ضربه بآلة قاتلة ولكنه كان غير قاصد للقتل .
وبمثال اوضح نقول: انه يصدق ( فلانا اخجل فلانا), رغم أنه لم يقصد الصفة بل قصد نفس الفعل، كما لو انه اغدق العطاء على شخص اخر وبالغ في إكرامه فانه يقال انه اخجله وهو اطلاق صحيح , ولكن هل قصد الاول اخجال الثاني بفعله ؟
والجواب: كلا فان الاول لم يقصد صفة الاخجال ولكنه قصد ذات الفعل , وكذلك في قولك : اغضبني الطفل, فهو في بعض حالاته – وهي كثيرة – طبعه الالحاح لتحصيل حاجته , فهو يقوم بذلك لتحصيل الحاجة لا لإغضاب الابوين , ومع ذلك يصح دون تجوز اطلاق (اغضب) عليه من باب الإفعال لأنه قصد نفس الفعل وان لم يقصد الصفة وهكذا.
وفي مقامنا: فان (ليضل) ظاهرة في قصد الفعل نفسه وان لم يقصد الصفة أي وإن لم يقصد تعنون ما كتبه بعنوان الاضلال.
فان الكاتب وان لم يقصد الصفة والاضلال غير انه قصد الفعل والجوهر وهو ملاك صحة الحمل
وللكلام تتمة وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
الاحد 13 ذي القعدة 1433هـ
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |