بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(129)
تطوّر الاجتهاد لا يمكن ان يفيد بطلان الإجماع
وبوجه أكمل واشمل: ان تطوّر الاجتهاد مهما بلغ، لا يمكن ان يفيد بطلان الإجماع وخطأ المجمعين من قدامى الفقهاء، بل لو أفاد ذلك كشف عن بطلانه هو وعن خطأه:
مستند الإجماع أحد أمور
وذلك لأن مستند الإجماع لا يخلو من أحد الأمور التالية:
1- حكم العقل
الأول: حكم العقل، كما سبق في مثال الترتّب، فإذا كان مستند الإجماع حكم العقل لما أخل بحجيته شيء؛ إذ من الواضح ان تطور الاجتهاد مهما بلغ لا يؤثر في أحكام العقل ولا يخلّ بها، فان أحكام العقل المستقل فطرية، أي مما فطر الله الناس عليها، وهي لا تختلف ولا تتخلف نظير الذاتي في باب البرهان الذي لم يكن معللاً وكان بيّن الثبوت لذيه غير متخلف ولا مختلف، كما ان من الواضح ان الاجتهاد مهما تطور فلا يخالف حكم العقل ولو خالفه كشف ذلك عن خطأه وزيفه وكان واقعه انه شبهة في مقابل البديهة.
2- بناء العقلاء
الثاني: بناء العقلاء، فإذا كان مستند الإجماع بناء العقلاء، لما أمكن لتطور الاجتهاد مهما بلغ ان يضر بحجيته فان بناء العقلاء بما هو بناؤهم حجة لا يقف أمامها الاجتهاد ولا تطوره، وربما يمثل لذلك بما اشتهر لدى السابقين من ان المدار في حجية الأخبار على وثاقة الروايات لا على وثاقة الرواة فقط وإن وثاقة رجال السند هي إحدى طرق توثيق الرواية وليست الطريق المنحصرة وان وثاقتهم لا تفيد حتماً وثاقة الرواية إذ قد يكون مضمونها مخالفاً لقول ربنا فيجب على حسب الروايات ضربه عرض الجدار و((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا مَا خَالَفَ قَوْلَ رَبِّنَا تَعَالَى وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه واله وسلم فَإِنَّا إِذَا حَدَّثْنَا قُلْنَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم ))([1]) و((إِذَا جَاءَكُمْ مِنَّا حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَاطْرَحُوهُ أَوْ رُدُّوهُ عَلَيْنَا))([2])
ثم ان بعض الرجاليين والأصوليين، كالسيد الخوئي، ذهب إلى ان المدار وثاقة الرواة والمعيار الاسانيد فقط([3]) وأفرط بعض تلامذته في تبني هذا الرأي حتى كتب مثل (مشرعة البحار) لكن السيد الخوئي – حسب بعض المتتبعين – عدل عن هذا الرأي وصرح في بعض كتبه الفقهية بان المدار هو وثاقة الرواية لا الراوي فحسب وهو – لو تمّ([4]) – رجوع إلى مسلك القدماء بعد ان مشى على مسلك وثاقة الرواة عقوداً وربى عليه المئات من التلامذة، والشاهد ان الاجتهاد مهما تطور فانه إذا خالف الإجماع أو المشهور المستند إلى بناء العقلاء فانه مما لا يعتمد عليه بل ان صاحبه لو أعاد النظر لرجع إلى رأي المشهور المبتني على بناء العقلاء.
3- ترجيحات العقل
الثالث: العقل لا في مستقلاته بل في ترجيحاته، بان يكون مستند المجمعين، بعض الوجوه الاستحسانية أو القياسية، ولكن هذا الوجه غير محتمل في حق فقهائنا أي لا يحتمل ان يجمعوا على حكم استناداً إلى استحسان أو قياس وإن احتمل في الواحد أو الاثنين منهم غفلةً عن انه استحسان أو قياس، اما كافة الفقهاء المتقدمين فمن المحال عادة ان يجمعوا على حكم خاطئ استناداً إلى احدهما.. كيف وقد ورد النهي الشديد عن إتباع القياس، والاستحسان مثله إن لم يكن أشدّ حالاً منه، واحتمال ان يغفلوا فيحكموا بحكم مسندينه للشارع استناداً للقياس أو الاستحسان، غير وارد أبداً.
4- الفهم من النقل
الرابع: الفهم من النقل، بان يكشف تطور الاجتهاد عن خطأ كافة العلماء في فهمهم من النص، وهذا وإن بدا وجيهاً لكنه غير تام أيضاً: اما انه يبدو وجيهاً فلضرورة تطور الأفهام بمرور الأدوار وكرور الاعصار والتراكم المعرفي، واما انه ليس بتام، فلأن المعيار في الفهم من النصوص أفهام المعاصرين للنص فانهم الملقى إليهم الكلام، ولو تعارض فهمهم كلهم مع فهم الآتِين في العصور اللاحقة كان المحكم فهم السابقين المعاصرين لأنهم القدر المتيقن والمسلّم من المقصود إفهامه من هذه النصوص، بل يدل عليه قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِه)([5]) فان لسان القوم هو ما وردت به الآيات والروايات، فلا يصح تجاوزها، نعم البطون مما تختلف الأفهام في تناولها فكلما أزداد الفهم حدة وقوة ازداد إدراكاً للبطون، لكنّ البطون مما لم يوكل علمها إلينا ولم توضع ضوابطها بأيدينا بل المطلعون عليها هم فقط كما قال تعالى: (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)([6])
وعلى أي فالمرجع في فهم النصوص هو المتفاهم العرفي للمعاصرين، وإنما يحتج بالفهم العرفي الآن باعتباره مرآة لأفهام أولئك، فلو أحرز عدمه سقط عن الحجية اللهم إلا على دعوى ناقشناه في محلها.
ولنمثل لذلك بما لو فهم الفقهاء القدماء ان الأمر في الروايات مولوي لا إرشادي، أو فهموا ان الأحكام حقيقية لا خارجية وان الأصل فيها هو ذلك، فان الاجتهاد مهما تطور فانه لا يمكنه إيجاد خلل في ذلك، اللهم إلا على مبنى الهرمينوطيقيين وقد فصلنا الجواب عن كلامهم في كتاب (نقد الهرمينوطيقيا) فراجع أجوبتنا عن دعوى بعضهم ان الأصل في أحكام الشارع انها قضايا خارجية، أو دعوى بعضهم ان الأصل في أحكامه في قضايا المرأة والحدود والديات وحقوق الإنسان خاصة، انها قضايا خارجية لا حقيقية.
والحاصل: ان ما يراد به القدح في أفهام كافة المتقدمين في فهمهم من الشارع ان قضاياه حقيقية وان ((حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ وَ لَا يَجِيءُ غَيْرُهُ))([7]) استناداً إلى تطور الاجتهاد في تفسير النصوص وتأويلها، هو المقدوح الضعيف وليس بقادح في الإجماع بل حتى في الشهرة ولا بمضعف. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((كَانَتِ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ إِذَا كَتَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَتبُوا بثلَاثَةٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَابِعَةٌ، مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ آخِرَتَهُ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ أَصْلَحَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلَحَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ)) (الكافي: ج8 ص307).
-----------------------------------------------------------
([1]) محمد بن عمر الكشي، رجال الكشي، مؤسسة النشر في جامعة مشهد المقدسة، ص224.
([2]) الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص275.
([3]) قال في معجم رجال الحديث (و هذان الأمران قد أشبعنا الكلام فيهما في مباحثنا الأصولية. و لكن ذكرنا أن كل خبر عن معصوم لا يكون حجة، و إنما الحجة هو خصوص خبر الثقة أو الحسن. و من الظاهر أن تشخيص ذلك لا يكون إلا بمراجعة علم الرجال و معرفة أحوالهم و تمييز الثقة و الحسن عن الضعيف) (معجم رجال الحديث، مؤسسة الخوئي الإسلامية، ج1 ص20).
([4]) إذ الأمر بحاجة إلى تثبت.
([5]) سورة إبراهيم: آية 4.
([6]) سورة آل عمران: آية 7.
([7]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص58.