101- بحث كلامي اصولي: المعاني العشرة للحسن والقبح
18 محرم الحرام 1438هـ
المعاني العشرة للحسن والقبح *
للحسن والقبح معاني عديدة لابد من ذكرها حتى نعرف من أيِّهما يكون حسن الصدق وقبح الكذب، بل أي حسن او قبيح اخر، ولتحديد هذه المعاني العشرة فوائد جمة، منها ن: ما ادعي ان الكذب لو خلا من المفسدة فلا قبح فيه، وبالتالي فلا يكون العقل دالاً على حرمته – بناءا على تمامية قاعدة الملازمة-، الا اننا لو طبقنا هذه المعاني العشرة على الكذب العاري عن المفسدة لوجدنا ان بعضا منها منطبق على الكذب، وبالتالي فيوصف بالقبح، وبالتالي فيمكن الحكم بحرمته – بناءاً على تمامية قاعدة الملازمة على اطلاقها-[1]:
المعنى الاول: ما يلائم النفس او ينافرها
المعنى الأول: هو ما يلائم النفس او ينافرها، فما يلائم النفس حسن بهذا المعنى، كالمنظر الجميل فان النفس تنسجم معه وتميل اليه، في مقابل ما تنفر النفس منه فهو قبيح كالزقاق المليء بالقاذورات مثلاً.
لكن الظاهر: لزوم تقييد ذلك بنوعي النفس، فإنها امارة ولوامّة، وبذلك ينفك الحسن والقبح الشرعي عن العرفي بهذا المعنى؛ ألا ترى النظر إلى الأجنبية قبيحاً شرعاً مع انه ملائم للنفس، فلو لم يقيد بالملائم للنفس اللوامة لكان حسناً، فلو أرادوا الإطلاق لوجب إنكار الصغرى أو الحكم فتدبر فانه دقيق.
إضافة أقسام أخرى: ملاءمة الجسم أو الروح أو العقل
لكن ينبغي ان نضيف للمعنى الأول ثلاثة معانٍ أخرى، هي: 1- ملاءمة الجسد ومنافرته، إذ قد لا يلائم الشيء النفس لكنه يلائم الجسد او العكس، ولا وجه لدعوى عوده إليك، 2- وملاءمة العقل او منافرته، 3- وملاءمة الروح او منافرتها؛ فالمجموع أربعة أشياء: النفس، الروح، الجسد والعقل.
والحاصل: ان الملاءمة او المنافرة قد تكون للنفس او الجسد او الروح او العقل [2].
ويمكن التمثيل للتفكيك بـ: الاغتسال بالماء البارد، فقد ثبت علمياً انه نافع للجسد ومحفز ومنشط لخلايا المخ والحافظة والذكاء، لكن بعض الناس -ولعله الغالب- من الناحية النفسية يتخوفون من الماء البارد خاصة في فصل الشتاء، فالدوش البارد ملائم للجسد لكنه منافر للنفس.
وقد يكون الشيء ملائماً للعقل كما في الرياضات العقلية مما يتحدى ذكاء الإنسان من الأحاجي وغيرها، ولكن ذلك قد لا يلائم النفس فيرهقها ويرهق البدن كذلك، نعم قد يدعى: ان ما هو ملائم لأحدها بما هو، ملائم للآخر بما هو، وكذلك في المتنافرين، لكنها دعوى عهدتها على مدعيها، بل لا منشأ لها إلا توهم السنخية بين الأربعة، وهو واضح البطلان.
المعنى الثاني: موافقة المصلحة والمفسدة
المعنى الثاني من معاني الحسن والقبح هو: موافقة المصلحة والمفسدة، وبحسب هذا المعنى: فان كل ما وافق المصلحة فهو حسن، وإلا فهو قبيح.
والمراد بالمصلحة: الواقعية؛ فان الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية، اما الشرعية فهي كاشفة عنها، واما العرفية فنسبتها معها من وجه.
أقسام المصلحة والمفسدة
ثم ان موافقة المصلحة على ثلاثة أقسام، فتارة: تكون الموافقة للمصلحة الشخصية، وتارة أخرى: تكون الموافقة للمصلحة النوعية، وقد يتخالفان فيكون ما يوافق المصلحة الشخصية منافراً لمصلحة المجتمع وبالعكس.
وثالثة: تكون موافقة المصلحة او المفسدة منسوبة الى جهة خاصة، كأن تكون مقيسة لجماعة او عشيرة او سلطة او غير ذلك، وهذه الأخيرة قد تتوافق مع المصلحتين الأوليين، وقد تتخالف، فهذه أقسام ثلاثة للمصلحة والمفسدة لا بد من ملاحظتها كي نأمن من اللبس.
المعنى الثالث موافقة الغرض
المعنى الثالث للحسن والقبح هو: موافقة الغرض ومخالفته، وقد حاول بعضٌ [3] إرجاع الغرض إلى المصلحة ولكنه تكلف؛ فان النسبة بينهما ليست هي التساوي، بل هي العموم من وجه او العموم المطلق على تفصيل [4] .
والغرض هو ما يكون مرمى بصر الإنسان وان كان فيه مفسدة؛ إذ كثيراً ما يتعلق غرض الإنسان بما هو ضار له كالمريض الذي يشتهي الماء البارد او الحلو، مع انه يضر بحاله، ولكنه موافق لغرضه ولما يريده فهو حسن بهذا المعنى، والأمر كذلك في عامة الناس فان أغراضهم كثيراً ما لا تتوافق مع المصالح الواقعية فان الغرض وان وافق المصلحة المتوهمة لكنه لا يوافق المصلحة الثبوتية الواقعية.
المعنى الرابع الكمال والنقص
المعنى الرابع للحسن والقبح هو: الكمال والنقص، وهذا بدوره ينقسم إلى قسمين – كما أشار إليه بعضٌ– وهما:
أ- الكمال والنقص الأخلاقيان: كما في الشجاعة والجبن والبخل والكرم وما أشبه، فالشجاع كامل أخلاقياً، والجبان بعكسه أي ناقص أخلاقياً، وهكذا.
ب-الكمال والنقص التكوينيان: ويراد بالكمال والنقص التكوينيين: ما يعبر عنهما بالقوة والفعل، فما هو بالفعل فهو كامل وما هو بالقوة فناقص، فمن له ملكة الاجتهاد بالفعل فانه كامل، أما من له ملكة الاجتهاد بالقوة كعامة الناس فهو ناقص، وكذلك الحال في ملكة العدالة قوة وفعلاً، وهكذا في الشجرة والبذرة، فالشجرة شجرة بالفعل ولها كمال من هذه الجهة، والنواة شجرة بالقوة وهي ناقصة من هذه الجهة، وإن كانت ذا كمال من حيث امتلاكها قوة ان تصبح شجرة.
الكمال والنقص يتصف بهما بعض الأفعال أيضاً
ثم قد يتوهم [5] أن الكمال والنقص هما مما يختصان بالصفات وعليه سيكون البحث - بناءً على هذا - أجنبياً عن مقامنا؛ لان كلامنا هو عن التحسين والتقبيح العقليين للأفعال ومنها الصدق والكذب.
ولكن الحق هو: إن الكمال والنقص هما مما تتصف به بعض الأفعال أيضاً، كطاعة العبد سيده تبارك وتعالى، فان الطاعة فعل من الأفعال وهي كمالُ حسنٌ، وعصيانه فعل أيضاً وهو نقص وقبيح، وكذلك في مثال آخر - وهو من الامثلة المعروفة - صدور الكذب من الله تعالى فانه قبيح، لأنه نقص فهو ممتنع امتناعاً وقوعياً لا ذاتياً.
المعنى الخامس انبغاء الفعل او الترك (الاقتضاء وعدمه)
المعنى الخامس هو ما عبر عنه بعضٌ بـ: انبغاء الفعل او الترك، فما ينبغي فعله فحسن، وما ينبغي تركه فقبيح.
إضافة انبغاء الاتصاف أو الوجود
ونضيف الى ذلك: انبغاء الاتصاف، فانهم ذكروا انبغاء الفعل فالمتعلق هو الفعل وما هو من مقولة الفعل كالصدق والكذب وما أشبه، ولكن هناك قسماً آخر من الانبغاء وهو: انبغاء الاتصاف، كالاتصاف بالكيفية النفسانية المعينة، فهو من مقولة الكيف لا من مقولة الفعل، وذلك كطالب العلم حيث ينبغي ان يتصف بالخوف من الله تعالى، والخوف حالة وكيفية نفسانية، والاتصاف به كيفيةٌ، وعليه فما ينبغي الاتصاف به فإنّ عدمه قبيح.
ولكن قد يقال: بان الاختياري من الاتصاف عائد إلى الفعل، فتأمل.
كما نضيف قسماً آخر من الانبغاء وهو: انبغاء الوجود والعدم؛ فان متعلق الانبغاء هنا هو جوهر الشيء ونفسه، وليس ذلك من مقولة الفعل او الكيف كالاتصاف، ويوضحه ما قيل: من ان الماهيات تطلب بلسان حالها إفاضة الوجود عليها، ويمكن ان نعبر عن ذلك بالانبغاء الذاتي.
وذلك كما أن الله تعالى يلبس المعدومات لباس الوجود، فان من الحسن ان يخلق الله تعالى المخلوقات لاقتضائها بلسان حالها إفاضة الوجود عليها، فاقتضاء الوجود هو ملاك الحسن أيضاً، فهذا هو المعنى الخامس للحسن والقبح مع توسعته، وله تفصيل يترك لمظانه.
وبعبارة جامعة: [6] (الاقتضاء للفعل او الترك واقتضاء الاتصاف وعدمه واقتضاء الوجود وعدمه).
الاقتضاء سابق على الانبغاء
هذا ولكن الأولى: التعبير بما هو سابق رتبة عن الانبغاء وهو الاقتضاء؛ فان الانبغاء متأخر ومتفرع عن الاقتضاء المتقدم؛ إذ الاقتضاء هو الوجه الذي يلي الشيء، والانبغاء – في المقام – هو الوجه الذي يلي الغير.
والمتحصل: ان المعنى الخامس للحسن هو الاقتضاء الذاتي او الشارعي او العقلائي.
المعنى السادس: ما تطابقت عليه آراء العقلاء
المعنى السادس: ما تطابقت على حسنه او قبحه آراء العقلاء، وقد فصلنا الحديث عنه في مباحث الاجتهاد والتقليد.
المعنى السابع: ما تباني العرف العام او الخاص عليه
المعنى السابع للحسن والقبح هو: أنّ ما تبانى العرف العام او الخاص على حسنه فهو حسن وإلا فلا، والقبيح إما ان يكون ضداً له أو نقيضاً، كعالم يلبس لباس الجندي في غير وقت الحرب عبثاً او ما أشبه، فان ذلك من منافيات المروءة، وهذه عرفية، والأعراف تختلف بحسب المكان والزمان، وأما منشأ التباني فقد يكون العادة أو الخلق النفسي أو الانفعال النفساني كالغيرة أو الحمية أو غير ذلك، وليس هذا مجال تحقيق ذلك.
المعنى الثامن: أنّ الحسن والقبح شرعيان
المعنى الثامن هو: ان الحَسَن ما حسّنه الشارع والقبيح بعكسه، وهو ما ذهب اليه الاشاعرة.
المعنى التاسع: الحسن ما لا يستلزم الحرج والقبيح ما استلزمه
المعنى التاسع: وهو ما أشار إليه بعضٌ [7] من: ان القبيح هو ما تضمن او استلزم الحرج، وإلا فهو حسن.
المعنى العاشر: مطابقة بعض العوالم لبعضها الآخر
المعنى العاشر: وهو معنى جديد للحسن والقبح يفتح أبواباً عديدة للبحث وهو: ان الحسن والقبح كثيراً ما يكونان مرتهنين بتطابق العوالم الوجودية الأربعة بعضها مع بعض، وهي عالم الوجود العيني والذهني واللفظي والكتبي، فالحسن هو ما تطابق فيه العالم المتأخر رتبة مع سابقه، وإلا فقبيح. ولنمثل لذلك بمثالين:
إلحاق النسب
الأول: ان ينسب شخص نفسه لغير أبيه أو لغير أمه، فان ذلك قبيح بلا شك، حتى مع فرض انه لا يترتب على ادعائه أية مفسدة خارجية كطمع في ارث او محرمية أو غيرهما، فان المشكلة الوحيدة هنا حينئذٍ: انه في متن الواقع لا يوجد نسب بين المدعي ومن نسب إليه نفسه، ولذا يكون ادعاؤه قبيحاً، وما ذلك الا لعدم تطابق عالم الوجود اللفظي -وهو ادعاؤه- مع عالم الوجود الخارجي، وان شئت فعبّر بـ: عدم تطابق عالم الوجود الاعتباري مع سابقه النفس الأمري أو الخارجي.
الكفر بالله تعالى
الثاني: الكفر بالله تعالى فان من مناشئ قبح الكفر بالله تعالى هو: ان هذا المعتقَد -أي الكفر الذي هو من دائرة عالم الوجود الذهني او مما هو في صقع النفس - لا يطابق الواقع الخارجي، ولذا فهو قبيح، وهذا القبح ثابت بقطع النظر عن المفسدة المترتبة عليه دنيوياً والعقوبة اخروياً.
وقد طرح المتكلمون هذا البحث بصيغة أخرى وهي: انه لو فرض أن الله سبحانه أمرنا بالكفر فهل يكون الكفر حينئذٍ حسناً او قبيحاً [8]؟ وقد ذهب إلى كل فريق، ولكن يمكن ان نطرح رأياً ثالثا وهو:
أنّ هنا وجهين فان القبح الذاتي نظراً لعدم مطابقة العالَمين (المعتقد والواقع)، باق على حاله، ولكن حدث فيه وجهُ حُسنٍ عارض وهو كونه إطاعة لله تعالى، فاندرج في باب التزاحم، والظاهر غلبة الثاني على الأول فيقدم عليه.
بيان المبحث بصورته المعهودة
ويمكن بيان المبحث بصورة أخرى أقرب للمعهود على انها متضمنة في تقسيمنا العام متداخلة معه، وذلك بالقول بان الآراء في الاقتضاء الذاتي للحسن والقبح وعدمه، أربعة وذلك هو محل النزاع بين الأصوليين والفلاسفة والاخباريين والاشاعرة، وهي:
أولا: الاقتضاء الذاتي للحسن والقبح
الرأي الأول: إن الشيء[9] بذاته يقتضي الحسن أو القبح، هذا هو الرأي الذي ذهب إليه جمهرة كبيرة من الأصوليين [10]، وذلك كالعدل فان اقتضاءه للحسن ذاتي وليس موقوفا على لحاظ تطابق آراء العقلاء أو على التطابق نفسه بحيث لولا هذا التطابق أو اللحاظ لما كان العدل حسناً في ذاته، وهذا الرأي باطل بالضرورة وقد ناقشناه مفصلاً في بعض المباحث.
ثانيا: الحسن والقبح لتوافق آراء العقلاء [11] وتطابقها
الرأي الثاني: ان حسن الفعل ليس لذاته وإنما ببركة توافق آراء العقلاء وتطابقهم وتبانيهم عليه، وهذا هو رأي ابن سينا وتبعه على ذلك العلامة المظفر.
ثالثا: الحسن والقبح شرعيان [12]
الرأي الثالث: أن حسن الفعل ليس لذاته ولا بسبب تباني العقلاء عليه، وإنما هو معلول تقبيح الشارع أو تحسينه، وهو رأي الاشاعرة حيث قالوا: (إن الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبحه)، ويفترق هذا عن رأي الفيلسوف بأن الاشعري يرهن الحسن بالشارع، وأمّا الفيلسوف فانه يربط الحسن بتباني العقلاء، والجامع بينهما انه لا واقعية ثبوتية للحسن والقبح وراء اعتبار الشارع أو تطابق آراء العقلاء.
وعليه: فان الشارع لو قال: (إن الكذب حسن) فسيكون كذلك – بحسب الاشعري – ولو قال: (إن الظلم حسن) فسيكون حسناً، وهذا الكلام باطل خلاف البديهة والوجدان والعقل والنقل وكافة الأديان.
رابعا: الشارع كاشف عن الحسن او القبح الذاتي
الرأي الرابع: وهو للاخباريين ولكنه بحقيقته ليس قسيما للآراء الثلاثة المتقدمة [13]، حيث إنّ أصحابها يذعنون بكون الحسن والقبح ذاتيين لكنهم يقولون: (إن عقلنا لا طريق له إلى اكتشاف حسن الشيء او قبحه الا عن طريق الشارع؛ وذلك أنّ العقل قاصر عن الإحاطة بكل الجهات.
إذاً فإنّ الاخباري يقبل الحسن والقبح الثبوتيين، لكنه يقول بأنّ الطريق إثباتا منحصرٌ بالشارع.
-------------------------------------------------------------------
* مقتطف من كتاب فقه المكاسب المحرمة حرمة الكذب ومستثنياته، يراجع دروس المكاسب المحرمة رقم الدرس 134-135
18 محرم الحرام 1438هـ