361- مثال تطبيقي: لا تشتروا من محارَف - الأصل في النهي في (لا تأكلوا..) الحرمة والفساد
الاثنين 5 جمادى الآخرة 1440هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(361)
مثال تطبيقي لمعاني الإرشاد: (لَا تَشْتَرِ مِنْ مُحَارَفٍ)
سبق ان معاني الإرشاد خمسة، ويتضح الأمر أكثر فيها وفيما نبحثه من شأن الآية الكريمة (لا تَأْكُلُوا...) والمراد منها بذكر مثال آخر وهو رواية أفتى الفقهاء على طبقها في مسألة أخرى وهي مسألة الشراء من محارَف، فقد ورد ((لَا تَشْتَرِ مِنْ مُحَارَفٍ فَإِنَّ صَفْقَتَهُ لَا بَرَكَةَ فِيهَا))([1]) وفي رواية أخرى ((لَا تَشْتَرِ لِي مِنْ مُحَارَفٍ شَيْئاً فَإِنَّ خُلْطَتَهُ لَا بَرَكَةَ فِيهَا))([2]) والمحارف له معانٍ خمسة على ما فصلناه في (المعاريض والتورية) وإجمالها: المنقوص من الحظ الذي لا ينمو له ماله وهو يقع مقابل المبارك، والذي لا يسعى في كسب، والمستغني بعد فقر أو عكسه، والمجازَى على شرّ، وبكسر الراء: المنحرف عن الحق، وقد أوضحنا فلسفة النهي عن التعامل مع المحارف في (المعاريض والتورية) فراجع([3]).
والسؤال هو: هل النهي عن التعامل مع المحارَف في هذه الروايات، وهي ببعض اسانيدها في الكافي صحيحة، دالة على فساد المعاملة؟ أو على المفسدة فيها؟، أو على المنقصة؟ أو على الكراهة؟ أو على الحزازة؟ أي: أيّ من المعاني الخمسة هو المراد من النهي؟
وقد حملها المشهور على المعنى الرابع أي الكراهة([4])، إنما الكلام اننا لو خلينا والرواية والنهي أو والآية النهي فأي المعاني الخمسة هو المستظهر هل المولوية؟ أو الإرشادية؟ وعلى الثاني فأي المعاني الخمسة؟
الأصل في نواهي المعاملات الحرمة فالبطلان
الظاهر، وكما سبق، ان الأصل في النواهي مطلقاً ومنها النواهي المتعلقة بالمعاملات([5]) الحرمة فالبطلان، والمقصود: ان الأصل الحرمة المولوية التشريعية كما هو ظاهر النهي فإذا أفاد النهي الحرمة أفاد البطلان بالتبع إذ: حيث ان الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات حسب العدلية والمعتزلة، فان نهي المولى عن المعاملة دال على وجود المفسدة فيها وكراهته لها([6])، والأصل في المبغوض المنهي عنه انه لا يعتبره نافذاً فانه نقض للغرض نوعاً.
بعبارة أخرى: ان الوضع (من صحة وفساد) إذا كان كالتكليف (من حرمة ووجوب) بيد المولى فإذا حرّم، تكليفاً، معاملةً، دلَّ بالتبع على انه لم يعتبرها نافذة صحيحةً؛ إذ اعتبارها صحيحة مع ان منها تترشح المفسدة ومع انه حرّمها نقض للغرض نوعاً، ولو حكم بصحتها فإنما هو لمزاحم خارجي أو لمانع والأصل عدمه.. وقد فصلنا ذلك في مسألة النهي عن المعاملات بعض الكتب([7]).
قرينية (بِالْباطِلِ) على البطلان
ويدلّ على ذلك في خصوص الآية الشريفة قوله تعالى (بِالْباطِلِ) إذ لا يتجانس قوله (بِالْباطِلِ) مع كون المعاملة ذات حزازة أو منقصة أو كراهة فقط، بل إنما يلائم وجود المفسدة فيها وكونها فاسدة أيضاً وذلك هو المتفاهم عرفاً من مثل هذا الكلام.
لا يقال: المذكور في الآية الشريفة (بِالْباطِلِ) مع الباء لا (الباطل)؟.
إذ يقال: ما ذكرناه من الوجه تام على كلا التقديرين إذ المراد بـ(بِالْباطِلِ) أي بسببٍ باطل أو بسببِ أمر باطل([8]) والمناسب عرفاً لكون سبب المعاملة باطلة عدم وقوعها به، وحيث تعلق النهي بذلك أفاد الحرمة، فتدبر.
الإرشاد إلى المكروه والحرام أو إنشاؤهما؟
وقد سبق: (رابعاً: الإرشاد إلى الكراهة فيها، أي كونها مكروهة شرعاً بالمعنى المقابل للمستحب، وهل هو إرشاد كما ذكر أو مولوي؟ سيأتي)([9]) والموجز: ان الحرمة قد تكون مولوية وقد تكون إرشادية وكذا الكراهة، وقد فصلنا في (الأوامر المولوية والإرشادية) ان الإرشاد قد يفيد الوجوب أو الحرمة عكس المعروف لدى الطلبة، وقد ذهب إلى ذلك الميرزا الشيرازي الكبير حسب تقريرات الروزدري وأوضحناه هناك فراجع.
وعلى أي فانه قد يُخبر عن الحرمة أو الكراهة وقد يُنشأهما، والمرجع ظاهر اللفظ وقرائن المقام؛ ألا ترى أنك لو سألت وكيل المرجع مسألةً فأجاب بالحرمة أو الكراهة لم يكن مُنشِأ بل كان مخبراً مرشداً إلى الحكم المولوي فيها، بل سبق ان المفتي أيضاً مرشد وليس منشأ أي انه ليس منشأً لجعل الحكم على كلي موضوعه الطبيعي، فلاحظ.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ)) (نهج البلاغة: ص267).
------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص157.
([2]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج3 ص164.
([3]) المعاريض والتورية ص268-275.
([4]) ذكرنا في (المعاريض والتورية) ص267 (إضافة إلى أن الكثير من الفقهاء ممن تعرض لمسألة الشراء من محارَف ومخالطة الأكراد ـ وهي المسألة القادمة ـ أفتوا بالكراهة، ومنهم: الشيخ الطوسي في كتاب النهاية، ويحيى بن سعيد الحلي في الجامع للشرائع، والعلامة الحلي في التذكرة، وتحرير الأحكام، وفي منتهى المطلب، والشهيد في اللمعة، كما أفتى به في الجواهر والحدائق ومفتاح الكرامة وجامع المدارك وغيرها.
ومنه يظهر أن الروايات إضافة إلى كون بعضها صحاحاً، فإن الفتوى والعمل على طبقها أيضاً، فلا يصح التذرع بأنها جميعاً مراسيل؛ ذلك أن بعضها مسانيد صحاح، كما لا يصح التذرع بأنها معرض عنها؛ إذ هي معمول بها، ثمّ إنَّ بعضها ـ وإن كانت مراسيل ـ إلا أن فتوى المشهور حيث كانت على طبقها احتاجت إلى بيان الوجه: أما إذا قلنا بجبر ضعف السند بالشهرة العملية فالضرورة واضحة، وأما لو نقل: فإن بيان الوجه العقلائي ينفع في دفع الإشكال عن مشهور علماء الشيعة...).
([5]) إذا تعلق بأصلها. وسيأتي.
([6]) كما هو القاعدة في المولى الرحيم (الرَّحْمنِ الرَّحيم) (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة خلقهم وغيرها مما يفصل في محله.
([7]) راجع كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) ص537-566.
([8]) وسيأتي ردّ الاحتمال الآخر.
([9]) الدرس (360).
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(361)
سبق ان معاني الإرشاد خمسة، ويتضح الأمر أكثر فيها وفيما نبحثه من شأن الآية الكريمة (لا تَأْكُلُوا...) والمراد منها بذكر مثال آخر وهو رواية أفتى الفقهاء على طبقها في مسألة أخرى وهي مسألة الشراء من محارَف، فقد ورد ((لَا تَشْتَرِ مِنْ مُحَارَفٍ فَإِنَّ صَفْقَتَهُ لَا بَرَكَةَ فِيهَا))([1]) وفي رواية أخرى ((لَا تَشْتَرِ لِي مِنْ مُحَارَفٍ شَيْئاً فَإِنَّ خُلْطَتَهُ لَا بَرَكَةَ فِيهَا))([2]) والمحارف له معانٍ خمسة على ما فصلناه في (المعاريض والتورية) وإجمالها: المنقوص من الحظ الذي لا ينمو له ماله وهو يقع مقابل المبارك، والذي لا يسعى في كسب، والمستغني بعد فقر أو عكسه، والمجازَى على شرّ، وبكسر الراء: المنحرف عن الحق، وقد أوضحنا فلسفة النهي عن التعامل مع المحارف في (المعاريض والتورية) فراجع([3]).
والسؤال هو: هل النهي عن التعامل مع المحارَف في هذه الروايات، وهي ببعض اسانيدها في الكافي صحيحة، دالة على فساد المعاملة؟ أو على المفسدة فيها؟، أو على المنقصة؟ أو على الكراهة؟ أو على الحزازة؟ أي: أيّ من المعاني الخمسة هو المراد من النهي؟
وقد حملها المشهور على المعنى الرابع أي الكراهة([4])، إنما الكلام اننا لو خلينا والرواية والنهي أو والآية النهي فأي المعاني الخمسة هو المستظهر هل المولوية؟ أو الإرشادية؟ وعلى الثاني فأي المعاني الخمسة؟
الظاهر، وكما سبق، ان الأصل في النواهي مطلقاً ومنها النواهي المتعلقة بالمعاملات([5]) الحرمة فالبطلان، والمقصود: ان الأصل الحرمة المولوية التشريعية كما هو ظاهر النهي فإذا أفاد النهي الحرمة أفاد البطلان بالتبع إذ: حيث ان الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات حسب العدلية والمعتزلة، فان نهي المولى عن المعاملة دال على وجود المفسدة فيها وكراهته لها([6])، والأصل في المبغوض المنهي عنه انه لا يعتبره نافذاً فانه نقض للغرض نوعاً.
بعبارة أخرى: ان الوضع (من صحة وفساد) إذا كان كالتكليف (من حرمة ووجوب) بيد المولى فإذا حرّم، تكليفاً، معاملةً، دلَّ بالتبع على انه لم يعتبرها نافذة صحيحةً؛ إذ اعتبارها صحيحة مع ان منها تترشح المفسدة ومع انه حرّمها نقض للغرض نوعاً، ولو حكم بصحتها فإنما هو لمزاحم خارجي أو لمانع والأصل عدمه.. وقد فصلنا ذلك في مسألة النهي عن المعاملات بعض الكتب([7]).
ويدلّ على ذلك في خصوص الآية الشريفة قوله تعالى (بِالْباطِلِ) إذ لا يتجانس قوله (بِالْباطِلِ) مع كون المعاملة ذات حزازة أو منقصة أو كراهة فقط، بل إنما يلائم وجود المفسدة فيها وكونها فاسدة أيضاً وذلك هو المتفاهم عرفاً من مثل هذا الكلام.
لا يقال: المذكور في الآية الشريفة (بِالْباطِلِ) مع الباء لا (الباطل)؟.
إذ يقال: ما ذكرناه من الوجه تام على كلا التقديرين إذ المراد بـ(بِالْباطِلِ) أي بسببٍ باطل أو بسببِ أمر باطل([8]) والمناسب عرفاً لكون سبب المعاملة باطلة عدم وقوعها به، وحيث تعلق النهي بذلك أفاد الحرمة، فتدبر.
وقد سبق: (رابعاً: الإرشاد إلى الكراهة فيها، أي كونها مكروهة شرعاً بالمعنى المقابل للمستحب، وهل هو إرشاد كما ذكر أو مولوي؟ سيأتي)([9]) والموجز: ان الحرمة قد تكون مولوية وقد تكون إرشادية وكذا الكراهة، وقد فصلنا في (الأوامر المولوية والإرشادية) ان الإرشاد قد يفيد الوجوب أو الحرمة عكس المعروف لدى الطلبة، وقد ذهب إلى ذلك الميرزا الشيرازي الكبير حسب تقريرات الروزدري وأوضحناه هناك فراجع.
وعلى أي فانه قد يُخبر عن الحرمة أو الكراهة وقد يُنشأهما، والمرجع ظاهر اللفظ وقرائن المقام؛ ألا ترى أنك لو سألت وكيل المرجع مسألةً فأجاب بالحرمة أو الكراهة لم يكن مُنشِأ بل كان مخبراً مرشداً إلى الحكم المولوي فيها، بل سبق ان المفتي أيضاً مرشد وليس منشأ أي انه ليس منشأً لجعل الحكم على كلي موضوعه الطبيعي، فلاحظ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَقَرِينَ شَيْطَانٍ)) (نهج البلاغة: ص267).
------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج5 ص157.
([2]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج3 ص164.
([3]) المعاريض والتورية ص268-275.
([4]) ذكرنا في (المعاريض والتورية) ص267 (إضافة إلى أن الكثير من الفقهاء ممن تعرض لمسألة الشراء من محارَف ومخالطة الأكراد ـ وهي المسألة القادمة ـ أفتوا بالكراهة، ومنهم: الشيخ الطوسي في كتاب النهاية، ويحيى بن سعيد الحلي في الجامع للشرائع، والعلامة الحلي في التذكرة، وتحرير الأحكام، وفي منتهى المطلب، والشهيد في اللمعة، كما أفتى به في الجواهر والحدائق ومفتاح الكرامة وجامع المدارك وغيرها.
([5]) إذا تعلق بأصلها. وسيأتي.
([6]) كما هو القاعدة في المولى الرحيم (الرَّحْمنِ الرَّحيم) (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي للرحمة خلقهم وغيرها مما يفصل في محله.
([7]) راجع كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) ص537-566.
([8]) وسيأتي ردّ الاحتمال الآخر.
([9]) الدرس (360).