194- أجوبة عديدة عن عدم شمول (دين الله لا يصاب بالعقول) للاجتهاد وسيرة العقلاء و...
الاثنين 10 رجب 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(194)
سبق: (الاعتراض بـ((إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ))
لا يقال: ان ما سبق من توسعة نطاق مرجعية العقل والعقلاء في كافة الأمور السابقة، مما تعارضه الرواية الدالة على ان دين الله لا يصاب بالعقول فقد ورد ((حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام الكلينيُّ رضي الله عنه قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب الكلينيُّ قال: حدّثنا القاسم بن العلاء قال: حدّثنا إسماعيل بن عليّ القزويني قال: حدّثني عليّ بن إسماعيل، عن عاصم بن حميد الحناط، عن محمّد بن قيس، عن ثابت الثماليِّ، عن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب عليهم السلام قَالَ: إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اهْتَدَى بِنَا هُدِيَ وَمَنْ دَانَ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ هَلَكَ وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِي بِهِ حَرَجاً كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ السَّبْعَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ))([1]).
ونضيف: ان هذه الرواية لا يستدل بها على عدم حجية سيرة العقلاء بما هم عقلاء فقط فيما يرتبط بدين الله كما فيما ادعيناه من وجوب دفع المنكر استناداً إلى سيرتهم، وفيما ذكرناه من ان الحيازة موجبة للحق (أو حتى للملك) وان الإحياء موجب للملك، وكما في ما استند إليه القوم من ترجيح الأهم على المهم في باب التزاحم، بل يستدل بها أيضاً على عدم حجية الاجتهاد والظواهر وخبر الثقة إضافة إلى عدم حجية القياس والاستحسان اللذين لا كلام في عدم حجيتهما.
تتمة الأجوبة
والأجوبة التي مضت والتي ستأتي بعضها يشكل إجابة على كل تلك الإشكالات وبعضها يكون إجابة على بعضها فقط فتدبر.
3- كثير من الأحكام هي أحكام الفطرة
الثالث: ان بعض الأحكام السابقة – من أصولية وفقهية – هي من أحكام الفطرة وهي حجة قطعاً إذ هي (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)([2]) وليست فقط حكم العقل ليقال بانه مردوع عنه بالرواية إذ الرواية لا تنفي حجية الفطرة، بل ولا توجد حتى رواية واحدة يستشم منها ذلك، بل تنفي حجية العقل الناقص في دين الله، فهذا كبرى.
نماذج وأمثلة
واما صغرى: فان ترجيح الأهم على المهم حكم فطري بلا شك؛ ولذا تجد الحيوان أيضاً يرجح الأهم على المهم أي ما كان لديه أهم كالدفاع عن صغيره بتعريض نفسه للخطر وكالفرار عن تعريض نفسه للقتل لدى تزاحمه مع أكل ما صاده، ولئن عَكَسَ فلإحرازه السلامة أو ظنه بالغلبة أو كونه دفاعاً عن حريم نوعه أو شبه ذلك. فتأمل
وعلى أية حال فان عامة الفقهاء والعلماء، من اخباريين وأصوليين، على ترجيح الأهم على المهم، رغم عدم ورود نص واضح في ذلك، بل مستندهم بالأساس العقل أو الفطرة. فتأمل
كما ان كون الحيازة موجبة لحق الاختصاص أو الملك، مما تحكم به الفطرة أيضاً، كما سبق بيانه.
وكذلك دفع المنكر فانه فطري حتى في الحيوان فيما يعده منكراً. فتأمل
4- دلالة الروايات على حجية العقل في مستقلاته
الرابع: انه تدل على حجية العقل في مستقلاته، الكثير من الروايات ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام: ((أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ، وَإِيَّاكَ أَنْهَى وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ))([3]). فكيف لا يكون العقل حجة في مستقلاته والله تعالى به يثيب وبه يعاقب وإياه يأمر وإياه ينهى؟
وعلى أي فان أريد بـ(العقل) المعنيين الأولين اللذين ذكرهما العلامة المجلسي كان حجة دون ريب. قال قدس سره: (فنقول: إن العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة، واصطلح إطلاقه على أمور:
الأول: هو قوة إدراك الخير والشر والتميّز بينهما، والتمكن من معرفة أسباب الأمور ذوات الأسباب، وما يؤدي إليها وما يمنع منها، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع، واجتناب الشرور والمضارّ، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة، والوساوس الشيطانيّة، وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى، كلّ منهما محتمل...)([4]) وكل منهما حجة دون شك والمستقلات العقلية كلها من دائرة الخير (كالعدل والإحسان) أو الشر (كالقتل والغصب).
ولعله سيأتي الكلام عن سائر المعاني وعن تتمة لهذا الوجه (الرابع) فأنتظر.
5- تخصيص بعض الروايات لعموم عدم حجية العقل([5])
الخامس: انه سلّمنا ان الرواية تامة سنداً ودلالة، لكنها مخصصة قطعاً بروايات أخرى ومنها:
((عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّازِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: إِنَّ أَوَّلَ الْأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ، الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لَهُمْ، فَبِالْعَقْلِ عَرَفَ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ لَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الْمُدَبَّرُونَ، وَأَنَّهُ الْبَاقِي وَهُمُ الْفَانُونَ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ، مِنْ سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ وَشَمْسِهِ وَقَمَرِهِ وَلَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَبِأَنَّ لَهُ وَلَهُمْ خَالِقاً وَمُدَبِّراً لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنَ الْقَبِيحِ، وَأَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ، وَأَنَّ النُّورَ فِي الْعِلْمِ، فَهَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ))([6])
وهذه الرواية صريحة في التحسين والتقبيح العقليين، وهما موطن الشاهد فان العقل في مستقلاته بين محسِّن ومقبِّح وان العباد (عرفوا به – بالعقل – الحسن من القبيح) كما هو صريح الرواية.
وبذلك يظهر ان حكم العقل حجة ذاتاً وانه ليس بحاجة إلى إمضاء من الشارع ولو بعدم الردع أو بعدم وصوله، كما ظهر مما مضى ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء دليل قطعي على حكم العقل، فلا يرد ان الاحتجاج بالظني على حجية الظن دوري وان ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات، إذ ظهر انه احتجاج بالقطعي (وهو العقل) على حجية الظني كحجية الظواهر وحجية خبر الثقة، ووجوب دفع المنكر – ولو في الجملة – ووجوب ترجيح الأهم، ومورثية الحيازة للحق وشبه ذلك، والنقاش لو كان في بعض الموارد فإنما هو في صغرى إحراز كون سيرة العقلاء طرأ على هذا الأمر أو ذاك. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((تَقْبَلُوا لِي بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ لَكُمْ بِالْجَنَّةِ، إِذَا حَدَّثْتُمْ فَلَا تَكْذِبُوا، وَإِذَا وَعَدْتُمْ فَلَا تُخْلِفُوا، وَإِذَا ائْتَمَنْتُمْ فَلَا تَخُونُوا، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ)) (الخصال: ج1 ص321).
-------------------------------------------------------
([1]) الشيخ الصدوق، كمال الدين، دار الكتب الإسلامية – قم، 1395هـ، ج1 ص324.
([3]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص10.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص28.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |