67- تتمة الاقسام الاربع - الثمرة فيها - تعاكس الثبوت والاثبات - انتزاعية الصحة والفساد
الاربعاء 11 جمادي الاخر 1439هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(67)
الثمرة على الأقوال الأربعة:
وأما الثمرة فتظهر على الأقوال الأربعة:
1- لا استصحاب فيها، بناءً على ان الأحكام الوضعية انتزاعية
فانه إن صرنا إلى ان الأحكام الوضعية، ما هي إلا أحكام انتزاعية أو انه لا يوجد غير الحكم التكليفي وهي إنما هي مجرد تعبير عنه، فلا يصح استصحابها، على كلام سيأتي، إلا باستصحاب منشأ انتزاعها فهو المدار، هذا أولاً.
2- ولا تزاحم بينها
ثم انها لا تدخل في باب التزاحم؛ وذلك لأنها لا ملاكات فيها بل في مناشئ انتزاعها فهي التي يقع بينها التزاحم، إضافة إلى انها ليست مجعولة وليس وجودها وعدمها بما هي هي بيد المكلف فلا يعقل إجراء أحكام التزاحم بينها من ترجيح الأهم منها مثلاً على المهم أو التخيير لدى التساوي إذ ليس الملاك فيها، كما سبق، ليكون بعضها أهم أو مساوياً كما ليست اختيارية ليخاطب المكلف بترجيح هذا على ذاك أو التخيير بينهما فانها توجد بمناشئ انتزاعها فإن وجدت مناشئها وجدت هي قهراً وإن عدمت عدمت قهراً فلا يعقل تخيير المكلف بينها أو أمره بترجيح احدها بما هي هي إلا، وكما سبق، بإرجاعه إلى الترجيح أو التخيير بين مناشئها.
واما على اعتباريتها فتُستصحب
واما إذا قلنا انها اعتبارية فيمكن استصحابها لكونها أموراً وجودية مجعولة، فيصح استصحاب عدمها أو وجودها إن كانت له حالة سابقة، بل حتى من يقول بعدم صحة استصحاب العدم الأزلي لعدم عقلائيته فان له مخرجاً وهو استصحاب عدم الأحكام في أول زمن التشريع، أي منذ حين بعثته صلى الله عليه واله وسلم لبداهة تدرجية نزول الأحكام طوال ثلاث وعشرين سنة وان جُلّ الأحكام بل شبه المستوعب منها لم تكن مجعولة لحظة البعثة، فيستصحب عدم كل ما شك في جعله من الأحكام التكليفية والوضعية (الاعتبارية) بل حتى الإمضاء للاعتبارات العقلائية فانه غير محرز لحظة البعثة بل انه أحرز بعدها. فتدبر
وتندرج في باب التزاحم
كما انها بناء على اعتباريتها تندرج في باب التزاحم وذلك لقيام ملاكاتها بها فلا يتوهم انها حيث كانت اعتبارية فلا مصلحة أو مفسدة فيها ولا ملاك لها؛ لوضوح ان في اعتبار الملكية والزوجية والقضاوة وغيرها مصلحة ملزمة أوجبت اعتبارها وكذا في اعتبار الملكية بالسرقة مثلاً مفسدة اقتضت عدم اعتبارها فان السرقة لها مفسدة كما هو واضح فإذا اعتبر الشارع حصول الملكية بها كانت مفسدة ثانية أيضاً.
والحاصل: ان الاعتباريات إذا كان مجعولة – كما هي كذلك - فلا بد، في الحكمة، أن تتبع في جعلها وعدمه المصلحة والمفسدة.
وكذلك الأمر بناءً على كونها واقعية
بل اننا إذا قلنا بان الأحكام الوضعية أمور واقعية محضة، كما هو مقتضى الشق الثاني من ترديد الشيخ، أو هي أمور واقعية – جعلية أي هي واقعية تكوينية في اقتضائها وجعلية في فعليتها، كما سبق بيانه، فان الثمرات متحققة: أما الاستصحاب فواضح لجريانه في الموضوعات والأمور التكوينية إما لترتيب لوازمها الشرعية عليها فقط – وهي ثمرة كافية – واما لترتيب الأعم منها ومن اللوازم العادية والعقلية على المختار نظراً لشمول بناء العقلاء وسيرتهم لذلك بل هو موردها الأول ولشمول الإطلاقات له، ولا يرد على ذلك ما أوردوه عليه كما فصلناه في محله.
واما التزاحم فواضح أيضاً: إذ التزاحم إما في الملاكات أو في الأحكام، والتزاحم الملاكي جارٍ على كلا القولين (العِلّية والاقتضاء).
فتحصل انه على كل الأقوال، إلا القول بالانتزاعية، تترتب الثمرات الأصولية وسيأتي تحصيل وتفصيل ذلك والنقاش حوله بإذن الله تعالى.
توافق الحكمين التكليفي والوضعي وتعاكسهما
ثم إن الحكم الوضعي مع الحكم التكليفي قد يتوافقان ثبوتاً وإثباتاً وقد يتعاكسان:
فمن الثاني: ما لو قال: (إذا كسرت زجاج الغير فادفع له ثمنه) فانه يكشف، بناء على مغايرة الحكمين الوضعي والتكليفي وتعددهما، عن سبق حكم الشارع بضمانه فقوله: (ادفع له) يفيد: لأنك (ضامن) من قبلُ رتبةً، فقد انتقلنا من المسبب (الحكم بوجوب الدفع) إلى السبب (الحكم بالضمان) قبله.
ومن الأول ما لو قال: (إذا كسرت زجاجة فانت ضامن) فانه يلزمه (فيجب ان تدفع الثمن).
ثم انه يؤكد ردّ مبنى الشيخ من تبعية الوضعية للتكليفية بل انتزاعها منه ان المديون للغير، باقتراض أو بكسر أو شبه ذلك، ضامن وإن لم يترتب عليه وجوب الدفع نظراً لعجزه مثلاً فهنا حكم وضعي بدون تكليفي فتأمل([1]) ولعله يأتي.
الشيخ: الصحة والفساد غير مجعولين
ثم ان الشيخ تحقيقاً لمبناه العام من انتزاعية الأحكام الوضعية، تناول مختلف أنواعها: أما السببية واخوانها فكما مضى الكلام عنها، وبقي كلامه عن الصحة والفساد فلننقل كلامه ثم لنرى هل هو تام ههنا أم انه مناقش فيه:
قال قدس سره: (هذا كله في السبب والشرط والمانع والجزء.
وأما الصحة والفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتي به للفعل المأمور به ومخالفته له، ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة - ليستا بجعل جاعل، وأما في المعاملات، فهما: ترتب الأثر عليها وعدمه، فمرجع ذلك إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك)([2]).
أقول: الشيخ فسر الصحة والفساد في العبادات والمعاملات بما رأيت، ولكن كان الأولى التطرق لمختلف المباني والتعريفات لها وإثبات الانتزاعية أو عدمها، عليها جميعاً، لا الاقتصار على مختاره مبنىً فقط وأخذ الثمرة من كونها غير مجعولة، بناء عليه، وسيأتي تحقيق ذلك بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام علي عليه السلام: ((الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّه))
نهج البلاغة: ص483.
---------------------------------------
([1]) إذ قد يقال: ان التكليفي هو وجوب السعي، فيجاب وماذا عن العاجز أبداً (أي المحرز ذلك) وعن المجنون والنائم؟ وقد يجاب: بان العاجز تنتقل عهدته إلى بيت المال، وبان وجوب السعي عليهما تعليقي وفيه: ان الضمان أي كونه في ذمته تنجيزي فإذا كان الوجوب تعليقياً فقد إنفكّا. فتأمل ولعله يأتي مزيد كلام حوله.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد: وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم - قم: مجمع الفكر الإسلامي، ج3 ص129.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مباحث التزاحم
(67)
الثمرة على الأقوال الأربعة:
وأما الثمرة فتظهر على الأقوال الأربعة:
فانه إن صرنا إلى ان الأحكام الوضعية، ما هي إلا أحكام انتزاعية أو انه لا يوجد غير الحكم التكليفي وهي إنما هي مجرد تعبير عنه، فلا يصح استصحابها، على كلام سيأتي، إلا باستصحاب منشأ انتزاعها فهو المدار، هذا أولاً.
ثم انها لا تدخل في باب التزاحم؛ وذلك لأنها لا ملاكات فيها بل في مناشئ انتزاعها فهي التي يقع بينها التزاحم، إضافة إلى انها ليست مجعولة وليس وجودها وعدمها بما هي هي بيد المكلف فلا يعقل إجراء أحكام التزاحم بينها من ترجيح الأهم منها مثلاً على المهم أو التخيير لدى التساوي إذ ليس الملاك فيها، كما سبق، ليكون بعضها أهم أو مساوياً كما ليست اختيارية ليخاطب المكلف بترجيح هذا على ذاك أو التخيير بينهما فانها توجد بمناشئ انتزاعها فإن وجدت مناشئها وجدت هي قهراً وإن عدمت عدمت قهراً فلا يعقل تخيير المكلف بينها أو أمره بترجيح احدها بما هي هي إلا، وكما سبق، بإرجاعه إلى الترجيح أو التخيير بين مناشئها.
واما إذا قلنا انها اعتبارية فيمكن استصحابها لكونها أموراً وجودية مجعولة، فيصح استصحاب عدمها أو وجودها إن كانت له حالة سابقة، بل حتى من يقول بعدم صحة استصحاب العدم الأزلي لعدم عقلائيته فان له مخرجاً وهو استصحاب عدم الأحكام في أول زمن التشريع، أي منذ حين بعثته صلى الله عليه واله وسلم لبداهة تدرجية نزول الأحكام طوال ثلاث وعشرين سنة وان جُلّ الأحكام بل شبه المستوعب منها لم تكن مجعولة لحظة البعثة، فيستصحب عدم كل ما شك في جعله من الأحكام التكليفية والوضعية (الاعتبارية) بل حتى الإمضاء للاعتبارات العقلائية فانه غير محرز لحظة البعثة بل انه أحرز بعدها. فتدبر
كما انها بناء على اعتباريتها تندرج في باب التزاحم وذلك لقيام ملاكاتها بها فلا يتوهم انها حيث كانت اعتبارية فلا مصلحة أو مفسدة فيها ولا ملاك لها؛ لوضوح ان في اعتبار الملكية والزوجية والقضاوة وغيرها مصلحة ملزمة أوجبت اعتبارها وكذا في اعتبار الملكية بالسرقة مثلاً مفسدة اقتضت عدم اعتبارها فان السرقة لها مفسدة كما هو واضح فإذا اعتبر الشارع حصول الملكية بها كانت مفسدة ثانية أيضاً.
والحاصل: ان الاعتباريات إذا كان مجعولة – كما هي كذلك - فلا بد، في الحكمة، أن تتبع في جعلها وعدمه المصلحة والمفسدة.
بل اننا إذا قلنا بان الأحكام الوضعية أمور واقعية محضة، كما هو مقتضى الشق الثاني من ترديد الشيخ، أو هي أمور واقعية – جعلية أي هي واقعية تكوينية في اقتضائها وجعلية في فعليتها، كما سبق بيانه، فان الثمرات متحققة: أما الاستصحاب فواضح لجريانه في الموضوعات والأمور التكوينية إما لترتيب لوازمها الشرعية عليها فقط – وهي ثمرة كافية – واما لترتيب الأعم منها ومن اللوازم العادية والعقلية على المختار نظراً لشمول بناء العقلاء وسيرتهم لذلك بل هو موردها الأول ولشمول الإطلاقات له، ولا يرد على ذلك ما أوردوه عليه كما فصلناه في محله.
واما التزاحم فواضح أيضاً: إذ التزاحم إما في الملاكات أو في الأحكام، والتزاحم الملاكي جارٍ على كلا القولين (العِلّية والاقتضاء).
فتحصل انه على كل الأقوال، إلا القول بالانتزاعية، تترتب الثمرات الأصولية وسيأتي تحصيل وتفصيل ذلك والنقاش حوله بإذن الله تعالى.
ثم إن الحكم الوضعي مع الحكم التكليفي قد يتوافقان ثبوتاً وإثباتاً وقد يتعاكسان:
فمن الثاني: ما لو قال: (إذا كسرت زجاج الغير فادفع له ثمنه) فانه يكشف، بناء على مغايرة الحكمين الوضعي والتكليفي وتعددهما، عن سبق حكم الشارع بضمانه فقوله: (ادفع له) يفيد: لأنك (ضامن) من قبلُ رتبةً، فقد انتقلنا من المسبب (الحكم بوجوب الدفع) إلى السبب (الحكم بالضمان) قبله.
ومن الأول ما لو قال: (إذا كسرت زجاجة فانت ضامن) فانه يلزمه (فيجب ان تدفع الثمن).
ثم انه يؤكد ردّ مبنى الشيخ من تبعية الوضعية للتكليفية بل انتزاعها منه ان المديون للغير، باقتراض أو بكسر أو شبه ذلك، ضامن وإن لم يترتب عليه وجوب الدفع نظراً لعجزه مثلاً فهنا حكم وضعي بدون تكليفي فتأمل([1]) ولعله يأتي.
ثم ان الشيخ تحقيقاً لمبناه العام من انتزاعية الأحكام الوضعية، تناول مختلف أنواعها: أما السببية واخوانها فكما مضى الكلام عنها، وبقي كلامه عن الصحة والفساد فلننقل كلامه ثم لنرى هل هو تام ههنا أم انه مناقش فيه:
قال قدس سره: (هذا كله في السبب والشرط والمانع والجزء.
وأما الصحة والفساد، فهما في العبادات: موافقة الفعل المأتي به للفعل المأمور به ومخالفته له، ومن المعلوم أن هاتين - الموافقة والمخالفة - ليستا بجعل جاعل، وأما في المعاملات، فهما: ترتب الأثر عليها وعدمه، فمرجع ذلك إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك)([2]).
أقول: الشيخ فسر الصحة والفساد في العبادات والمعاملات بما رأيت، ولكن كان الأولى التطرق لمختلف المباني والتعريفات لها وإثبات الانتزاعية أو عدمها، عليها جميعاً، لا الاقتصار على مختاره مبنىً فقط وأخذ الثمرة من كونها غير مجعولة، بناء عليه، وسيأتي تحقيق ذلك بإذن الله تعالى.
قال الإمام علي عليه السلام: ((الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّه))
نهج البلاغة: ص483.
([1]) إذ قد يقال: ان التكليفي هو وجوب السعي، فيجاب وماذا عن العاجز أبداً (أي المحرز ذلك) وعن المجنون والنائم؟ وقد يجاب: بان العاجز تنتقل عهدته إلى بيت المال، وبان وجوب السعي عليهما تعليقي وفيه: ان الضمان أي كونه في ذمته تنجيزي فإذا كان الوجوب تعليقياً فقد إنفكّا. فتأمل ولعله يأتي مزيد كلام حوله.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، إعداد: وتحقيق لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم - قم: مجمع الفكر الإسلامي، ج3 ص129.