148- مناقشات مع الشيخ في دعواه عموم دليل الاكراه لتجويز ارتكاب العظائم وتحليل روايات التقيه
الاربعاء 18 ربيع الثاني 1440 هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(148)
ما ذكره قدس سره ظلم قطعي مخالف لصريح العقل
ثالثاً: كما يرد عليه: ان ما ذكره قدس سره خلاف صريح حكم العقل فانه ظلم قطعي، كما هو خلاف بناء العقلاء([1]) ومرتكز المتشرعة القطعي فلو فرض إطلاق للرواية بل لو فرض وجود نص لوجب إرجاع علمه إلى أهله أو طرحه؛ ألا ترى ان تجويز ان يسجن هذا الشخص المئات من علماء الحوزة العلمية المباركة أو ألوف الأطفال أو النساء أو الأطباء أو أساتذة الجامعة، ويعذبهم أشد التعذيب ولو بقلع أعينهم وشبهه (ما دون القتل الذي استثناه فقط) لمجرد ان الظالم هدّده بانه إن لم يفعل صفعه صفعةً واحدة فقط أو حسب صريح الشيخ هدّده بانه سيواجهه بمجرد كلمة خشنة لا تليق بعرضه، ألا ترى ان ذلك ظلم قطعي بإجماع الملل والنحل؟ وكيف يمكن ان يُتوهم انه حيث (أمره الظالم بفعل كل تلك العظائم وهدده بانه إن لم يفعل سبّه فقط أو خاشنه بكلمة أو حتى ضربهِ، وكان هذا غاية درجة إكراهه له) فانه يجوز له ذلك بدعوى إطلاق ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ))؟([2]).
نقض آخر: لا يمكن ان يلتزم به عاقل أو متشرّع: وهو ما لو هدّده بالكلمة الخشنة أو الصفعة إن لم يهتك عرض المؤمنات فيعرّيهن لا سمح الله تماماً أمام ألوف الناس ويدفعهن للرقص أمام الأجانب وفعلهم كل شيء معهن (إلا الزنا الذي تردد فيه الشيخ لاحقاً في مشابه المسألة) فهل يقبل منه عاقل من أية ملة من الملل تذرّعه بانه مُكْرَه لأنه لو لم يفعل لألقى عليه الظالم مجرد كلمة خشنة!
ولعمري ان إطلاق كلام الشيخ بل وتشديده على تعميم الجواز لهو من العجائب فلاحظ عبارته: (إنّما الإشكال في أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير من نهب الأموال وهتك الأعراض وغير ذلك من العظائم هل يباح كلّ ذلك بالإكراه ولو كان الضرر المتوعّد به على ترك المكره عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكره عليه، كما إذا خاف على عرضه من كلمة خشنة لا تليق به، فهل يباح بذلك أعراض الناس وأموالهم ولو بلغت ما بلغت كثرة وعظمةً)([3]) وهو الذي رجّحه وقوّاه وبنى عليه لاحقاً!
(رفع ما استكرهوا عليه) مطلق منصرف عن العظائم
رابعاً: ان مثل ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) غاية الأمر انه مطلق، فهو كسائر المطلقات وسائر العمومات التي تقبل التخصيص، والعجب من الشيخ انه كأنه اعتبره سدّ اسكندر غير قابل للانصراف عن العظائم التي أشار إليها؟!
بعبارة أخرى: ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ... وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) منصرف قطعاً عن فعل العظائم مقابل تهديده بأمر بسيط جداً بدليل حكم العقل القطعي وبناء العقلاء قطعاً، فهل ترى في كل عقلاء العالم من يقبل ان يتعلل شخص بانه هُدّد بكلمة خشنة مبرراً هتكه لعرض ألوف المؤمنات أو تعذيبه ألوف العلماء أو حرقه كل مدينة النجف أو بغداد أو القاهرة أو مشهد أو غيرها([4]) ولو تعلل شخص بذلك لرآه العقلاء إما مجنوناً مطلقاً أو فاسقاً جباراً متهتكاً وحشياً بقول مطلق.
والفرق بين الجوابين: ان الجواب الثالث: وهو ان الإطلاق على فرضه لا يقاوم صريح حكم العقل بل النص لا يقاومه ولو عارضه سقط، واما حاصل الجواب الرابع فهو ان إطلاقه منصرف إلى غير العظائم ببركة حكم العقل والارتكاز، فهما قرينة متصلة لبّية قطعية، ولو فرض ان شخصاً شك فانها تكون من محتمل القرينية المتصل وهو مخلّ بالإطلاق كما قرروه في الأصول.
خامساً: انه كما استثني من عموم دليل الإكراه، القتل، كذلك تستثنى العظائم التي ذكرها بالعقل والروايات. كما سيأتي.
الإكراه موضوعاً غير صادق عرفاً
سادساً: بل قد يقال بان (الإكراه) عرفاً غير صادق في تلك الأمثلة، وإن فرض صدقه دقةً فرضاً؛ ألا ترى ان من هتك عرض ألوف المؤمنات ثم تذرع بانني كنت مجبوراً أو مكرهاً فلما سأل كيف؟ قال لأن الظالم هددني بكلمة خشنة إن لم أفعل! ألا ترى ان العقلاء لا يقبلون منه أبداً ويقولون ليس هذا بإكراه ولا جبر أصلاً. فتدبر.
استدلال الشيخ برواية التقية على جواز ارتكاز العظائم
واما استدلاله قدس سره برواية التقية إذ قال: (ولكن الأقوى هو الأوّل؛ لعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم، وعموم نفي الحرج؛ فإنّ إلزام الغير تحمّل الضرر وترك ما اكره عليه حرج. وقوله (عليه السلام): ((إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ فَإِذَا بَلَغَتِ التَّقِيَّةُ الدَّمَ فَلَا تَقِيَّةَ))([5])، حيث إنّه دلّ على أنّ حدّ التقية بلوغ الدم، فتشرع لما عداه)([6]) فيرد عليه إضافة إلى جميع ما سبق فتدبر:
الجواب أولاً: تُخصِّصها رواية (مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ)
أولاً: ان الرواية مخصصة بروايات أخرى إضافة إلى ما خصصه هو به وهو القتل.
فمنها: قول الإمام الصادق عليه السلام: ((لِلتَّقِيَّةِ مَوَاضِعَ مَنْ أَزَالَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُ، وَتَفْسِيرُ مَا يُتَّقَى مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُ سَوْءٍ ظَاهِرُ حُكْمِهِمْ وَفِعْلِهِمْ عَلَى غَيْرِ حُكْمِ الْحَقِّ وَفِعْلِهِ فَكُلُّ شَيْءٍ يَعْمَلُ الْمُؤْمِنُ بَيْنَهُمْ لِمَكَانِ التَّقِيَّةِ مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ))([7]) فانها صريحة في استثناء (الفساد في الدين) ومن البديهي ان الأمثلة أعلاه (هتك عرض المؤمنات وسجن وتعذيب العلماء و...) ونظائره فساد قطعي في الدين فكيف يطلق الشيخ ويشدد على إطلاقه وتعميمه؟ والظاهر انه لم ير هذه الرواية ولا الروايات اللاحقة، وعلى أيًّ فالاستثناء هو مقتضى القاعدة وصريح حكم العقل وارتكاز المتشرعة قطعاً وإن لم يوجد مثل هذه الرواية فكيف مع وجودها في مثل الكافي الشريف خاصة لدى الشيخ الذي يرى حجية مراسيل الثقات المعتمدة بل التي لم يردها القوم؟.
ثانياً: روايات وجوب التقية لحفظ الإخوان
ثانياً: ان هناك روايات أخرى غفل عنها الشيخ صريحة في ان التقية هي على النفس وعلى الإخوان جميعاً، فهي تساوي بينهما وتسوقهما بعصى واحدة، ولا يوجد بينها ما يجعل المحور هو الشخص نفسه فقط حتى يقال بانه يجب عليه ان يقي نفسه من المكروه وإن كان ضئيلاً جداً ولو بتوجيه الضرر الأكبر إلى غيره من إخوانه المؤمنين.
والروايات مستفيضة إن لم تكن متواترة ولنشر إلى بعضها:
فمنها: (( وَإِنْ أَنْتَ تَبْرَأُ مِنَّا بِلِسَانِكَ وَ أَنْتَ مُوَالٍ لَنَا بِجَنَانِكَ لِتُبْقِيَ عَلَى نَفْسِكَ رُوحَهَا الَّتِي بِهَا قِوَامُهَا وَمَالَهَا الَّذِي بِهِ قِيَامُهَا وَجَاهَهَا الَّذِي بِهِ تَمَاسُكُهَا وَتَصُونَ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ وَعَرَفْتَ بِهِ مِنْ أَوْلِيَائِنَا وَإِخْوَانِنَا وَأَخَوَاتِنَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بشِهُوُرٍ أَوْ سِنِينَ إِلَى أَنْ تَتَفَرَّجَ تِلْكَ الْكُرْبَةُ وَتَزُولَ بِهِ تِلْكَ النَّقِمَةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْهَلَاكِ وَتَنْقَطِعَ بِهِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الدِّينِ وَصَلَاحِ إِخْوَانِكَ الْمُؤْمِنِينَ
وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْهَلَاكِ أَوْ أَنْ تَتْرُكَ التَّقِيَّةَ الَّتِي أَمَرْتُكَ بِهَا فَإِنَّكَ شَائِطٌ بِدَمِكَ وَدِمَاءِ إِخْوَانِكَ مُعَرِّضٌ لِنِعَمِكَ وَنِعَمِهِمْ لِلزَّوَالِ مُذِلٌّ لَهُمْ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ دِينِ اللَّهِ وَقَدْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِإِعْزَازِهِمْ فَإِنَّكَ إِنْ خَالَفْتَ وَصِيَّتِي كَانَ ضَرَرُكَ عَلَى نَفْسِكَ وَإِخْوَانِكَ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ النَّاصِبِ لَنَا الْكَافِرِ بِنَا))([8])
فلاحظ ان الإمام عليه السلام عمّم وجوب التقية لوقاية المؤمنين وجعلها كوجوب وقاية نفسه بوِزان واحد، فهل يعقل ان يقال: ان له التقية على نفسه من مكروه بسيط وترك وقاية المؤمنين من ضرر عظيم..
لا يقال: هذا غير مورد البحث.
إذ يقال: نفرضه فيما لو كان إذا لم يتقِ على نفسه (بان عرّضها لضرب الظالم أو شتمه) حَفَظ المؤمنين من ضرر أعظم (كقطع أياديهم أو سمل أعينهم أو سجنهم عشرات السنين) فتدبر
ومنها: ((التَّقِيَّةُ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ؛ يَصُونُ بِهَا نَفْسَهُ وَإِخْوَانَهُ عَنِ الْفَاجِرِينَ وَقَضَاءُ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ أَشْرَفُ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ يَسْتَجْلِبُ مَوَدَّةَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَشَوْقَ الْحُورِ الْعِينِ))([9])
ومنها: (( قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عليه السلام اسْتِعْمَالُ التَّقِيَّةِ بِصِيَانَةِ الْإِخْوَانِ فَإِنْ كَانَ هُوَ يَحْمِي الْخَائِفَ فَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ خِصَالِ الْكَرَمِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحُقُوقِ الْإِخْوَانِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْمُجَاهَدَاتِ))([10])
ومنها: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم وَلَوْ شَاءَ لَحَرَّمَ عَلَيْكُمُ التَّقِيَّةَ وَأَمَرَكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَنَالُكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ عِنْدَ إِظْهَارِكُمُ الْحَقَّ أَلَا فَأَعْظَمُ فَرَائِضِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بَعْدَ فَرْضِ مُوَالَاتِنَا وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِنَا اسْتِعْمَالُ التَّقِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ وَمَعَارِفِكُمْ وَقَضَاءِ حُقُوقِ إِخْوَانِكُمْ فِي اللَّهِ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ كُلَّ ذَنْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَقْصِي))([11]) وللبحث صلة وهناك أجوبة أخرى فأنتظر
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر عليه السلام: ((إِنَّ أَسْرَعَ الْخَيْرِ ثَوَاباً الْبِرُّ، وَإِنَّ أَسْرَعَ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ عَيْباً أَنْ يُبْصِرَ مِنَ النَّاسِ مَا يَعْمَى عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يُعَيِّرَ النَّاسَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ تَرْكَهُ أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ))
(الكافي، ج2 ص459).
-----------------------------------------------------------------
([1]) لو فرضت المناقشة بان العقل لا يدرك الجزئيات. فتأمل
([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص463.
([3]) الشيخ مرتضى الانصاري، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج2 ص86-87.
([4]) مع فرض انه لا يقتل أحداً بذلك.
([5]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج6 ص172.
([6]) الشيخ مرتضى الانصاري، ط / تراث الشيخ الأعظم، ج2 ص86-87.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص168.
([8]) أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، 1403هـ، ج1 ص238.
([9]) تاج الدين الشعيري، جامع الأخبار، دار الرضي للنشر – قم، 1405هـ، ص94.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |